كيف تتخلص من ندمك؟

تخيل أنَّك في حفل كل الحضور فيه عبارة عن نسخ سابقة من نفسك؛ حيث يوجد ملعب يضمُّ أطفالاً يمثلون جميع مراحل طفولتك؛ وغرفةٌ تضم نسخاً منك حينما كنت مراهقاً، يشاهدون مقاطع الفيديو الموسيقية، ويلعبون ألعاب الفيديو.



ويتجول في مساحة أخرى العشرات من البالغين الذين يشربون المشروبات الضارة التي كنت تتناولها حينما كنت يافعاً ومفلساً، وأشخاص يمثِّلون كل فترة من فترات حياتك المتميزة؛ فهناك نسخة منك حينما كنت طالب جامعة يغمرك شعور انعدام الأمان؛ ولكنَّك تحاول أن تبدو أكثر ذكاءً مما أنت عليه في الواقع.

وفي زاوية أخرى تقبع النسخة الغارقة في مشاعر العجز واليأس والإرهاق، هذه المشاعر القادمة من فترة حصولك على وظيفتك الأولى؛ وعلى مقربة منه يقف شاب تتلألأ عيناه براءةً حينما وقعتَ في الحب لأول مرة.

قد يبدو هذا الأمر ممتعاً للوهلة الأولى؛ ولكنَّ حفلاً كهذا سيكون في الواقع مملاً للغاية؛ ذلك لأنَّك تعرف كل تفصيل عن كل نسخة منك تتحدث إليها، بينما لا يعرف أي منهم سوى جزء بسيط مما تعرفه.

مع ذلك، لا يعني هذا أنَّ الأمر لن يكون لطيفاً؛ إذ ستجلس مع نفسك عندما كنت مراهقاً غريب الأطوار، وستطمئنه ألا يقلق، فسنوات الدراسة الثانوية الشاقة ستمضي، وستتحسن الأمور بالتأكيد، كما ستتحدث إلى النسخة المغرورة ذات الثلاثة والعشرين ربيعاً منك، وتخفِّض من حدة غروره بشيء من الرأفة، وستتحدث إلى تلك النسخة المُتيَّمة التي وقعت في الحب للمرة الأولى، وتنعم بدفء مشاعر علاقة جديدة ويافعة، ولكن دون أن تكشف له أنَّ صاحب الحظ السعيد ذاك على وشك تحطيم قلبك بكل ما أُوتي من قسوة.

ولكن بعدها، ستجد نسخة سابقة مميزة من نفسك؛ تلك النسخة التي لطالما تجنبت لقاءها، ذلك الشخص الذي ارتكب ذنباً فظيعاً، ولم تجد طريقةً لتسامح نفسك عليه، وإذا أُجبرت على التحدث إليه أخيراً، فستبدأ في توبيخه على الفور، وستصرخ في وجهه قائلاً: "كيف أمكنك فعل ذلك؟! بماذا كنت تفكر؟ يا إلهي كم أنت معتوه!".

وبعدها سيفسد الحفل، ولن يتجلى فيه سوى نسختك الحالية وأنت تصبُّ جام غضبك على تلك النسخة الماضية، وجميع نسخك الأخرى تنظر إليكما برعب شديد، ومشاعر الإهمال والتخلي تجتاحهم بشدة.

سينهار الحفل الذي يضم جميع نسخك الماضية، وسيتوقف الزمن عند هذه اللحظة المروعة في حياتك، والتي من شأنها أن تمتص فرحة وحيوية شخصياتك الأخرى.

يمثِّل هذا الحفل ما يحدث معك حينما تشعر بالندم؛ إذ تتجاهل وتتخلى عن الاحتفال بجميع الأجزاء المثيرة للاهتمام في حياتك لتصبَّ تركيزك على ذاك الخطأ الذي يطاردك.

يُعدُّ الندم شكلاً من أشكال كراهية الذات؛ فإذا كانت شخصيتك اليوم هي نتاج جميع الأفعال التي قادت بك إلى هذه اللحظة، فإنَّ رفض فعلٍ ما ارتكبته في الماضي ما هو إلا رفض ذلك الجزء من شخصيتك في الحاضر، وفي حين يسبب كره جزء من نفسك في الحاضر معاناة نفسية كبيرة، فإنَّ كره جزء من ماضيك لا يختلف عن ذلك كثيراً أيضاً؛ فهو يغرس مشاعر الخزي والاستياء، وكراهية الذات في داخلك، ويجعلك عبئاً أينما حللت.

لا يكمن سر التغلب على الندم في تجاهله، بل في مواجهته، من خلال التحدث مع تلك النسخة السابقة منك مباشرةً، وفهم سبب تصرفها على ذلك النحو؛ إذ يتمحور الأمر حول التعاطف معها، ورعايتها، ومسامحتها في نهاية المطاف.

إقرأ أيضاً: 5 أنواع من الحديث مع النفس يُحبِّها العقل أكثر من غيرها

التعلُّم من ندمك:

ما هو الفرق بين الخطأ والندم؟

إنَّ الندم هو مجرد خطأ لم نتعلم الدرس المناسب منه بعد؛ ففي كثير من الأحيان، يجتاحنا الندم لأنَّنا ارتكبنا ذنباً رهيباً لدرجة أنَّه يصعب علينا تعلم الدرس منه، ولكن غالباً لا ينبع شعورنا بالندم بسبب أفعالنا الشائنة فحسب، بل لأنَّنا لا نتمكن من استخلاص عبرة تفيدنا في حياتنا.

يُعدُّ التعلم من أخطائنا عنصراً أساسياً للغاية؛ كي لا نتحول إلى أشخاص سيئين؛ فإذا ارتكبنا خطأً ما، ثم تعلَّمنا منه، سنتفاجئ من مدى الفائدة التي سنجنيها من ذلك الخطأ، إنَّ مَثَلَ تكوين عادة التعلُّم من إخفاقاتنا كمَثَلِ إكسير سحري يحوِّل جميع اللحظات المحرِجة والمخجِلة في حياتنا إلى عِبَرٍ كفيلة بتنميتنا، ومع أنَّ ذلك قد لا يزيل كل المشاعر السلبية التي تغمرك، إلا أنَّه يمنع الأمور من أن تزداد سوءاً بالتأكيد.

يؤدي الندم دوراً تكيفياً؛ بطريقة يمكنه فيها أن يساعدنا أو يؤذينا؛ فعندما نشعر بالندم، يمكننا أن نتخبط في أخطائنا الماضية، أو أن نتخذ خطوات تضمن عدم تكررها؛ على سبيل المثال: ربما أفسدت علاقةً قبل سنوات، وما زال الأمر يؤلمك عندما تفكر به، وبدلاً من أن تجلد ذاتك، استخدِم التجربة لتحديد المشكلات التي تكمن وراء تصرفاتك تلك:

  • لعلَّك كنت مشغولاً للغاية.
  • أو ربما كنت أنانياً جداً.
  • أو ربما كنت لا تتقن التعبير عما في داخلك.
  • أو ربما كنت تفرض شروطاً مستحيلةً على شريكك.

لن تتمكن من تجاوز الأمر من خلال إيجاد تبريرات لكل هذه المشاعر المزعجة، ولوم نفسك أو العالم على سوء حظك؛ بل من خلال تقبُّل أخطائك، وفهم ما حدث، وربط هذه التجربة بفهمك لما أنت عليه اليوم؛ إذ سيجبرك ذلك على تحمل مسؤولية أخطائك، وحينما تفعل ذلك، لن تكررها مجدداً، والذي يُعدُّ الهدف من الشعور بالندم، ولكنَّ القول أسهل بكثير من الفعل بالطبع.

شاهد بالفيديو: 10 أسباب وراء شعورك بالندم

التشكيك بالقصص التي ينسجها عقلك:

يوضِّح المؤلف "مارك مانسون" (Mark Manson) أنَّ عقولنا دائماً ما تنسج قصصاً لمحاولة فهم مشاعرنا وتجاربنا، والتي نادراً ما تكون دقيقة، وربما لا تساعدنا أبداً؛ ولكنَّنا نحتاجها لأنَّها ترسِّخ إحساسنا بذواتنا.

حينما نتعلم كيفية التشكيك بتلك القصص، يمكننا أن نكوِّن منظوراً أكبر حول حجم الضرر الذي سببته تصرفاتنا، وإذا وضعنا أنفسنا موضع التساؤل بكل بصدق، غالباً ما سنكتشف أنَّ الأمر لم يكن سيئاً بقدر ما تصورنا.

على سبيل المثال: لنفترض أنَّ أحدهم خسر كل مدخراته في شركة قائمة على التسويق الهرمي، وينتابه الآن شعور كبير بالاستياء؛ إذ تكرهه زوجته، ويسخر منه أصدقاؤه، ولا يستطيع دفع إيجار منزله، وقد أصبح كل شيء في حياته على وشك الإنهيار.

وفي تلك اللحظة، وبسبب تجربته المؤلمة، ينسج قصةً عن نفسه، ويفكِّر في سره قائلاً: "لقد خسرتُ كل أموالي، ودمرت حياتي لأنَّني أحمق، ليتني أستطيع العودة بالزمن إلى الوراء، وتغيير ما حدث."، فكل ما يتملكه الآن هو شعور الندم.

تكمن خطورة مثل هذه القصص في أنَّها تدوم، ويطول أمدها؛ ذلك لأنَّ عقولنا هي عبارة عن آلات تصنع المعنى، وتحمل القصص السلبية بشكل خاص أثراً خبيثاً للغاية؛ فإذا ظلَّ يعتقد أنَّه شخص سيء، ولا يعرف التعامل مع ماله، فسيفسر كل تجربة جديدة يخوضها ضمن إطار التفكير هذا، كما سيفسر الأمور الجيدة التي تحدث معه على أنَّها مجرد ضربة حظ، وسيلوم نفسه حينما يحدث أي أمر سيء في المستقبل.

تكمن مشكلة القصص التي ينسجها عقلنا في أنَّها قصيرة النظر، وانفعالية، وأنانية؛ فالأمر الذي يغفل عنه هذا الشخص هو أنَّ خسارة أمواله ستعود عليه بفوائد خفية على الأمد الطويل.

فإلى جانب تعلُّم عدم استثمار أمواله في شركات مشبوهة، فإنَّ تجربته ستختبر مدى التزامه بزواجه، ويمكن أن تغير علاقته وفلسفته المالية إلى الأفضل، وسيتعلم أنَّه يحتاج إلى أقل بكثير ليعيش مما كان يتوقع، كما سيتمكن من استئصال جميع القيم السطحية والمادية التي كان يحملها طوال حياته، واستبدالها بأخرى سليمة وغير مادية، وسيختبر مدى عمق صداقاته، وسيتقرَّب من بعض أفراد أسرته الذين يساعدونه حينما يحتاج إليهم، ويمكن أن تصبح تجربته بمنزلة عبرة، تحذِّر الآخرين من الوقوع ضحيتها.

وإذا ما مرت سنوات طويلة على تلك التجربة، ونظر إليها نظرةً أكثر اتساعاً، فقد يتذكر الماضي يوماً ما، ويقول: "لقد كان ذلك أفضل شيء حدث لي على الإطلاق"، وفي واقع الأمر، يعترف معظم الناس بأنَّ أكثر التجارب التي مرت بهم إيلاماً، غالباً ما كانت أكثرها أهميةً، وأثراً في حياتهم؛ ولكن لتبلغ هذه المرحلة من حياتك، يجب عليك أن تتوقف عن عرقلة نفسك، وتتخلص من قصصك التي لا جدوى منها.

إقرأ أيضاً: 9 خطوات تساعدك على التعلم من أخطاء الماضي

استعادة شريط ذكرياتك المؤلمة مراراً وتكراراً:

حينما نشعر بالندم، فإنَّنا نختار استعادة تجارب مواضينا بكل قسوتها؛ إذ نعيد سرد قصصنا المؤلِمة مراراً وتكراراً، ونعيش كما لو أنَّ الماضي لا يزال حياً، مع أنَّه لم يعد يفسِّر العالم بصورة مقنعة بالنسبة لنا، وما زالت تلك القصص المؤلِمة تؤذينا بشدة.

تكمن المشكلة في أنَّنا نرتبط بهذه الفرص الضائعة؛ إذ نعدُّ هذه الإخفاقات بمنزلة هويتنا المفقودة، والأشخاص الذين كان يجب أن نكون عليهم؛ ولكنَّنا لم نتمكن من ذلك، ومن ثم نعذِّب أنفسنا بهذه الصورة المثالية.

لنفترض أنَّك تعمل في وظيفة غير مجدية، ولم تعد تتمتع بالمرونة التي كنت تتمتع بها في شبابك؛ لذا تعتقد أنَّ الأوان قد فات لفعل أمر مختلف؛ فأنت أكبر من أن تعود إلى مقاعد الدراسة، ومتمرِّسٌ في مهنتك للغاية لتغامر وتغيِّرها، ومستقر للغاية في حياتك بطريقة لا يمكنك فيها إجراء تغييرات من شأنها أن تؤثر في أسرتك، (قد تكون جميع هذه القصص خاطئة بالمناسبة)، لقد كوَّنتَ سابقاً النسخة المثالية من نفسك، والتي تعكس الشخص الذي لطالما أردت أن تكون عليه قبل 10 أو 15 أو 20 عاماً، وليس ما أنت عليه اليوم؛ إذ تتميز بأنَّك:

  • يافعٌ، لأنَّك من المفترض أن تدرس في ذلك الوقت.
  • أعزبٌ ولا يتحمل المسؤوليات؛ لأنَّك من المفترض أن تؤسِّس لحياتك المهنية خلال هذه المرحلة.

أولاً، وقبل كل شيء، يُعدُّ الشباب مجرد فكرة وهمية قررتَ أنَّها هامة، وليس عليك أن تعتقد ذلك إذا كنت لا تريد ذلك.

لنفترض أنَّك كنت تعتقد أنَّك ستكون موسيقياً، ثم تركت مدرسة الموسيقى، هذا لا يعني أن تندب حظك، وتفكر قائلاً: "ليتني لم أترك الدراسة، كان بإمكاني أن أصبح موسيقياً محترفاً؛ ما الذي دهاني؟" بل أن تدرك أنَّ تلك الرغبة لم تكن سوى مجرد فكرة اعتباطية تماماً في ذهنك، ويمكنك تغييرها.

وأما السبب الثاني الكامن وراء كون هذا الهوس بصورة ذواتنا المثالية غبياً للغاية، هو أنَّه حتى لو تمكنت من استعادة إحساسك بشبابك بطريقة ما، فربما سيتطلب الأمر خداع نفسك بطريقة مؤذية أخرى.

ومع مرور كل عام، تكبرُ وتكبر معك مسؤولياتك، وتبتعد أكثر وأكثر عن تلك الصورة المثالية لذاتك اليافعة، وتنسل بعيداً عنك؛ فتندم على ذلك كثيراً، وتتحسر على الوقت الذي ضاع.

تخلَّص من هذه القصة؛ لأنَّها لم تعد تخدمك، وليست صحيحةً بالضرورة، ولم تكن كذلك على الإطلاق، بدلاً من ذلك، اختر المهنة التي تناسبك بالحكمة التي تمنحك إياها سنين عمرك، وبعد أن امتلكت فكرة عما ترغب بفعله؛ فالتقدم في السن له الكثير من المزايا، التي يمكنك الاستفادة منها، والمضي قدماً، وحينما تتخطى ندمك، وتتقبل أنَّ المثالية ما هي إلا وهم، فإنَّك تتيح المجال لنفسك لتحمل مسؤولية الحاضر.

إقرأ أيضاً: طريقة إجراء تغيير مهني في سن الخمسين لتحقيق فرص عظيمة

الندم والمسؤولية:

إذا أردت أن تتجاوز علاقةً مخفقةً، يجب عليك أن تتقبَّل أنَّ الجزء الذي ولد وعاش فقط حينما كنت برفقة ذلك الشخص، قد رحل الآن، ينطبق الأمر نفسه على الندم؛ إذ عليك أن تطوي صفحات الماضي من خلال التخلي عن ذلك الجزء الضائع من نفسك إلى الأبد؛ فتخطيه ضروري كي تتمكن من إدراك ما يعلِّمك إياه ندمُك.

وهنا تكمن المفارقة؛ فإذا ما عدت إلى الحفل الذي تحييه نسخُك الماضية، ستكتشف أنَّ النسخة الوحيدة التي تستطيع أن تعلِّمك أمراً لا تعرفه بالفعل هي "نسختك النادِمة"؛ فهي قادرةٌ على أن تُريك الأخطاء التي ارتكبتها في الماضي، واللحظات التي لم تتمكن فيها من فهم ذاتك، والوقت الذي رفضت فيه تحمُّل مسؤولية حياتك وألمك.

غالباً ما نتشبَّث بندمنا بوصفه محاولة أُخرى لتجنب تحمُّل المسؤولية، ولكنَّ مواجهة الجزء النادِم من أنفسنا تجعل هذه المسؤولية لا مفر منها؛ إذ علينا أن نواجه، ونتقبَّل حقيقتنا، والذي سيكون أمراً مؤلماً على الأرجح.

يقودنا الندم إلى التأرجح بين طيفٍ من الحالات العاطفية؛ إذ تقبع على أحد جوانبه عواطف المرارة والأسى التي تجتاحنا حينما نتذكَّر مقدار مساوئنا، وفداحة أخطائنا، ولكنَّ الجانب الآخر، الذي يجعل الأمر يستحق كل العناء، يحمل النور الذي يضيء عتمتنا، ويرشدنا إلى فهم أنفسنا بشكل أفضل، وتقبُّل مساوئنا وأخطائنا في نهاية المطاف.

إنَّ لهيب الندم الهادئ الذي يحرقك مع كل شهقة من أنفاسك منذ سنوات طويلة يعادل ألف ميتة؛ لذا دع ندمك يتحول إلى نيران مستعرة تلتهم كل آلامك، لتزرع بعدها بذوراً خيرةً في رمادها.

المصدر




مقالات مرتبطة