كيف تتخلى عن غربتك النفسية وتصنع واقعك الذي يناسبك؟

عندما يصنع المجتمع الذي نعيش فيه قيماً مختلفة تماماً عما فُطرنا عليه، وعندما تشعر بالقيود والانزعاج في كل تفصيل من تفاصيل حياتك، وعندما تتعامل بالكثير من الطيبة وحسن الظن والعطاء مع الجميع، إلا أنَّك تُفاجأ أنَّ الآخر قد يخدعك، ويكذب عليك، ويستغل طيبتك؛ عندها تسأل نفسك: "أين الخطأ، هل أنا شاذ عن هذا المجتمع، هل كانت طريقة تربيتي خاطئة وغير متلائمة مع مجتمع كهذا؟".



تبدأ بعدها بالدوران في دائرة مفرغة من التساؤلات والاضطرابات، وتخرج إلى الحياة شخصاً جديداً بعد هذا الكم الكبير من الحوارات مع الذات، ومن الملاسنات مع أهلك واتهامهم بأنَّهم السبب في كل خيباتك وصدماتك، معلناً تبنيك حالة الاغتراب عن الآخرين، فقد وجدتَ أنَّه لا نفع من العلاقات الاجتماعية، وأنَّ الجميع مخادع ولا يُؤتَمن له، وتبدأ بعيش سيناريو سوء الظن والشك وسوء النية إلى أن تتحول إلى مريض نفسي ومنفصل عن الواقع.

يختار آخرون التحول الجذري في شخصيتهم بعد جلوسهم جلسات عميقة مع ذواتهم؛ إذ يجدون أنَّ من يمشي ضد التيار هو الخاسر، وأنَّ الرابح الوحيد هو مَن يمشي مع التيار؛ لذلك يميلون إلى التخلي عن قيمهم ومبادئهم والنقمة عليها؛ لأنَّها قد قيدتهم ومنعتهم من الاستمتاع بالحياة، ومن ثم ينطلقون في الحياة بنسخة محدثة، معتقدين أنَّهم أقوياء جداً، دون أن يعلموا أنَّ مَن يخسر نفسه فلا يستطيع أن يكسب أي شيء في الحياة، وأن كل مكاسبهم زائفة ووهمية.

يبقى السؤال الأكثر أهمية هنا: "كيف لي أن أحافظ على قيمي الأساسية وسط مجتمع لم يعد يعترف بها، وكيف لي أن أحافظ على علاقاتي الاجتماعية دون أن أشوه ذاتي من الداخل؟".

يتطلب الأمر في الحقيقة قوة ومناعة نفسية وثقة عالية بالله وبالذات، لكي تصل إلى التوازن ما بين ذاتك والمجتمع، بطريقة ترضي بها ذاتك وتحصل على ما تريد من المجتمع بمنتهى اليسر والمتعة.

أن تشعر بالغربة عن الآخرين إحساس غاية في الألم، وقد يكون له جذور سحيقة من طفولتك؛ لذا يجب عليك أن تسأل نفسك: "ما هو الجذر الأساسي لهذا الشعور؟" فقد يكون الطفل الذي في داخلك بحاجة إلى الأمان والحنان ليس أكثر.

يضعك إحساس الغربة أمام تحدٍ كبير، وهو أن تكون مستقراً ومتوازناً مع أنَّ ما حولك آيل إلى السقوط، وسنكتشف في هذا المقال آلية الوصول إلى التوازن المنشود.

إقرأ أيضاً: إرشادات مهمة للتخفيف من معاناة الغربة

هل تُدرِك تنوع الحياة؟

  • يعيش الكثير من البشر في الحياة متبنين نظرة محدودة وغير شاملة عن تفاصيل الحياة، فيميلون إلى شخصنة الأمور، ولا يتعاملون بمرونة مع الأحداث، فعندما يتألم شخصٌ ما وبكثرة من جراء عدم تعامل الناس معه بالشكل الذي يتوقعه ويريده؛ فهذا يعني أنَّه شخص غير قادر على تقبل الاختلافات. يَتعب كثيراً مَن يعتقد أنَّ الآخر يمتلك ذات قيمه وتصرفاته وأفكاره؛ ونتيجة لذلك ينصدم نفسياً عند حدوث أمر ما من الآخر معاكساً لما كان يتوقعه منه، وقد يصل إلى اتخاذ قرار الاغتراب عن كل الناس.
  • يُدرك الإنسان الواعي تنوع الحياة وأشخاصها، ويعلم تماماً أنَّ هناك مستويات مختلفة من الوعي بين جميع الناس، فلا يقلق من التصرفات السلبية التي يقوم بها الآخرين؛ لأنَّه يعلم أنَّها تعبر عن دواخلهم الناقصة.
  • قد يتخذ مَن يشعر بفجوة القيم بينه وبين المجتمع قراراً متسرعاً ومتهوراً في حق نفسه، كأن يتخذ الاغتراب تماماً عن الآخرين، والبقاء وحيداً، ويولد هذا القرار الكثير من المشكلات النفسية للشخص؛ إذ تحض الفطرة السليمة للإنسان على التواصل والمودة وتقبل الآخر.

على سبيل المثال: قد يكتئب شخص ما عند تواجده ضمن مجموعة بعيدة كل البعد عن قيمه، وتعتمد على المجاملات والكلام المعسول، دون أي احترام لقيمة الصدق، وبعد ذلك قد يتخذ القرار بهجر كل المجتمع، أو قد يتخذ القرار بالتخلي عن كل قيمه والسير مع التيار، وكلا الخيارين كارثيين؛ لأنَّهما يبعدانه تماماً عن التوازن المنشود.

علاج الغربة النفسية عن الآخرين:

إن كنتَ تشعر بالغربة ضمن المجتمع، فلا تجد أموراً مشتركة بينك وبين المحيطين بك، ولا تشعر بالسعادة لوجودك معهم، فعليك أن تتبع الخطوات التالية:

1. ابتعد عن الشخصنة:

إن وُجِهت إساءة إليك فلا تأخذها على أنَّها إساءة شخصية لك، فاعلم أنَّ "الإناء بما فيه ينضح"، والإساءة ما هي إلا تعبير عن مستوى وعي الطرف الآخر، ومدى تقديره لذاته.

من جهة أخرى، اعلم أنَّ الإساءة لا تعدُّ إساءة إلا إذا قمت بتفسيرها على أنَّها إساءة، أما في حال تعاملك السلس معها وعدِّها أمراً يعود إلى الشخص ذاته ولا يَمسُّك في شيء؛ فعندها لن يعود لها ذاك التأثير السلبي.

2. اربط قيمتك مع الله تعالى:

عندما تربط قيمتك مع الله وحده؛ عندها لن يهمك ما يقوله الآخرون عنك، فما يعنيك هو إرضاء الله وحده، وتَحظى بقدر كبير من الراحة النفسية إن فعلت هذا وستتحرر من السعي إلى إرضاء الآخرين.

3. احتفل بالاختلاف:

في حال تعرضك إلى الكثير من الصدمات النفسية وخيبات الأمل؛ فكن واثقاً من أنَّ الخطأ لا يكمن في تبنيك قيمة الصدق ولا في نيتك الطيبة ولا في حسن ظنك، بل يكمن في عدم مرونتك أثناء تعاطيك مع الآخر؛ لذا يجب عليك أن تتوقع اختلاف الآخر عنك في منظومة القيم، فالشيء الذي يتصدر قائمة الأولوية لديك، قد لا يعني شيئاً للطرف الآخر.

إذاً، يمنحك هذا التصور الجديد لشكل العلاقات راحة نفسية ومرونة أكبر في التواصل، ويجعلك أكثر موضوعية مع الآخرين؛ بطريقة لا تعقد فيها عليهم الآمال العظيمة، ولا تُسيء أيضاً الظن بهم، بل أن تتقبلهم.

4. ارسم حدودك:

يشعر الكثير من الناس بالغربة النفسية من جراء عدم قدرتهم على رسم حدودهم الخاصة؛ إذ يقومون بإرضاء الآخرين على حساب أنفسهم على سبيل المثال، الأمر الذي يجعلهم تحت ضغط نفسيٍ، ويجعلهم يتحاشون التعامل مع المحيط.

وهنا على الشخص أن يحدد الأمور التي يحبها والأمور التي لا يتقبلها ويتعامل مع الآخرين على أساس حدوده الشخصية، تمنحك الحدود الشخصية وضوحاً في علاقاتك مع الآخرين، وراحة كبيرة لك ولغيرك.

شاهد بالفيديو: 5 خطوات لوضع حدود شخصية لنفسك

5. اكسر التعلق:

يُضعِفك التعلق ويفقدك توازنك واستقرارك النفسي، ويعطيك درساً في توجيه بوصلتك، إذ يُعلِّمك أن توجه بوصلتك للداخل وليس للخارج، أي ألا تعلق أملك على الآخرين، وألا تتوقع منهم شيئاً، وألا ترسم توقعات إلا على نفسك، وأن تدرك أنَّ مصدر كل شيء موجود في داخلك، وليس في الخارج.

6. ابنِ واقعك الجميل:

إن كنتَ ممن يتخذون الصدق والوضوح والالتزام قيماً عليا في حيواتهم، فلا تكتئب في حال كان المجتمع لا يشبهك، بل اعمل جاهداً على صنع واقعك الذي يشبهك، وذلك من خلال وجودك مع أشخاص تتقاطع قيمك مع قيمهم.

إنَّ تحديدك الجاد لحدودك الشخصية ومعرفتك القوية لقيمك وإدراكك العميق لقيم الآخرين المختلفة عنك وعدم تعويلك على الآخرين؛ سيمنحك الاستعداد للتعامل مع جميع أنماط الشخصيات بمنتهى الحب.

إن كنتَ ممن تعرض للخيانة، فاعلم أنَّ الخائن هو الخاسر، وأنَّه فاقد لإنسانيته وقيمه؛ لذلك إياك أن تتشوه من الداخل وتخسر نفسك لمجرد تعرضك لتصرف طائش من شخص غير مسؤول.

7. كن عملياً:

يجب عليك أن تكون عملياً ومرناً في حياتك، فإن كنت إنساناً طموحاً وتريد بناء مشروعك الخاص؛ فلا بد من أن تتعامل مع جميع الشخصيات من أجل تسهيل أمورك وأهدافك، بينما إن كنت شخصاً منعزلاً عن الجميع فحينها سوف تفقد الكثير من الفرص الضرورية لتطورك.

8. عاهد نفسك بالالتزام:

اعلم أنَّ شعور الوحدة النفسية له جذوره الطفولية؛ لذلك اسأل نفسك عن مصدر هذا الشعور واعمل جاهداً على العودة إليه وتطهيره.

فقد تكون قد حُرمت الحنان العائلي، أو قد تعرضت إلى أحداث قاسية في طفولتك، وهنا يجب عليك أن تتعهد للطفل الصغير الذي في داخلك بالالتزام الدائم بأنَّك ستكون بجانبه دوماً، وتسانده على الدوام.

يخلق هذا التعهد راحة نفسية لك، وسلاماً داخلياً، ويبني علاقة متينة بينك وبين نفسك، فكلما شعرت بمشاعر الوحدة النفسية، يجب عليك أن تذهب إلى المرآة وتقول لنفسك: "لا تقلقي، فأنا معك الآن، وسأبقى معك مدى الحياة، فنحن السند الحقيقي لبعضنا الآخر".

9. العادات:

يتعاظم شعور الوحدة في حال كان لديك وقت فراغ كبير، إذاً يجب عليك أن تملأ وقتك بعادات صحية مفيدة؛ كأن تتريَّض، أو ترسم، أو تقرأ، أو تتعلم لغة جديدة.

10. ركز على النعم:

يأتي شعور الوحدة النفسية غالباً من مشاعر الرفض والتذمر؛ إذ يركز العقل على الأمور السلبية الموجودة في حياته، وفي الأشخاص المحيطين فيه، ويعتاد العقل بعدها على الهروب من هذه المشاعر المؤلمة من خلال تجنب الاحتكاك مع أي أحد، إلى أن يغترب عن المجتمع.

وهنا على الإنسان تدريب ذاته على منهجية التفكير الإيجابي، كأن يبدأ في التركيز على الإيجابيات بدلاً من السلبيات، فيركز على امتلاكه الصحة الكاملة، بدلاً من عدم امتلاكه المال.

من جهة أخرى، يجب على الشخص أن يتقبل الألم، فلا مشكلة في أن يعيش مشاعر سلبية في بعض الحالات، بشرط ألَّا يستمر فيها وأن يتعلم منها.

إقرأ أيضاً: 7 طرق لتبنّي التفكير الإيجابي كمنهج حياة

11. الإبداع:

اعلم أن المعاناة تخلق الإبداع، وأنَّ معظم المبدعين عاشوا حياة صعبة للغاية، ولكنَّهم اتخذوا من تلك الصعوبة دافعاً عميقاً لكي يُنتِجوا أروع الأمور؛ لذا لا تستسلم لظروفك القاسية، بل استخدمها لاستنهاض إبداعك وتميزك.

الخلاصة:

الغربة النفسية ليست شيئاً سئياً بل قد تكون واجبةً، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلامُ غريباً وسيعودُ غريباً كما بدأ فطُوبِى للغرباءِ، قيل يا رسولَ اللهِ: مَن الغرباءُ؟ قال: الذين يَصلُحون إذا فسد الناسُ، وفي لفظٍ آخرَ قال: هم الذين يُصلِحون ما أفسد الناسُ من سنتي"، والحكمة تكمن في معرفة متى يكون الغربة النفسية صحيحة ومتى تكون خاطئة.

المصادر: 1، 2، 3، 4




مقالات مرتبطة