كيف تمارس مهارة قضاء الوقت وحيداً مع أفكارك؟

تخيَّل أنَّك تجلس في حافلة، أو تنتظر في طابور أو تجلس على أريكتك في المنزل، ولديك بضع دقائق فراغ، كيف يمكنك أن تشغل نفسك في هذا الوقت؟ من المحتمل أن تبدأ تصفح هاتفك كما يفعل معظم الأشخاص في الوقت الحاضر، ولكن ماذا لو اخترتَ بدلاً من ذلك تجاهل كل ما حولك وإعارة انتباهك لأفكارك الخاصة والبحث عن طريقةٍ لترفيه نفسك بأفكارٍ ممتعة؟ ما مدى صعوبة تنفيذ ذلك الأمر؟



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن المدون والمرشَّح لنيل درجة الدكتوراه في علم النفس الاجتماعي في "جامعة فيرجينيا" (University of Virginia) "ريمي فيوريريز" (Remy Furreris)، والذي يُحدِّثُنا فيه عن تجربته في ابتكار أفكار ممتعة.

يبدو الأمر للوهلة الأولى، أنَّه سهل ويمكن تنفيذه دون شك، في النتيجة نحن كبشر لدينا عقول مميزة يمكنها التفكير في الماضي، والتعامل مع الحاضر، وحتى إجراء تنبؤات حول المستقبل، كما يمكننا توجيه أفكارنا إلى سيناريوهات وأحداث حقيقية أو متخيَّلة، وأحداث سارة أو غير سارة، وبالنظر إلى الأشكال اللامتناهية التي يمكن أن تتخذها أفكارنا، لماذا - عندما تُتاح لنا الفرصة للانسحاب من العالم الخارجي - لا نغوصُ في أذهاننا ونستمتع بأفكارنا الخاصة؟

بدأ علماء نفس، منذ حوالي 10 سنوات، في "جامعة فرجينيا" (University of Virginia) و"جامعة هارفارد" (Harvard University) استكشاف هذه المسألة من خلال دعوة متطوعين لقضاء بعض الوقت في غرفة خالية من عوامل التشتيت جميعها - باستثناء جهاز الصدمات الكهربائية - وأن يشغلوا أنفسهم بأفكارهم.

كانت النتائج التي توصلوا إليها، والتي نُشِرَت كسلسلة من الدراسات في عام 2014 مذهلة؛ حيث اختار 67% من الرجال و25% من النساء صدم أنفسهم عمداً، بدلاً من قضاء فترة قصيرة من الوقت بمفردهم مع أفكارهم؛ إذ أكَّدت النتائج التي ظهرَت بعد تلك التجربة أنَّ الناس عموماً يشعرون بدرجة منخفضة إلى متوسطة من الاستمتاع عند منحهم الحرية الكاملة للجلوس بمفردهم والانشغال بأفكارهم الخاصة.

تبدو هذه النتائج مُفاجِئة بالنسبة إلى الجنس البشري المعروف بقدراته الفريدة على التفكير؛ مما يثير الشكوك حول اسم جنسنا البشري "هومو سابينز" (Homo sapiens)، والذي يُتَرجم عن اللغة اللاتينية: "الإنسان الحكيم".

لكنَّ من الهام أن نلاحظ أنَّ أدمغتنا قد تطورَّت بشكل أساسي لتنظيم احتياجات التمثيل الغذائي في أجسامنا من خلال العمل، وبينما نمتلك قدرة مميزة لمحاكاة عوالم أخرى داخل عقولنا، فإنَّ القيام بتلك المهمة يتطلب الكثير من المعرفة، ونحن غير مُدرَّبين على القيام بها بشكل جيد بالضرورة.

ربما يكون هناك عامل آخر، بخلاف تجنُّب الجهد المبذول، وهو أنَّ الاستفادة من التفكير في الأفكار الممتعة ليس أمراً سهلاً، ولا سيما مقابل العديد من الأشياء الأخرى التي يجب التفكير فيها كالتخطيط وحل المشكلات أو حتى استرجاع أحداث الماضي، في حين أنَّ الاهتمام بالقضايا السلبية في حياتنا له فوائده، إلَّا أنَّه بالتأكيد ليس أمراً ممتعاً؛ لذلك قد يتطلَّب التفكير بغرض الاستمتاع ممارسة وتحفيزاً كافياً، وقد يحتاج الناس إلى القليل من التنبيه، ويمكن جعل التفكير أكثر إمتاعاً ببساطة من خلال تعزيز نوايا الناس لتوجيه أفكارهم نحو المتعة.

قام فريق من علماء النفس الاجتماعي الدوليين بقيادة "نيكولاس بوتريك" (Nicholas Buttrick) و"تيموثي ويلسون" (Timothy Wilson) "بجامعة فيرجينيا" (University of Virginia) بتجربة ذلك مؤخراً، من خلال مطالبة متطوعيهم بتخصيص "استراحة تفكير" للتركيز خاصةً على الأفكار الممتعة لغرض وحيد هو الاستمتاع بالتجربة.

ومع ذلك، وجد العلماء أنَّه حتى عندما طُلِب من المتطوعين التفكير في أفكار ممتعة على وجه التحديد، كان لا يزال الناس لا يستمتعون خاصةً بالتجربة المتعلقة بالنشاطات الأخرى، وعبر سلسلة من الدراسات التي شملَت مشاركين من 11 دولة مختلفة، صنَّف أولئك المشاركون المكلفون بالتفكير بهدف المتعة التجربة على أنَّها أقل إمتاعاً بشكل ملحوظ من غيرهم من المكلَّفين بتجربةِ مختلف النشاطات الفردية الأخرى، بما في ذلك القراءة أو مشاهدة مقاطع الفيديو.

كانت النتائج متماثلة عبر الثقافات؛ مما يدلُّ على أنَّ الناس يُفضِّلون عالمياً النشاطات التي توفر مصدراً خارجياً للترفيه، بدلاً من قضاء الوقت في التفكير في موضوعات ممتعة من صنع أفكارهم.

لفهم سبب صعوبة التفكير بهدف المتعة بشكل أفضل، من المفيد تقسيم النشاط إلى جزأين أساسيين هما: عمليات التفكير، ومحتويات الفكر؛ حيث تشير عمليات التفكير إلى النية - على سبيل المثال، وجود دافع كافٍ - والقدرة - أي وجود تركيز كافٍ - على التفكير بهدف المتعة، بينما تشير محتويات الفكر إلى موضوعات أفكار الفرد، وما إذا كانت ذات مغزى و/ أو ممتعة.

أَظهرت سلسلة أخرى من الدراسات الحديثة أنَّه يمكن جعل التفكير أكثر متعة ببساطة من خلال تعزيز نوايا الناس لاستخدام أفكارهم بهذه الطريقة، على الرغم من أنَّ الناس قد يُفضِّلون عموماً التحفيز الخارجي مقارنةً بالتفكير بهدف المتعة.

فقد وجدَ المشاركون أنَّ التجربة كانت أكثر إمتاعاً بشكلٍ ملحوظ عندما طلب منهم الباحثون التفكير في أفكار ممتعة على وجه التحديد، بدلاً من منحهم حرية التفكير فيما يريدون، ويشير هذا إلى أنَّ التحفيز على التفكير بهدف المتعة، وفعل ذلك عن قصد، يزيد من المتعة.

بالانتقال إلى المكوِّن الثاني من عملية التفكير بهدف المتعة - أي امتلاك القدرة والتركيز على توليد الأفكار والحفاظ على انتباه المرء لمثل هذه الأفكار لفترة طويلة من الزمن - فقد أكَّدت سلسلة أخرى من الدراسات أهمية هذه العوامل، فقد أفاد المشاركون بعد فترة من محاولة التفكير بهدف المتعة، بأنَّهم وجدوا صعوبة خاصةً في التركيز، وإلى الحد الذي اختبروا فيه هذه الصعوبة، شعروا بانخفاض كبير بدرجة الاستمتاع.

شاهد بالفديو: كيف تصبح ماكينة لتوليد الأفكار؟

وقد وجد البحث ذاته -لحسن الحظ- حلاً سهلاً لهذا الجانب من عملية التفكير، عندما طلب الباحثون من المشاركين أولاً كتابة قائمة بالموضوعات الممتعة، وإلقاء نظرة على قائمتهم متى استطاعوا في أثناء استراحة التفكير مقارنة مع الذين لم يُدوِّنوا تلك القائمة؛ حيث شعرَ المشاركون بصعوبة أقل في التركيز؛ مما أدى إلى زيادة الاستمتاع في أثناء التفكير.

يقودنا هذا إلى الجزء الأساسي الآخر من التفكير بهدف المتعة، وهو محتوى أفكار الفرد، فما هو نوع الأفكار التي تحظى بأكبر قدر من المتعة؟ وهل نعرف بشكل حدسي ما هي هذه الأفكار؟ يشير بحث أجرَته الباحثة "إيرين ويستجيت" (Erin Westgate)، إلى أنَّ معظمنا لا يعرف ما الذي يجب التركيز عليه لتحقيق أقصى درجات المتعة من التفكير المتعمد بهدف المتعة.

وجدتُ وزملائي أنَّ تزويد المشاركين بأمثلة عن موضوعات التفكير الممتعة -مثل الإنجازات، والمناسبات الاجتماعية، والإجازات- زاد من استمتاعهم، مقارنةً بجعل المشاركين يبتكرون موضوعاتهم الخاصة؛ مما يوحي بأنَّهم واجهوا صعوبة في ابتكار هذه الموضوعات بأنفسهم، فعندما يُطلَب من الناس التفكير في أفكار ممتعة، فإنَّهم لا يفكرون بالضرورة في الأفكار المفيدة.

بدلاً من التركيز على مجرد أفكار ممتعة، اختبرنا ذلك في دراسة ثانية، من خلال تقديم أمثلة الموضوعات نفسها - على النحو الوارد أعلاه - إلى مجموعتين من المشاركين، لكنَّنا طلبنا من مجموعة التفكير في أفكار ذات مغزى، بينما طلبنا من الأخرى التفكير بهدف المتعة، ولدهشتنا، وجدنا أنَّ هؤلاء الأشخاص الذين تلقوا تعليمات بالتفكير بأفكار ذات مغزى، أفادوا بأنَّهم وجدوا التجربة أقل متعة وليست أكثر جدوى من أولئك الذين وُجِّهوا للتفكير من أجل المتعة.

لاستكشاف هذا الأمر بشكل أكبر، طلبنا من هؤلاء المشاركين تدوين الموضوعات التي فكروا فيها، وباستخدام تحليل النص اللغوي، وجدنا أنَّ المشاركين الذين طلبنا منهم التفكير في أفكار ذات مغزى، استخدموا كلمات عاطفية أقل وكذلك كلمات إيجابية أقل من أولئك الذين طُلِب منهم التفكير للاستمتاع، ويشير هذا إلى أنَّ الأشخاص لا يختارون بشكل عفوي موضوعات ذات مغزى وممتعة في الوقت نفسه.

تُظهِر النتائج التي توصَّلنا إليها عموماً، أنَّه عندما يُطلَب من الأشخاص التفكير في أفكار ممتعة، فإنَّهم لا يفكرون بالضرورة في أفكار ذات مغزى، ومن ثم ينتقصون من سعادتهم، وعندما يُطلَب منهم التفكير في أفكار ذات مغزى، لا يفكرون بالضرورة في أفكار ممتعة، وينتقصون من سعادتهم مجدداً.

إقرأ أيضاً: ملخص كتاب ما وراء التفكير الإيجابي للمؤلف روبرت أنتوني

يشير كل هذا إلى أنَّ معظمنا لا يمتلك إحساساً بديهياً بكيفية وما يجب التركيز عليه من أجل الحصول على أكبر قدر من المتعة في تجربة التفكير لدينا، ولحسن الحظ، تشير هذه النتائج إلى اثنتين من الطرائق المدعومة علمياً لجعل التفكير بهدف المتعة ممتعاً بالفعل، والآن بعد أن وصلتَ إلى نهاية هذا المقال ولديك بضع دقائق إضافية، فلماذا لا تقضي بعض الوقت مع أفكارك الخاصة؟

إليك ما يمكنني أن أوصي به لتحسين استمتاعك بالأفكار:

  • يجب أن يكون هدفك هو قضاء وقت ممتع؛ أي أن تنوي التركيز على الأحداث والجوانب الخاصة بتلك الأحداث التي تجلب لك المتعة.
  • اختيار موضوعات ذات مغزى وممتعة، على سبيل المثال: المناسبات الاجتماعية والإنجازات.
  • تدوين هذه الموضوعات قبل التفكير فيها؛ حيث يمكنك إلقاء نظرة عليها إذا شعرتَ بأنَّك تواجه صعوبة في التركيز.
  • تحديد وقت خاص لفترات تفكيرك؛ أي أن تختار وقت البدء بهذا النشاط عندما تشعر بالحافز للتفكير بهدف المتعة، وأن تتوقف متى شعرتَ أنَّ هذا التفكير بات يتطلب الكثير من الإدراك.
  • التدريب، كما هو الحال مع كل الأشياء، فقد تتحسن مع مرور الوقت، وكلَّما فعلتَ ذلك، زادت توقعاتك بشعورك بالمتعة في أثناء التفكير.

تُشكِّل الأفكار التي نبتكرها شكل الحياة التي نعيشها، ومن ثم فمن مصلحتنا قضاء بعض الوقت في التفكير بهدف المتعة، بينما نتحدى الأمر في البداية، ولكن مع القليل من الممارسة نمتلك القدرات المعرفية للحصول على المتعة من مجرد الاستمتاع بأفكارنا الخاصة، ففي عالم تتطلب فيه البيئة الخارجية الكثير من اهتمامنا، أعتقد أنَّه يمكننا جميعاً الاستفادة من العودة أحياناً إلى دواخلنا لاستخراج المتعة والمعنى معاً.

المصدر




مقالات مرتبطة