كيف تجعل دماغك يركز على ما يهمك؟

كانت المباراة الأولى في الموسم، وكان لدى "بيتون مانينغ" (Peyton Manning) -أحد أعظم لاعبي الوسط في تاريخ الدوري الوطني لكرة القدم الأمريكية- فرصةٌ لتسجيل رقمٍ قياسيٍّ آخر في الدوري.



لاحظ "مانينغ" شيئاً في وقتٍ متأخرٍ من الربع الرابع، حيث كان مدافعو الفريق المنافس "بالتيمور ريفنز" يتحرَّكون أمامه مستعدِّين للهجوم، لكنَّ شيئاً ما في حركتهم تلك لم يكن على ما يرام. عرف مانينغ ذلك، فقام بخطوةٍ إلى الأمام، وبسط ذراعيه للإشارة إلى فريقه لينفِّذوا تكتيكاً دفاعيَّاً معيَّناً.

اعترض مانينغ مع مدافعي فريقه الكرة كما هو متوقَّع، فأرسل تمريرةً مدروسةً تماماً إلى زميله "ديماريوس توماس" (Demaryius Thomas)، الذي ركض 78 ياردةً دون أن يتمكَّن مدافعو فريق بالتيمور من إيقافه.

كانت هذه التمريرة السابعة لـ "مانينغ" في المباراة، حيث حطَّم رقماً قياسياً في سجِّل الدوري الوطني الأمريكي؛ وربَّما كان الأمر أكثر إثارةً للإعجاب، فقد احتاج ديماريوس إلى أربع ثوانٍ فقط ليخطو إلى خطِّ النهاية، متخطيَّاً مواقع جميع المدافعين الأحد عشر.

دعونا نتحدَّث عن كيفية تمكُّن "بيتون مانينغ" من القيام بذلك، وكيفية تطوير خبراتك في المجالات التي تهمُّك.

تأثير "حفلات الكوكتيل":

أظهر الباحثون في مجموعةٍ متنوعةٍ من الدراسات أنَّ زوَّار مواقع الإنترنت قد تعلَّموا تجاهل انبثاق صفحات الويب المليئة بالإعلانات، حيث يتابع القُرَّاء -في كثيرٍ من الحالات- القراءة مباشرةً، متجاوزين الإعلانات كما لو أنَّها غير موجودة.

تُعرَف هذه الظاهرة باسم "عمى اللافتات" (banner blindness)، وتحدث بشكلٍ أساسيٍّ عندما تقرأ الكثير من المقالات على الإنترنت، وتتعلَّم تجاهل الأجزاء غير الهامَّة من التجربة.

هذه الفكرة الأساسية التي يمكنك التركيز من خلالها على جزءٍ واحدٍ من التجربة وتجاهل الأجزاء الأخرى، هي مفهوم علم النفس المعرفي الذي يُعرَف باسم "الانتباه الانتقائي" -يُطلَق عليه أيضاً "تأثير حفلة الكوكتيل"- والذي يعني أنَّ عقلك يمكنه الانتباه إلى محادثةٍ واحدةٍ في أثناء وقوفه في غرفةٍ مزدحمةٍ مليئةٍ بالأشخاص الذين يتحدَّثون (كما يحدث في حفلات الكوكتيل)، بحيث يساعدك الانتباه الانتقائي في تجنُّب التشويش، والتركيز على شيءٍ محدَّد.

الانتباه الانتقائي هو ما سمح لبيتون مانينغ بتقييم دفاعات فريق "بالتيمور رافينز" على الفور، وتغيير أسلوب اللعب وفقاً لذلك.

لقد أمضى مانينغ آلاف الساعات في ممارسة هذه اللعبة، ودراسة دفاعات الخصوم، والتعلُّم من أخطائه؛ ونتيجةً لذلك، عرف دماغه بشكلٍ غريزيٍ ما الإشارة التي يجب التركيز عليها وما التشويش، فكان يعرف ما يجب التركيز عليه وما يجب تجاهله. لذا، أمكنَ لـ "بيتون مانينغ" اتخاذ قراراتٍ سريعةٍ مبنيةٍ على آلاف الساعات من الخبرة؛ وفي حين قد يرى لاعب الوسط الشاب عشرات الخيارات الممكنة لما سيحدث، يمكن لمانينغ تضييق نطاقه إلى عددٍ قليلٍ من الخيارات، وربَّما حتَّى خيارٍ واحد، وذلك من خلال استخدام الانتباه الانتقائي ليلاحظ العوامل الصحيحة؛ لتكون النتيجة: زيادة النجاح، وهو فارقٌ كبيرٌ بين الهواة والخبراء.

إقرأ أيضاً: 5 خطوات تساعدك لزيادة قدرتك في التركيز

الحقيقة حول إيجاد الحلول:

يبدو أنَّ العالم مهووسٌ بالتحسُّن السريع والأداء الجيد، وربَّما شعرت بهذا أيضاً؛ إذ نريد كلُّنا اختراق ثغرات أجسامنا وأدمغتنا -بالمعنى المجازي للكلمة- لإيجاد حلٍّ مخفيٍّ لزيادة أدائنا العقلي والبدني.

والواقع هو أنَّك عندما تنظر إلى كيفية عمل أفضل الناجحين في العالم، وتفحص ما يحدث حقاً في أذهانهم وأجسادهم؛ فغالباً ما ترى التكرار والاتساق، فمثلاً:

  • عندما يريد "ليبرون جيمس" (LeBron James) زيادة تعافيه من الإصابات وأدائه البدني، ينام لمدة 12 ساعة.
  • عندما يريد أسطورة كرة السلة الرّاحل "كوبي براينت" (Kobe Bryant) تحسين مجموعة مهاراته، يسدِّد 800 تسديدةٍ على السلة.
  • عندما يريد "بيتون مانينغ" رؤية ثغراتٍ في الدفاع، يقضي آلاف الساعات في مشاهدة المباريات السابقة.

من المؤكَّد أنَّ هؤلاء الرياضيون مستفيدون من مورثاتٍ معينةٍ بنسبة واحدٍ في المليون، لكنَّ نجاحهم في المواهب الفطرية يحلُّ جزءاً كبيراً جداً من اللغز؛ إذ سيؤتي نهجهم الدؤوب لإتقان الأساسيات والالتزام الثابت بالاتساق ثمارَه لأيِّ شخصٍ -تقريباً- في أيِّ مجال، بغضِّ النظر عن الموهبة الوراثية.

إقرأ أيضاً: كيف يساعدك التركيز في النظر إلى "نصف الكأس الممتلئ"؟

سر الانتباه الانتقائي:

لدى "بيتون مانينغ" ميزةٌ واضحةٌ واحدةٌ تميِّزه عن معظم الناس الذين يتطلَّعون إلى تطوير الخبرة، وهي: الإحصاءات.

يقيس مانينغ كلَّ ما يفعله: عدد الإيقافات التي يتعرَّض إليها، وعدد التمريرات التي أكملها، وكم يرفع من الأوزان في صالة الألعاب الرياضية، ومدى سرعة الخصم.

لماذا كل هذا هام؟ لأنَّه دليلٌ على ما إذا كان يُحرِز تقدُّماً في حياته وعمله، أم لا؛ ولأنَّه إذ يقيس هذه الأرقام، فإنَّه يتطلَّع أيضاً إلى تحسينها؛ وعندما يفعل شيئاً جديداً وترتفع الأرقام، فهذه إشارةٌ واضحةٌ له على أنَّ هذا السلوك الجديد ناجع.

قياس نتائجك هي الطريقة الوحيدة لمعرفة ما يصلح وما لا يصلح؛ فإذا كرَّرت هذه الدورة لمدة 20 عاماً، فسينتهي بك الأمر لأن تصبح جيداً جداً في التركيز على الأشياء الهامَّة وتجاهل الأشياء التي لا تهم.

إذا كنت تريد أن تتحسَّن، فتدرَّب وقِس تقدُّمَك باستمرار، واستخدم التغذية الراجعة لمعرفة ما يعمل وما لا يعمل، ثمَّ اقضِ وقتك في القيام بمزيدٍ من التكرارات بدلاً من البحث عن ثغرات؛ حيث يقضي الخبراء وقتاً أطول في التركيز على ما ينجح، وتخصيص الوقت هو الطريقة الوحيدة لمعرفة ذلك.

 

المصدر




مقالات مرتبطة