كيف يسهم إظهار الحاجة إلى الآخرين في تشكيل فريقٍ قوي!

يقول الكاتب "دانيال كويل" (Daniel Coyle): "إذا أردت تعزيز روابط الثقة في مكتبك أو مجموعتك أو فريقك – ومن منَّا لا يريد ذلك؟ – فالحل يكمن في إظهار حاجتك إلى الآخرين".

قد نفهم فهماً بديهياً أحياناً أنَّ إظهار حاجتنا إلى الآخرين يوقد نار التعاون والثقة، ولكنَّنا قد لا ندرك كيف يمكن لهذه العملية أن تنجح، ولا سيما حينما يتعلق الأمر بالتفاعل بين أفراد المجموعات.



يقول "جيف بولزر" أستاذ "السلوك التنظيمي" في "جامعة هارفرد" والذي أمضى معظم مسيرته المهنية في دراسة هذا النوع من المقايضات الاجتماعية التي تبدو للوهلة الأولى غير مهمة: "لطالما نظر الناس إلى الحاجة إلى الآخرين نظرةً عاطفية، لكنَّ الحال ليس كذلك، فالمسألة تتعلق بإرسال إشارةٍ واضحةٍ بمضمون حقيقي مفادها أنَّ لديك نقاط ضعفٍ وأنك قد تحتاج إلى المساعدة. فإذا صار هذا السلوك نموذجاً يحتذيه الآخرون نستطيع وضع القلق جانباً والبدء بالعمل، فبادروا إلى تبادل الثقة والمساعدة فيما بينكم، لأنكم إن لم تحظَوْا بلحظة إظهار الحاجة تلك فستلجئون إلى إخفاء نقاط ضعفكم وستصبح المهمات البسيطة مصدراً لإثارة القلق".

تتعلّق مسألة إبداء الحاجة إلى الآخر بالمتلقي أكثر ممَّا تتعلق بالمرسل، حيث يقول "بولزر": "إنَّ الطرف الذي يتلقى الرسالة هو الطرف الأهم، لأنَّ السؤال هنا: هل يفهم المتلقي الرسالة التي يبين فيها المرسل حاجته إلى الآخر فيكشف بدوره عن حاجته إلى الآخر أم يخفي حاجته هذه ويتظاهر بعدم وجودها؟ الاختلاف شاسعٌ بين نتيجة الاثنين".

ويضيف "بولزر" الذي يتقن اكتشاف لحظة انتشار تلك الإشارة بين أفراد المجموعة: "في إمكانك أن ترى كيف يشعر الناس بالراحة ويتواصلون وكيف بدأت تنتشر الثقة بينهم، فالمجموعة فهمت الفكرة وعبَّرت عن رغبتها بالعمل ضمن هذه الأجواء، فبدأت بالتصرف على هذا الأساس تبعاً لاعتقادهم أنَّ الاعتراف بحاجتهم إلى الآخرين ومساعدة بعضِهِم البعض الآخر لن يشكِّل أيَّة مشكلة".

يمكن تسمية هذا التفاعل بحلقة إظهار الحاجة إلى الآخرين التي يتبادل فيها الناس الحديث بصراحةٍ – هذه الصراحة التي تُعَدُّ حجر الأساس في بناء الثقة والتعاون. وتبدو حلقات إظهار الحاجة إلى الآخر هذه مفاجئةً وعفويةً غالباً لكنها تسير وفق الخطوات ذاتها:

  1. يرسل الشخص الأول إشارةً تعبَّر عن حاجته إلى الآخرين.
  2. يلتقط الشخص الثاني الإشارة.
  3. يستجيب الشخص الثاني بدوره من خلال إرسال الإشارة التي تُعبِّر عن حاجته إلى الآخرين.
  4. يلتقط الشخص الأول إشارة الشخص الثاني.
  5. يتأسس معيار التعامل بين الاثنين ويزداد التقارب وتزداد الثقة.

يحتاج وصول كل واحدة من تلك الإشارات إلى بضع ثواني فقط، ولكنَّ أهميتها جوهريةٌ لأنَّها تغيِّر آلية العمل لتسمح لشخصَيْن مختلفَيْن بالعمل كما لو أنَّهما كانا شخصاً واحداً. ولأنَّه من المفيد فهم هذا التغيُّر من كثب، صمَّم العلماء تجربةً لهذا الغرض تحديداً تُدعى لعبة "أعطِ بعضاً ممَّا عندك". حيث تحصل أنت وشخصٌ آخر، لم يسبق لك أن قابلته قَط، على أربع قطع معدنية تبلغ قيمة كلٍّ منها دولاراً واحداً إذا احتفظت بها ودولاران إذا منحتها للشخص الآخر. وتكون الغاية من اللعبة هي أن تحدد كم قطعة نقدية أعطيتها للشخص الآخر؟

إنَّ اتخاذ قرارٍ هنا لا يُعَدُّ أمراً سهلاً، فإن تخليت عن كل القطع قد ينتهي بك المطاف خالي الوفاض. لقد كان متوسط ما قدمه معظم الناس من قطع معدنية خلال الاختبار 2.5 قطعة، ما يُظهِر أنَّهم كانوا أكثر ميلاً إلى التعاون. لكن ما يثير الاهتمام حقاً هو كيفية تصرف الأشخاص عندما يرتفع قليلاً مستوى شعورهم بالحاجة إلى الآخر.

في إحدى التجارب الأخرى طُلب من الأشخاص الذين خضعوا إلى التجربة تأدية عرض تقديمي قصير في غرفةٍ ملأى بالأشخاص حيث طلب المشرفون على التجربة من هؤلاء الأشخاص التزام الصمت قبل أن يخضعوا جميعاً في وقتٍ لاحق لاختبار لعبة "أعطِ بعضاً ممَّا عندك". لعلك ستعتقد أن ردة فعل الأشخاص الذين خضِعوا لهذه التجربة تمثَّلت بكونهم أقل تعاوناً، لكنَّ نتائج التجربة أظهرت العكس تماماً: فنسبة تعاون الأشخاص الذين طُلِبَ منهم إلقاء عرض تقديمي ارتفعت بمقدار 50%.

إنَّ شعورهم أنَّهم بحاجةٍ إلى الآخرين لم يقلل الرغبة في التعاون لديهم بل عززتها، وكان العكس صحيحاً كذلك: فزيادة شعور الأفراد بالقوة جعلتهم يشعرون بأنَّهم أغنياءُ عن الآخرين شعوراً أكبر ممَّا أضعف رغبتهم في التعاون تعاوناً كبيراً.


اقرأ أيضاً:
5 نصائح لتعزيز التعاون في بيئة العمل


فنحن نرى الثقة وإظهار الحاجة إلى الآخرين كما نرى الوقوف على أرضية ثابتة والخوض في المجهول، إذ إنَّنا نبني أولاً الثقة بالآخرين قبل الخوض في المجهول معهم بعد ذلك، لكن العلم يظهر العكس، فإظهار الحاجة إلى الآخرين لم تأت بعد ثقتنا بهم بل سبقتها، إذ إنَّ الخوض في المجهول بمساعدة الآخرين يؤدي إلى تشكل دعامة ثابتة من الثقة بهم تحت أقدامنا.


اقرأ أيضاً:
8 صفات يجب أن تتوافر في كل فريق عمل ناجح


إذا سألك أحدهم "كيف ستذهب للبحث عن عشرة بالونات حمراء كبيرة منتشرة في مواقع سرية في أرجاء الولايات المتحدة؟" فماذا سيكون جوابك!.

لقد طرحت "وكالة مشاريع الأبحاث الدفاعية المتقدمة" (DARPA) (داربا) – وهي إحدى أقسام وزارة الدفاع الأميركية المُكلَّفة بمساعدة قوات الجيش الأمريكي في التحضير لمواجهة المشكلات التكنولوجية في المستقبل – هذا السؤال قبل عشر سنوات. وقد صممت هذه الوكالة في تشرين الأول من العام 2009 تحدي البالونات الحمر لمحاكاة المواقف الواقعية كالإرهاب وتفشي الأمراض، ووضعت مكافأة قدرها 40000$ لأول مجموعة تحدد مواقع جميع البالونات العشرة. ولكنَّ ضخامة المهمة – إيجاد عشرة بالونات ضمن مساحة 3.1 مليون ميل مربع – جعلت البعض يتساءلون إذا ما كان طلب "داربا" يتخطى حدود المعقول. الأمر الذي دفع واحداً من أبرز محللي المعلومات الاستخبارية إلى القول أنَّ ذلك يُعَدُّ أمراً "مستحيلاً".

وسرعان ما باشرت المجموعات التي كانت تضم مجموعةً من ألمع العقول في أمريكا: قراصنة كمبيوتر، رواد أعمال على مواقع التواصل الاجتماعي، شركات تقنية، وجامعات متخصصة بالأبحاث الالتحاق بالتحدي. واتَّبعت الأغلبية الساحقة من المجموعات الطريقة المنطقية في حل اللغز، إذ صمّموا أدواتٍ لذلك، وقاموا بتصميم محركات بحث لتحليل صور الأقمار الصناعية، وتواصلوا مع محيطهم الاجتماعي والتجاري، وبدأوا بحملة إعلانية، وصنعوا أيضاً برمجياتٍ ذكيةً مفتوحة المصدر لهذا الغرض، وأنشأوا مجموعاتٍ عبر وسائل التواصل الاجتماعي للبحث عن تلك البالونات.

عَلَم أحد الفرق في "المخبر الإعلامي" في "معهد مساشوستس للتكنولوجيا" (MIT Media Lab) بأمر التحدي قبل إطلاقه بأربعة أيام فقط. وكانت هذه المجموعة من الطلاب، التي يقودها طالبٌ مختص بأبحاث ما بعد الدكتوراه يُدعى "رايلي كرين" (Riley Crane)، تدرك ألَّا وقت لديهم للقيام بأي شيء يمكن اعتباره طريقة منظمة، لذا قرروا إنشاء موقعٍ على شبكة الإنترنت يتضمن الدعوة الآتية:

"عندما توافق على الانضمام إلى فريق " MIT Media Lab" في تحدي البالونات الحمراء، سنقدم لك رابط دعوة خاصة (سيُكتب اسمك عليه).

قم بدعوة جميع أصدقائك للعمل معنا باستخدام دعوتك الخاصة، وإن ربح المال أيُّ شخصٍ ممَّن دعوتهم، أو ممَّن قام أحدٌ من الذين دعوتهم بدعوتهم، أو أيُّ شخصٍ قام هؤلاء الأخيرون بدعوتهم ...(وهكذا)، فستربح أنت المال أيضاً.

سنقدم 2000$ عن كل بالون لأول من يقدم لنا الإحداثيات الصحيحة لموقعه – ليس هذا فقط – بل سنقدم 1000$ للشخص الذي قدم له دعوة المشاركة، ثم سنقدم 500$ لكل شخص قام بدعوة الشخص الذي أرسل الدعوة الأولى و250 $ لمن دعا هذه المجموعة الأخيرة.. (وهكذا)".

لقد كان النهج الذي اتبعه فريق (MIT Media Lab) ساذجاً بأسلوب مضحك، فلم يكن هناك أي هيكلية منظمة، أو طريقة عمل، أو حتى برمجيات. وكان أقرب إلى نداء استغاثةٍ عاجل وُضِعَ في زجاجةٍ وكُتِبَ فيه: "إن وجدتها، ساعدنا رجاءً!" ورُميَت الزجاجة في بحر الإنترنت.

فعَّل الفريق الموقع قبل يومين من انطلاق التحدي فقط، وبعد بضع ساعات من التفعيل لم يكن قد تغير شيءٌ بعد. ولكن في تمام الساعة 3:42 من بعد الظهر بدأ الناس بالمشاركة، وانطلقت الشرارة من بوسطن، ثم وصلت إلى شيكاغو، ولوس آنجلس، وسان فرانسيسكو، ومينابولس، ودنفر، وتكساس، حتى أنها طالت أوروبا. ثم مع مرور الوقت وانضمام مئات الأشخاص الجدد للمشاركة في كل ساعة بدَتْ الطريقة التي  تنتشر فيها الروابط أشبه بطريقة عمل جهازٍ عصبيٍّ عملاق.

وفي الـ 15 من كانون الأول في تمام العاشرة صباحاً أطلقت "داربا" البالونات في عشرة مواقع سرية، وبدأت آلاف الفرق بالعمل، ولم يبقَ للمنظمين إلَّا الانتظار، حيث توقعوا أن يحتاج الفريق الواحد أسبوعاً لتحديد مواقع البالونات العشرة بدقة. لكنَّ التحدي انتهى بعد مرور ثماني ساعات واثنتين وخمسين دقيقة وواحد وأربعين ثانية فقط!

فقد وجد فريق (MIT Media Lab) جميع البالونات بمساعدة 4665 شخصاً، وقد وصف "بيتر لي" (Peter Lee) وهو أحد مشرفي"داربا" هذا الأمر بقوله " لقد كان مقدار المشاركة الضخمة صادماً جداً رغم مقدار المال القليل جداً".

لقد استخدمت الفرق الأخرى رسالةً منطقيةً قائمةً على التحفيز: "انضم إلى هذا المشروع وقد تربح المال". قد يبدو هذا محفِّزاً، لكنَّه لا يشجع على التعاون في والواقع – بل إنَّه حقيقةً يفعل العكس تماماً. إذ إنَّ أيَّ أحدٍ يخبر الآخرين بأمر البحث فإنَّه يقلل بذلك فرصه في ربح الجائزة، لقد كانت هذه الفرق تطلب من المشاركين إظهار حاجتهم إلى الآخرين بينما بقوا هم بعيدين عن إظهار تلك الحاجة.

لكن فريق (MIT Media Lab) عبَّر عن حاجته إلى الآخرين بتعهده أن يشاطره الجائزة كل المشاركين. ومنح الناس فرصة إنشاء شبكات لإظهار حاجتهم إلى الآخرين من خلال التواصل مع أصدقاءهم، ثمَّ طلب من هؤلاء الأصدقاء التواصل مع أصدقاءهم كذلك. فلم يُمْلِ الفريق على المشاركين ما يجب عليهم القيام به أو كيفية القيام به، بل قدَّم الرابط وترك الأشخاص يقومون بما يناسبهم، فكان ما يناسبهم هو التواصل مع العديد من الأشخاص، وشكَّلت كل دعوة حلقة من حلقات إظهار الحاجة إلى الآخرين التي حركت عجلة التعاون، فكأنَّ فحوى الدعوة كان: "مرحباً! أنا أشارك في هذا التحدي المجنون وأريد مساعدتك."

لذلك لم يكن عدد الأشخاص الذين تواصل معهم كل شخص أو مدى نجاح تكنولوجيا البحث عن البالونات هو ما أحْدَثَ الفرق بل ما أحدث هو مدى فعالية تأسيس الناس علاقاتٍ مبنيةً على المجازفة المشتركة. فلم يكن تحدي البالونات الحمراء منافسةً تكنولوجية بقدر ما كان منافسةً لتبادل إظهار الحاجة إلى الآخرين.

يرى العديد منا الحاجة إلى الآخرين حالةً يجب أن تبقى طيَّ الكتمان، ولكن عندما يتعلق الأمر ببناء التعاون، يصبح إظهار تلك الحاجة ضرورةً نفسيةً. ويقول "بولزر": "إنَّ كوننا في حاجةٍ إلى المساعدة يزيل حالة الجمود من جو العمل ويمكِّننا من العمل سويَّاً دون قلقٍ أو تردد، فنستطيع بذلك العمل كهيكلٍ واحد".

وقد بدأت برؤية حلقات إظهار الحاجة إلى الآخرين في أماكن أخرى زرتها، فكانت أحياناً على هيئة تبادلات سريعة صغيرة. حيث ألقى ذات مرَّةٍ مدرب ببيسبول محترف على لاعبيه خطاباً في افتتاح الموسم قائلاً: "كنت متوتراً جداً بشأن حديثي معكم اليوم"، فردَّ اللاعبون بابتسامةٍ متعاطفة وكانوا متوترين أيضاً. وأحياناً تأخذ تلك الحلقات شكلاً مادياً كما هو الحال في شركة (Dun & Bradstreet Credibility Corporation) التي قام صاحبها ببناء جدار في الشركة وكتب عليه اقتباساتٍ عن الإخفاق قالها أشخاصٌ ناجحون مثل "أديسون" و"مايكل جوردان" وغيرهم. ثمَّ أُطلق على هذا الحائط اسم حائط الإخفاق حيث كان في استطاعة الموظفين أن يستعرضوا من خلاله لحظات التقصير التي شهدوها.


اقرأ أيضاً:
كيف تصبح عنصراً فاعلاً في فريق العمل؟


وكانت الحاجة إلى الآخرين تتجلى في بعض الأحيان في سلوكات المديرين الذين يبدون ظاهريَّاً قادةً ليسوا بحاجةٍ إلى الآخرين، إذ كان "ستيف جوبز" يميل إلى بدء أحاديثه حينما يتحدث عن أفكاره بالعبارة الآتية: "ها نحن أمام فكرةٍ سخيفة" (كانت كذلك فعلاً في بعض الأحيان كما ذكر "جوناثان إيف" (Jonathan Ive) نائب الرئيس التنفيذي للتصميم في شركة آبل في الحفل التأبيني لـ "جوبز": "سخيفةً حقاً، ومخيفةً فعلاً في بعض الأحيان".

ورغم اختلاف كل حلقة عن الأخرى إلَّا أنَّه ثمَّة نمطٌ مشتركٌ بصورةٍ راسخةٍ فيما بينها وهو الاعتراف بمحدودية القدرات والإدراك الدقيق لطبيعة المجموعة القائمة على السعي. وبذلك كانت الإشارة التي أرسلتها جميع الرسائل متماثلة: "لديك دور هنا، وأنا أحتاجك ".

إن التعاون لا يظهر من العدم، فهو قوةٌ جماعية بُنيَتْ على نمطٍ محدد من التفاعل المتكرر، وهذا النمط يتخذ دائماً الشكل نفسه: مجموعةٌ من الناس الذين يُظهرون حاجتهم إلى الآخر بوجه متبادل عبر عمليةٍ خطرةٍ، ومؤلمةٍ أحياناً، لكنَّها مجزيةٌ في نهاية المطاف.

 

المصدر




مقالات مرتبطة