كيف يؤثر التحيز المعرفي في صناعة قراراتنا؟

إنَّ التحيزات المعرفية أخطاء خطيرة في الحكم يمكنها تدمير صحتنا ورفاهيتنا وعلاقاتنا ووظائفنا وأعمالنا، ومجالات أخرى من حياتنا. ولكي تحمي نفسك من مساوئ التفكير هذه، عليك أن تدرك ماهيتها ومصدرها، وما يمكنك القيام به حيالها؛ وهذا ما سنناقشه في هذا المقال.



التحيُّز المعرفي في أثناء القيادة:

تخيل -كمثال على التحيُّز المعرفي- أنَّك تقود على وضعية السائق الآلي، مثلما نفعل جميعاً في معظم الأوقات.

لنكن واضحين، إنَّها فكرة جيدة أن تجعل هذه الاستجابة الأوتوماتيكية تساعدك بينما تقوم بمهام لا تسترعي تركيزك وانتباهك الكاملين؛ إذ ليس عليك في حالات القيادة العادية استخدام كلِّ قدراتك العقلية، أو التركيز تركيزاً كاملاً على القيادة؛ خاصةً عندما يكون الطقس عادياً، أو حركة المرور طبيعية.

لكن تخيل أنَّك بينما تقود سيارتك، تقطع سيارة أخرى عليك الطريق فجأة؛ ما الذي ستفعله؟

حسناً، ستشعر بالخوف والغضب، وينشط جهازك العصبي الودي، ويطلق الكورتيزول في كامل جسدك؛ فيتسارع نبض قلبك، وتبدأ التعرق، وتسري موجة من الحرارة عبر جسدك، وربَّما تشعل مصابيح سيارتك، أو تطلق البوق وتضغط على الفرامل لتجنب الاصطدام.

ما هو شعورك الغريزي حيال السائق الآخر؟ ربَّما يكون انطباعك الأول عنه أنَّه وقح وبغيض.

تخيل الآن حالة مختلفة: بينما تقود بوضعية السائق الآلي وأنت شارد الذهن وتفكر في عملك الخاص، تدرك فجأة أنَّ عليك الانعطاف يميناً عند التقاطع التالي، فتبدل الطريق بسرعة، ليطلق شخص ما وراءك فجأةً بوق سيارته؛ فتدرك متأخراً أنَّ هناك شخصاً لم تره، وأنَّك نسيت التحقق من خلو الطريق في أثناء اندفاعك للانعطاف؛ لذا قطعت الطريق عليه على نحو سيئ.

هل تعتقد أنَّك سائق فظ؟ لن يعدَّ أغلبنا نفسه كذلك؛ ذلك لأنَّك لم تقطع طريق السائق الآخر عن عمد، بل لم تشاهد سيارته فحسب.

دعونا نتخيل موقفاً آخر: صديقتك مصابة وأنت تسعفها إلى المستشفى؛ لذلك تقود بسرعة وتقطع الطريق أمام السيارات الأخرى. هل أنت سائق وقح؟ ربَّما تعتقد أنَّك لست كذلك؛ هذا لأنَّك تتصرف فقط بالطريقة المناسبة لهذا الموقف.

إقرأ أيضاً: 6 طرق تساعدك على التفكير بإيجابية

لوم الشخص الخطأ بسبب التحيز المعرفي:

لماذا نبرر مثل هذه التصرفات لأنفسنا، في حين نتهم الآخرين اتهامات بغيضة؟ لماذا نشعر غريزياً أنَّنا الأخيار، وننظر إلى الآخرين على أنَّهم أشرار؟

إنَّه لمن الواضح أنَّ هناك انفصال بين ردود أفعالنا الغريزية والواقع؛ ونمط التفكير هذا ليس وليد الصدفة.

ينسب رد فعلنا الغريزي الفوري سلوك الآخرين إلى شخصياتهم، لا إلى الحالة التي يحدث فيها السلوك؛ وإنَّ الاسم العلمي لهذا النوع من التحيز المعرفي هو "خطأ الإسناد الأساسي".

ينتج عن هذا الحكم الخاطئ ما يلي: إذا رأينا شخصاً يتصرف بوقاحة، نشعر غريزياً أنَّ هذا الشخص وقح، ولا نتوقف للتفكير فيما إذا كان الشخص قد تصرف بهذه الطريقة بسبب ظرف غير اعتيادي يمرُّ فيه.

في مثال السائق: ربَّما لم يكن ذلك الشخص الذي قطع طريقك قد رآك، لأنَّه ربَّما كان يسعف صديقه إلى المستشفى؛ لكنَّ هذا ليس ما يقوله رد فعلنا الغريزي.

من ناحية أخرى، نحن ننسب سلوكنا الخاص إلى الموقف، وليس إلى شخصياتنا؛ وكثيراً ما نعتقد أنَّه يمكننا تبرير وتوضيح أفعالنا بالكامل.

هل التحيز المعرفي سيئ للغاية؟

ألا تعتقد أنَّه يمكن لمثل هذه الأحكام غير الناضجة والسلبية أن تكون مؤذية؟ قد لا يبدو اعتقادك بأنَّ السائقين الآخرين مجرد حمقى هاماً جداً؛ لكن يشكل هذا النمط الفكري تهديداً خطيراً لعلاقاتك.

كمثال: ما الذي ستظنُّه في زميلة عمل محتملة إذا رأيتها تصرخ على شخص ما بينما تكلمه على الهاتف؟ قد يكون رد فعلك سلبياً تجاهها، وربَّما تتجنب التواصل معها في المستقبل. حسناً، ماذا لو اكتشفت أنَّها كانت تصرخ لأنَّها كانت تتكلم مع والدها الذي لم يسمعها بسبب كونه قد أضاع جهاز السمع، وكانت تخطط للذهاب إلى منزله لمساعدته في البحث عنه؟

يمكن أن نجد العديد من التفسيرات البريئة لشخص يصرخ على الهاتف، لكنَّنا نميل إلى افتراض الأسوأ دائماً.

في مثال على هذا: في منتصف نقاش محتدم بين مدير موارد بشرية وموظف حول مشكلة هامة، انقطع اتصال السكايب (Skype)، وأخبر مدير الموارد البشرية الرئيس التنفيذي أنَّ الموظف قد قطع الاتصال، فطرد الرئيس التنفيذي الموظف على الفور؛ لكنَّه علم في وقت لاحق أنَّ الموظف كان يعتقد أنَّ مدير الموارد البشرية هو من قطع الاتصال، واكتشف أنَّ الاتصال قد قُطِع لسبب تقني.

لسوء الحظ، كان الأوان قد فات للتراجع عن فسخ عقد الموظف، على الرغم من أنَّ الرئيس التنفيذي ندم على اتخاذه مثل هكذا قرار متسرع.

كانت حالة التسريح غير العادلة هذه محبطة لبقية الموظفين، ممَّا أدى إلى زيادة الهوة بين الرئيس التنفيذي والموظفين الآخرين؛ وأدى هذا في نهاية المطاف إلى ترك الرئيس التنفيذي للمنظمة.

لماذا نعاني من التحيز المعرفي؟

بديهياً، يبدو عقلنا وكأنَّه كلٌّ متماسك؛ فنحن نعتقد أنَّنا نفكر بطريقة عقلانية، مع أنَّ الأبحاث العلمية المعرفية تبيِّن أنَّ الجزء العقلاني من أذهاننا أشبه براكب صغير على ظهر فيل ضخم يمثل العواطف والغرائز.

بصورة عامة، نحن نمتلك نظامين للتفكير، يطلق عليهما علماء الأعصاب تسمية النظام 1 و 2؛ ولكن من الأسهل تسميتهما بـ "نظام التفكير الغريزي" و" نظام التفكير الإرادي".

يُعبِّر نظام التفكير الغريزي عمَّا تقوله عواطفنا وغرائزنا، وتحدث العمليات المعرفية خاصته بصورة رئيسة في اللوزة وأجزاء أخرى من الدماغ، والتي تشكلت في بدايات تطورنا.

يوجه هذا النظام عاداتنا اليومية، ويساعدنا على اتخاذ قراراتٍ سريعة، ويتفاعل على الفور مع المواقف الخطرة، مثل: رد الفعل على رؤية نمرٍ بالثبات في المكان، أو باستجابة الكر أو الفر.

لقد ساعدت استجابة الكر أو الفر على نجاتنا وبقائنا في الماضي، لكنَّها لا تناسب الحياة الحديثة كثيراً؛ إذ لدينا العديد من الضغوطات الصغيرة التي لا تشكل تهديداً على الحياة، ولكنَّ نظام التفكير الغريزي يتعامل معها مثل هجوم النمر، ممَّا يؤدي إلى الشعور بالإرهاق بسبب أمور غير ضرورية في حياتنا اليومية، ويقوِّض صحتنا العقلية والجسدية بلا مبرر.

علاوة على ذلك، عادة ما تبدو الأحكام الفورية الناتجة عن الغرائز والعواطف "حقيقية" لأنَّها سريعة وقوية، إلَّا أنَّها توجِّهنا أحياناً على نحو خاطئ، وبطرائق منهجية يمكن التنبؤ بها.

بالمقابل، يعكس نظام التفكير الإرادي تفكيرنا العقلاني، ويتركز حول قشرة الفص الجبهي، وهو جزء الدماغ الذي تشكَّل لاحقاً خلال عملية التطور.

يساعدنا نظام التفكير هذا على التعامل مع الأنشطة العقلية الأكثر تعقيداً، مثل: إدارة العلاقات الفردية والجماعية، والتفكير المنطقي، والتفكير بالاحتمالات، وتعلُّم معلومات وأنماط جديدة من التفكير والسلوك؛ كما يمكن أن يؤدي هذا النظام أيضاً إلى أخطاء في صنع القرار أحياناً، ولكنَّه يصيب أكثر بكثير من نظام التفكير الغريزي.

إقرأ أيضاً: نماذج التفكير الاستراتيجي

درِّب نظام تفكيرك المُتعمَّد لمعالجة التحيز المعرفي:

في حين لا يتطلب النظام التلقائي (الغريزي) بذل أيِّ جهدٍ واعٍ، يتطلب نظام التفكير الإرادي جهداً مُتعمَّداً لكي يعمل، وهو أمرٌ متعبٌ ذهنياً.

لحسن الحظ، ومع ما يكفي من التحفيز والتدريب المناسبين، يمكن تفعيل نظام التفكير الإرادي في المواقف التي نكون فيها عرضةً إلى ارتكاب أخطاء منهجية في عملية صنع القرار، ويستخدم العلماء مصطلح "التحيز المعرفي" للإشارة إلى هذه الأخطاء.

يشبه نظام التفكير الغريزي الفيل؛ فهو الأقوى دون منازع، والنظام المسيطر بين النظامين؛ ممَّا يعني أنَّ عواطفنا تطغى غالباً على تفكيرنا العقلاني.

علاوةً على ذلك، تحدد غرائزنا وعاداتنا الغالبية العظمى من حياتنا التي نقضيها في التفكير الغريزي، وهذا ليس بالشيء السيئ على الإطلاق؛ ذلك لأنَّ التفكير الإرادي بكلِّ عمل وقرار سيرهقنا ذهنياً. في حين يشبه نظام التفكير الإرادي راكب الفيل الذي يمكنه توجيه الفيل عمداً للذهاب في اتجاه يتناسب مع أهدافه الفعلية.

إنَّه لمن المؤكد أنَّ الجزء الذي يمثل الفيل من الدماغ ضخم وغير عملي وبطيء التحول والتغير، ويسبب الذعر عند مواجهة تهديدات؛ ولكن يمكننا تدريب الفيل، ويمكن لراكبه أن يوجهه إلى حيث يريد.

يمكنك بمرور الوقت استخدام نظام التفكير الإرادي لتغيير نظام تفكيرك وشعورك وأنماط سلوكك التلقائية، لتصبح أفضل بكثير في اتخاذ أفضل القرارات.

لهذا السبب لا يجب أن تندفع خلف غرائزك أبداً، والتفكير بدلاً من ذلك في أيِّ قرار لا تود أن تخطئ في اتخاذه.

الخلاصة:

فلنعد إلى خطأ الإسناد الأساسي: الآن، وبعد أن عرفنا ما هو التحيز المعرفي، وما مصدره؛ كيف نفسر هذا التحيز المعرفي؟

من منظور تطوري، ومن أجل بقاء أسلافنا على قيد الحياة، كان عليهم اتخاذ قرارات سريعة وافتراض الأسوأ، بغضِّ النظر عن دقة هذا الافتراض؛ إلَّا أنَّ أولئك الذين فشلوا في ذلك لم ينجوا أصلاً لتوريث جيناتهم.

في العالم الحديث، حيث أنَّ بقاءنا ليس مُهدَداً تهديداً مباشراً من قِبل الآخرين، ولدينا تفاعلات طويلة الأمد مع الغرباء؛ فإنَّ مثل هذه الأحكام خطيرة على أهدافنا طويلة المدى؛ لذا علينا معالجة هذا وغيره من نقاط العمى العقلية لاتخاذ قرارات جيدة، سواءً كانت هذه القرارات متعلقة بعلاقاتنا أم بمجالات أخرى من حياتنا.

لذا، خذ بضع دقائق الآن للتفكير في المكان الذي أخطأت فيه بتوجيه اللوم خلال الأسابيع الأخيرة؛ إذ من السهل القيام بهذا نظراً إلى الضغوطات المرتبطة بـ "وباء كورونا (كوفيد-19)".

حاول التواصل مع من وجَّهت إليهم اللوم، واعتذر منهم؛ حيث يمكن للقيام بذلك أن يكون بداية رحلتك للتعرف على التحيز المعرفي والتغلب عليه، واتخاذ أفضل القرارات في حياتك.

 

المصدر




مقالات مرتبطة