كيفية التعامل مع أزمة وجودية

هل أنت منهك من السعي في الحياة والقيام بالأشياء الرتيبة نفسها بشكل متكرر؟ أصبحت الأشياء التي كانت ذات أهمية سابقاً تافهةً الآن، وتلاشى شغفك. هل تشعر أنَّ الأمور الممتعة تمرُّ بسرعة وبطريقة مخيبة للآمال؟ وأنَّ حياتك مملة يتخللها بعض اللحظات الجميلة العابرة؟ ربما تشعر أنَّك وحيد أو بالشوق لشخص عزيز أو تشعر بالفراغ والضياع في العالم أو بالملل والحرمان من النوم.



ربما ما تزال تبحث عن سبب للعيش، أو لديك الكثير من الأسباب المشوشة أو نسيت ما هي هذه الأسباب؛ إذا كان الحال كذلك، فأنت تعاني من أزمة وجودية. في بعض الأحيان، تراودك أسئلة مثل: "لماذا أنا هنا؟" و"لماذا تحصل معي هذه الأمور؟"، ولكن في بعض الأحيان تشعر بأنَّ هذه الأسئلة تُكبِّل كيانك بالكامل.

أياً كان الشكل الذي تتخذه أزمتك الوجودية، فإنَّ المشكلة، كما رآها الفيلسوف الدنماركي سورين كيركغور (Søren Kierkegaard) عام 1813؛ هي أنَّ العيش من دون شغف يعني عدم الوجود على الإطلاق؛ وهذا أمر سيئ لنا جميعاً لأنَّه من دون شغف، سوف تنتشر الطاقة السلبية وسيتضرر العالم.

يعتقد "كيركغور" أنَّ أحد جذور هذه المشكلة اختفاء الشغف من العالم، وأنَّ الكثير من الناس هاربون من واقع المجتمع الذي يبالغ في التأكيد على الموضوعية والنتائج؛ كالأرباح والإنتاجية والكفاءة، على حساب الخبرات البشرية الشخصية والعاطفية والذاتية.

كتب "كيركغور" في يومياته: "ما أحتاجه حقاً هو أن أكون واضحاً بشأن ما أريد أن أفعله، وليس ما يجب أن أعرفه. الغاية هي العثور على القناعة المناسبة بالنسبة إليَّ، للعثور على الغاية التي أنا على استعداد للعيش والموت من أجلها".

والعثور على هذه الحقيقة وهذا الشغف، كان ما اعتقده "كيركغور" أنَّه يمكن أن يوحد الوجود، ويتغلب على الكآبة، ويساعدك على أن تصبح أكثر كمالاً. وكان لدى "كيركغور" بعض الأفكار حول كيفية استثمار هذه المعاناة، التي نراها على أنَّها أزمة وجودية.

وقراءة كتابات "كيركغور" لن تحل بالضرورة جميع مشكلاتك؛ ولكنَّها يمكن أن تساعدك على فهم بعض أسباب شعورك بالضيق ورؤية احتمالات جديدة لحياتك. وفي بعض الأحيان، يُطلَق على "كيركغور" لقب الفيلسوف الوجودي الأول؛ بسبب تركيزه على التجربة الفردية والذاتية.

يؤكد الفلاسفة الوجوديون على حرية الاختيار والشعور بالمسؤولية تجاه عواقب اختياراتك، وبالتأكيد وجد أحد الفلاسفة الوجوديين الجوهريين، مثل "جان بول سارتر" (Jean-Paul Sartre) (1905-1980)، هذا المنطلق من التفكير في كتابات "كيركغور".

فبالنسبة إلى الفلاسفة الوجوديين، الأمر متروك لك لتحديد نوع الشخص الذي تريد أن تكونه وكيف تعيش حياتك بشكل هادف؛ ولكنَّ هذه الخيارات تخلف اليأس بسبب الضغط الناتج عندما تدرك أنَّك حر ومسؤول وليس لديك أي شخص آخر لتلومه، ولا أعذار لسلوكك. وكتب "كيركغور" أنَّ القلق أو اليأس هو "تشويش الحرية".

فاليأس هو نوع من التشويش الذي نشعر به عندما نضيع في الاحتمالات والاختيارات. ووصفه "كيركغور" بأنَّه شعور مماثل للوقوف على حافة الهاوية. فقد تكون خائفاً من السقوط؛ ولكنَّك قد تقلق عندما تدرك أنَّ القفز يُعَدُّ خياراً.

نحن مجبرون على اتخاذ الخيارات طوال الوقت، سواء أحببنا ذلك أم لا. مثل اختيار معجون الأسنان المناسب لك، فهناك العديد من الأنواع ومن الصعب اختيار النوع الأفضل لأسنانك. فهل تريد تبييضها أم إزالة البقع عنها؟ أم حمايتها من التسوس والترسبات أم ترميم المينا؟ وما هو الفرق؟ ولماذا لا يوجد معجون مناسب لكل هذه المشكلات؟

من الصعب معرفة نتيجة اختيار أحدها دون الآخر. وفي حين أنَّ اختيار معجون الأسنان الخاطئ ربما لن يدمر حياتك، ولكن عندما تواجه خيارات أكثر عمقاً مثل: ماذا ستدرس في الجامعة؟ ومن ستتزوج؟ وما إذا كنت تريد إنهاء علاقة؟ وما هي المهنة التي تريد أن تعمل بها؟ وما إذا كنت ستحاول إنقاذ شخص ما يغرق؟ وما إذا كان يجب عليك المُضي في علاج شخصٍ عزيزٍ عليك ميؤوس من علاجه؟

فكلما كان القرار أصعب، ازداد الشعور بالحيرة حول الاحتمالات والمسؤوليات. وأحياناً تقوم بتجاهل خياراتك، ولكن بمجرد أن تدركها، يصبح شعورك بالحيرة أمراً لا مفر منه. وكما كتب "كيركغور" في كتابه "مفهوم القلق" (The Concept of Anxiety) عام 1844: "مَن نظر إلى الهاوية الواسعة يصاب بالدوار، ولكن ما هو سبب ذلك؟ إنَّ الأمر بالنسبة إليه كأنَّه ينظر لنفسه على أنَّه واقع في هذه الهاوية؛ لذلك فلنفترض أنَّه لم ينظر إلى الأسفل".

في بعض الأحيان، يكون تشويش حريتك مُربِكاً لدرجة أنَّك قد تشعر بأنَّك مضطر للتراجع، والابتعاد عن هذا الاختيار، وعدم اتخاذ أي خيار، أو السماح لشخص آخر بالاختيار عوضاً عنك؛ وذلك يمكن أن يكون أسهل. كما أنَّه كلما زادت المخاطر، أصبحت الهاوية عميقة، وزاد احتمال السقوط إذا أخطأت.

ولكن نموك الشخصي يعتمد على قدرتك على التعامل مع الخيارات الكبيرة بنفسك وعدم التهرب منها. وبالنسبة إلى "كيركغور"، فإنَّ مواجهة اختياراتنا بشجاعة وتعلُّم توجيه قلقنا بطرائق بنَّاءة أمر هام جداً، وقال: "كل من تعلَّم القلق بالطريقة الصحيحة قد تعلَّم الهدف الأسمى".

وخلال حياته، أثار "كيركغور" قلق السلطات لأنَّه كان متمرِّداً؛ إذ كان يشجع الناس على التفكير بأنفسهم. ولقد حث القراء على التحرر من غسيل الدماغ الذي تتسبب به الجماعات المجتمعية التي تبشر بما يجب القيام به وما يجب أن يُؤمن به، ولا سيما "الكنيسة اللوثرية" (Lutheran Church) في "الدنمارك" (Denmark)، التي كان يخالفها طوال حياته اللاحقة.

لو كان "كيركغور" حيَّاً اليوم، لشعر بشكٍّ شديدٍ ربما تجاه وسائل التواصل الاجتماعي، وإعلانات اليوم التي تخبرنا أين ننفق أموالنا ووقتنا؛ وذلك بهدف السعي وراء السعادة الوهمية. وفي نقدٍ يبدو أنَّه استشرف فيه وجود أشخاصٍ يمارسون التنمر عبر الإنترنت، ذَكَر "كيركغور" أنَّ الجمهور "غير واقعي" لأنَّه يمكِّن الناس من أن يكونوا مجهولين وغير مسؤولين وجبناء، ويخلق جواً غير شخصي.

لقد كان "كيركغور" شخصاً متمرداً، كما قال الفيلسوف "غاري كوكس" (Gary Cox)؛ لأنَّ "كيركغور" شجع الناس على تطوير علاقة شخصية مع الله بدلاً من القناعة بما يوجهه رجال الدين بطريقة غير منطقية.

وبالنسبة إلى "كيركغور"، فإنَّ عيش الحقيقة بلا حدود أكثر أهمية من معرفتها بموضوعية. وفي جنازة "كيركغور"، قال رئيس الشمامسة الذي ألقى التأبين للحشد الكبير ألا يسيؤوا فهم ما كتبه "كيركغور" أو أن يقبلوه لأنَّه بالغ كثيراً في كتاباته ولم يعرف ذلك.

لكنَّك لست بحاجة إلى أن تكون متديناً لاستنباط الحكمة العملية من عمل "كيركغور". فلقد ألهم العديد من الفلاسفة الملحدين؛ مثل "سارتر"، كما ذكرت، الذي كان معجباً بشدة بـ "كيركغور"، ووصفه بأنَّه "مناهض للفلاسفة" لأنَّه سعى في "بداياته الأولى" إلى رفض الفلسفات المملة والمجردة، مثل نظريات الفيلسوفين الألمانيين "جورج فيلهلم فريدريش هيغل" (Georg Wilhelm Friedrich Hegel) و"إيمانويل كانت" (Immanuel Kant)، التي كانت شائعة جداً خلال فترة "كيركغور".

كتب "كيركغور" بطرائق غير تقليدية. فلقد كان بارعاً وابتكر أسماء مستعارة غريبة مثل "هيليريوس بوك بايندر" Hilarius) Bookbinder). كما كان اسمه مستعاراً، ليس لأنَّه أراد إخفاء هويته؛ بل ليدفعنا للتساؤل عن الأفكار التي يقدمها، وليحملنا مسؤولية تفسير معنى النص؛ وذلك لإلهامنا للوصول إلى استنتاجاتنا الخاصة ولخلق حقائقنا الذاتية. وتسمى هذه الاستراتيجية "التواصل غير المباشر".

كان تأثير عمل "كيركغور" هو أنَّه بدلاً من فرض الرأي والأخلاق، فإنَّه يستفز القارئ؛ لأنَّه لا يمكنك معرفة ما إذا كان جاداً أم لا، ويدعو القراء إلى فهم أفكار النص بالطريقة التي تناسبهم؛ إذ يستعمل "كيركغور" التواصل غير المباشر في واحدة من أشهر أعماله كتاب "إما/ أو" (Either/ Or) عام 1843؛ وهو مجموعة خيالية من الرسائل والمقالات كتبتها شخصيات مختلفة وتقدم وجهات نظر مختلفة: جمالية وأخلاقية ودينية.

توفر هذه الآراء أو المراحل الثلاث إطاراً محتملاً لكيفية تحمُّل أزمة وجودية والتغلب عليها. والمراحل ليست خطوات جامدة؛ بل تقدم ركائز من التجارب الممكنة في رحلة وجودية لتنشيط شغفنا بالحياة.

استمتع بالأشياء الجميلة في حياتك:

اقترح "كيركغور" أنَّ النمط الأول للعيش هو النمط الجمالي. ونمط الحياة الجمالي ممتع وحيوي، ويركز على الإشباع الحسي، ومثل طفل يكتشف العالم برهبة واندهاش، فالنمط الجمالي هو مرحلة جميلة من الحياة، إنَّها عاطفية ومليئة بالإمكانات.

التجارب مثل الحب أو الاستمتاع بحفلة موسيقية أو الشعور بالفرح خلال مشاركة مشروب لذيذ أو وجبة مع صديق مقرب، يمكن أن تكون مفيدة، ومثيرة للاهتمام بشكل غير عادي، وتجعلك تشعر بأنَّ حياتك تتغير إذا أفسحت لها المجال. كالشخصية الخيالية "دون جيوفاني" (Don Giovanni) بطل أوبرا الموسيقي النمساوي الشهير "موتسارت" (Mozart).

"دون جيوفاني" (1787)، ويُعرَف أحياناً أيضاً باسم "دون جوان" (Don Juan)، وكما اقترح "كيركغور"، يُوصَف بأنَّه وسيم وجذاب، وقد كان طيلة حياته يبحث عن طرائق للاستمتاع بحياته. فكيف يمكنك أن تعيش حياةً ممتعة؟

عليك أن تجعل حياتك ممتعة قدر الإمكان؛ وبمعنى آخر، إذا مللت من حياتك، فلا تخشَ أن تترك وراءك أي شيء يسبب لك هذه المشاعر، وابدأ بالتخطيط لمشاريع جديدة وعلاقات جديدة تنشطك، وكن مندفعاً، وعش اللحظة واسعَ إلى الاستمتاع بوقتك كالذهاب إلى المسرح وحضور نصف العرض فقط أو قراءة مقطع عشوائي من أي كتاب.

عليك أن تستمتع بالتجارب بطرائق عشوائية ومختلفة عما يقوم به الآخرون بطرائق بديهية، وتذكَّر الأشياء التي كنت تستمتع بها سابقاً، وقم بها، وتدرب على نسيان الكراهية من خلال التركيز على الجوانب الإيجابية لمشكلاتك، واستغل وقتك بأفضل طريقة ممكنة.

شاهد: 7 طرق بسيطة لجعل الحياة أكثر بساطة

حدد التزامات وجودية لتعيش بشكل أخلاقي:

يمكن أن يكون السعي إلى الجماليات تخريباً ذاتياً؛ وذلك لأنَّه، كما كتب "كيركغور" باسم مستعار: "كما هو الحال عندما يرمي المرء حجراً فوق سطح الماء، فإنَّه يقفز برفق لبعض الوقت، ولكن بمجرد أن يتوقف عن القفز، يغوص على الفور في الأعماق، وهكذا تستمتع شخصية "دون جيوفاني"، ولكن لفترة قليلة".

إنَّه لقي جزاء أفعاله في النهاية؛ والسبب هو أنَّ نمط الحياة الجمالي يتطلب ثمناً باهظاً؛ إذ يمكن أن يكون نمط الحياة الجمالي مصدراً لليأس الوجودي عندما تصبح مفرطاً في الاعتماد على عوامل تشتيت الانتباه لملء الفراغات في حياتك. ويُعَدُّ النمط الجمالي خطيراً عندما تعيش في حالة إشباع فوري؛ إذ تفرط باستمرار في وسائل التسلية مثل تصفح وسائل التواصل الاجتماعي أو التسوق أو التلفزيون أو الانشغال.

وعند نقطة معينة، تتوقف هذه النشاطات عن توفير المتعة التي تعد بها، وتشعر بالكآبة. إنَّ الانغماس في مثل هذه الإلهاءات يرسخ الشعور بالغربة بشكل أعمق، ويدفعك بشكل مباشر إلى التعاسة. وبمجرد أن ترضي رغبة فسوف تبحث عن رغبة أخرى لإرضائها. وفي بعض الأحيان، تكون متحمساً للغاية بشأن المخاطرة في احتمالات جديدة؛ لذلك تبدأ مشاريع وعلاقات جديدة، بحيث تتنقل باستمرار من واحد إلى آخر، ولا تنهي أي شيء أبداً.

فأنت تتحرك باستمرار، أنت مثل موجة المحيط، ترتفع بقوة، بشكل متكرر، مع طاقة ضائعة؛ ولكنَّ الأمواج تتلاشى إلى أجل غير مسمى. فإذا كنت تخوض حياتك باستمرار وتبقى منشغلاً، فإنَّ وجودك يصل إلى عدد من اللحظات دون أي تماسك حقيقي. والإثارة تتلاشى وتترك في أعقابها خيبة أمل ووحدة.

يسبب النمط الجمالي برأي "كيركغور" هذا الملل المحطم للروح واليأس المعذب لدرجة أنَّه مخدر. ولأنَّه لا يعيش الحياة حقاً، فهو يعيش كما لو كان ميتاً. فإنَّ العيش خالياً من العاطفة يجعله يشعر بأنَّه مقيد بالسلاسل بسبب مخاوفه ومثل عنكبوت يتأرجح ويتمايل، غير قادر على الإمساك بأي شيء.

لذا، إذا كان العيش في النمط الجمالي لا يمكن أن يكون سوى حل قصير الأمد لأزمة وجودية، فكيف يمكنك تجاوز ذلك والعيش بشكل أخلاقي؟ تمهل وافعل ما في وسعك للتفكير والتوقف عن استعمال النشاطات الجمالية لإلهائك عن مواجهة أزمتك الوجودية.

يقول "كيركغور" إنَّ اليأس هو ثمن الانتقال من النمط الجمالي إلى النمط الأخلاقي. إنَّ تعلُّم حب اليأس هو مغامرة في الانتقال إلى وضع أعلى من التنمية الذاتية، فلا تختبئ من أزمتك الوجودية لأنَّ اختيارك لليأس يعني اختيارك لنفسك.

إنَّ الشعور بالراحة تجاه يأسك هو اختيار عدم الخضوع لدوافعك الشخصية والجمالية، ونحو أن تصبح فرداً ثابتاً وراسخاً. واختيار نفسك يعني القيام بالتزامات ذات مغزى؛ مثل تكريس نفسك لمهنة؛ ويعني تحديد الأهداف والالتزام بها. وعدم الالتزام يعني أنَّك بسهولة غير ثابت وتخدع نفسك، ولا تعيش حقاً، وخالٍ من الجوهر مثل تلك الموجات.

واختيار اليأس يعني أيضاً اختيار البشرية. وفي الوضع الأخلاقي، أنت تدرك أنَّك تعيش في عالم مع أشخاص آخرين، وأنَّهم هامون، وأنَّ كل خيار تتخذه يجب أن يعكس مسؤولية تجاههم. فأنت تتصرف بأمانة وطيبة وتفهُّم وكرم. وأنت تركز أكثر على ما يمكنك تقديمه للآخرين وبدرجة أقل على ما تحصل عليه منهم.

ولتنمية إنسانيتك، اذهب لمشاهدة الناس لمدة ساعة وفكر في جمال كل فرد. إنَّك تقدر كل شخص تقابله في خصوصيته؛ مهامه وتحدياته وانتصاراته. فاندمج بالمجتمع، وقم ببناء مجتمع من الأصدقاء، وتبنَّ أسلوباً خيرياً أكثر، وساعد الناس، والتزم بجعل العالم أفضل للآخرين.

إنَّ اختيار هذا النوع من اليأس يشجعك على الالتزام بالتقاليد والزواج؛ إذ يعكس الزواج - من الناحية المثالية من حبك الأول، في تحليل "كيركغور" - قراراً أخلاقياً لأنَّ الزواج خيار جاد ونهائي وسيغير حياتك.

يتطلب الزواج وعياً أكثر تطوراً؛ لكنَّ مفهوم "كيركغور" الأخلاقي يقترح أنَّ الزواج يساعد الناس على التعامل مع الحب بجدية أكبر من محبي النمط الجمالي، من خلال التركيز على إنشاء علاقة مستقرة وثابتة. ففي النمط الأخلاقي، تقوم بتجديد الحب مع شريكك دائماً، بدلاً من الانتقال إلى العلاقة التالية من أجل الإثارة وتعزيز الثقة بمجرد أن تصبح علاقتك الأولى صعبة.

عليك مواجهة مشكلاتك الوجودية بشجاعة لأنَّه، كما اقترح "كيركغور": "القلق هو العنصر الذي يسيطر الشخص من خلاله على الحزن ويستوعبه، وفي الواقع يمكن القول إنَّه فقط عندما يكابد المرء المآسي يصبح سعيداً".

والمفتاح إلى النمط الأخلاقي هو استعمال يأسك لتحفيزك على التغلب على مشاعرك المؤلمة المؤسفة وتجديد حماستك للعيش والرغبة بشيء أكثر أهمية في حياتك. فأنت تطور نفسك من خلال التحلي بالصبر على الوجود ورؤية الجمال في الاستقرار والاعتراف بأنَّك مصدر السعادة والإبداع الخاص بك.

فإنَّك لا تحتاج إلى البحث عن الإثارة باستمرار من المحفزات الخارجية الجديدة كما في النمط الجمالي، ولست بحاجة إلى حلبة رقص للرقص والاستمتاع بالحياة؛ إذ تصبح حلبة الرقص بداخلك أينما كنت. فإنَّك تغذي الموقف الأخلاقي من خلال الرغبة في العيش، وليس بعشوائية، مثل النمط الجمالي، والعيش كل يوم كما لو كان آخر يوم في حياتك.

التحلي الإيمان:

يمكن للنمط الأخلاقي أن يساعد في استقرارك؛ لكنَّه ليس كافياً لحل أزمتك الوجودية. فقد يكون العيش بطريقة أخلاقية مصدراً آخر للمشكلات الوجودية لأنَّ الوفاء بواجباتك الاجتماعية قد يكون مرهقاً؛ إذ يقول المنطق الأخلاقي لـ "كيركغور" عن واجب الزواج: "نمطه المتكرر، وهدوءه التام، وفراغه المستمر هو الموت وأسوأ من الموت".

إنَّ الزواج لا يجعل الحب دائماً، فالناس يتغيرون وينقضون الوعود؛ وهذا يجعل أي التزام غير مضمون. وبالنظر إلى عدد الأشخاص الآخرين غير العادلين وغير الأخلاقيين، فإنَّ كونك أخلاقياً قد يؤدي أيضاً إلى زيادة اليأس. والغرق بشدة في التفكير يمكن أن يهدد استمتاعك بالحياة.

الطريقة الوحيدة لقهر أزمة وجودية هي "القفزة"؛ والقفزة هي ما يسميه "كيركغور" "التعمُّق الداخلي"؛ الذي يعني إدراك أنَّ العالم غير مؤكد، ولكن يمكنك اتخاذ قرار جريء بشأن نوع الحياة التي تريد أن تعيشها.

والقفزة تتجاوز نطاق المشاعر (النمط الجمالي) والالتزامات (النمط الأخلاقي). فالقفزة هي الإرادة لتغيير حياتك؛ إذ إنَّها قرار تصميم وجود يمكنك تكريس نفسك له بحماسة، الذي سيرفع من كيانك ويحافظ عليه. وتتبع القفزة التي يتحدث عنها "كيركغور" وصية "أحب جارك" الواردة في الإنجيل.

وفي كتاب "أعمال الحب" (Works of Love) عام (1847)، الذي استعمل "كيركغور" فيه اسمه الحقيقي كمؤلف، يقترح أنَّ الحب العالمي، أو المصطلح اليوناني الذي يشير إلى الحب غير المشروط "آغابي" (agapē)؛ هو سر السعادة لأنَّه يتغلب على الزوال وعدم الأمان في العلاقات الجمالية والأخلاقية. فالحب هو خيط حياة لأنَّه طالما أنَّك تحب، وطالما أنَّك تلتزم بأن تكون شخصاً محباً، فستكون في مأمن من التعرض للأذى وحدك.

اعتقد "كيركغور" أنَّ هذا النوع من الإيمان الراسخ يعكس إنساناً متطوراً للغاية. وربما تعيش في الأنماط الجمالية أو الأخلاقية للحياة، وأنت سعيد تماماً ولا ترى أي حاجة للقفز، أو ربما تسكن هذه العوالم وتجد الراحة في حزنك، ولكن ما يعوق اليأس الوجودي هو أنَّه بمجرد إلقاء نظرة خاطفة عليه، عن قصد أو بغير قصد، يصبح من الصعب للغاية أن تتجاهل ذلك. فإذا كنت كذلك، فقد تكون أفكار "كيركغور" وسيلة لمساعدتك في العثور على حل.

ولكنَّ الشيء الوحيد الذي سيخفف من الأزمة الوجودية هو العثور على الحقيقة الصحيحة بالنسبة إليك؛ الحقيقة الذاتية، الدافع للقفز الذي يكمن في أعماق قلبك. فإذا لم تكن متأكداً من حقيقتك الذاتية، اقترح "كيركغور": "اسأل نفسك واستمر في السؤال حتى تجد الإجابة".

إنَّ الحياة العاطفية لا تتعلق بالاختيار، فلا يمكنك أن تكون سهلاً أو جاداً طوال الوقت؛ فالحياة المُرضية تدور حول الاستمتاع والالتزام الأخلاقي والقفزة التي ستقوم بها.

تحتاج حياتك إلى نوع من الطاقة والملذات والإمكانات التي تعرضها حياة "دون جيوفاني" (على الرغم من عدم الانغماس فيها بالضرورة بالطرائق التي يفعلها)، وإلَّا فسيكون العالم مملاً للغاية.

أنت أيضاً بحاجة إلى شيء أخلاقي: عليك أن تقر بكيفية تأثير اختياراتك في الآخرين وتحمل المسؤولية عن أفعالك، وإلا فسوف ينتهي بك الأمر بمفردك وحزيناً. وأنت أيضاً بحاجة إلى قفزة للعثور على هذا الشيء الذي يمكنك تكريس نفسك له والذي يوحد شظايا حياتك، حتى لو لم يكن ذلك بمنزلة قفزة في الإيمان الديني بالنسبة إليك.

الهام هو أن ترى هذه الأبعاد المختلفة للحياة، والمشكلات التي قد تقع فيها، المصادر المحتملة للملل والضيق التي تنبع من الطريقة التي تعيش بها حياتك، ولكن في النهاية، الأمر متروك لك لاختيار كيفية التوفيق بين هذه المجالات وكيف تقوم بربط أجزاء حياتك معاً في توليفة متماسكة. وهذا هو بيت القصيد. فالأمر يعود لك لتشكيل حياتك.

النقاط الرئيسة: كيفية التعامل مع أزمة وجودية

  • يمكن أن يكون العيش في هذه اللحظة ممتعاً لفترة من الوقت، ولكن يمكن أن يكون أيضاً مصدراً لليأس الوجودي إذا أصبح مصدر إلهاء عن التفكير في حياتنا.
  • تجنُّب أزمتك الوجودية لا يجلب السعادة.
  • يتطلب التغلب على الأزمة الوجودية مواجهة حزننا بشجاعة، والنظر إلى جذوره، واستعمال هذا الفهم كمنصة لبناء الاستقرار.
  • يُعَدُّ الهدوء وتقليل الانشغال والكسل أو وجهات نظر جديدة حول العالم خطوات هامة في خلق مساحة للتفكير الداخلي.
  • يمكن أن يكون اليأس الوجودي قوة للخير عندما نحفزه للتغلب على حالاتنا المظلمة، وتجديد حماستنا للعيش، وتعزيز رغبتنا لحياة أكثر معنى.
  • تتطلب الحياة المُرضية الاستمتاع والمشاركة الأخلاقية والقفز إلى شيء يمكن أن يدمج معاً أجزاء وجودنا.

المصدر: 1




مقالات مرتبطة