كيف تتخلّص من السعي إلى المثالية!



أتى جاري إلى باب منزلي بينما كنت أخبز أول رغيفٍ من الخبز الخالي من الجلوتين، وقال إنَّه معجبٌ بأنظمتنا الغذائية، وأخبرني كيف أنَّه يبذل مزيداً من الجهود لاستهلاك كميات أقل من السكر فقلت له: "لقد سمعْتُ من كثيرٍ من الناس أنَّ ذلك مهمٌ جداً بالنسبة إليهم، لكنَّني لا أعتقد أنَّني أستطيع التوقف عن تناول أشياء أخرى، أعني بعد أن تخلصْتُ من الألبان، والأجبان، واللحوم، والكافيين، والسكر ما الذي سيبقى؟". ضحك قليلاً وقال: "حسناً يجب عليك ألَّا تُحمِّل نفسك أكثر مما تُطِيْق. لا يجب عليك أن تكون مثالياً".





أنا أعترف أنَّ لدي رغبةً في أن أكون شخصاً مثالياً، فأنا أريد أن يكون كل شيءٍ أفعله كذلك وإلَّا لن أفعله أبداً، وأظنَّ بأنَّي لست الوحيد الذي يفكر بهذه الطريقة.

إنَّ المثالية هي المرض الذي يعاني منه الأشخاص الطموحون في كل مكان، فبعض الناس قد يكونون مبهورين بها لكنَّ الشخص المثالي فقط هو الذي يعلم العذاب الحقيقي الذي تسببه هذه العادة.

في الوقت الذي يُعَدُّ فيه الكثير من الناس محظوظين لأنَّهم لا يخوضون يومياً هذه المعركة، ثمَّة الكثير من التركيز على الكمال، لا سيما في ثقافةٍ أصبح فيها إخفاء العيوب بالفوتوشوب أمراً معتاداً، وأضحى من الصعب تجنُّب الوقوع في فخ ترقُّب الكمال حتى لو كنْتَ شخصاً لا مبالياً.

بعد أربع سنوات من هذه المعاناة، جَمَعْتُ بضع جُمَلٍ أردُّ بها على ذلك الصوت المنتقد الذي يخاطبني من الداخل ويعلو بشكلٍ خاص حينما أقرر عدم الذهاب إلى التمرين، أو احتساء فنجانٍ من القهوة في فترة بعد الظهر، أو التخلف قليلاً عن موعدٍ نهائي مهما كان الجو جميلاً في الخارج.

لن يكون مفعول هذه الجُمَل ناجحاً دوماً (فلا يوجد شيءٍ مثالي)، لكنَّها يمكن أن تساعد بكل تأكيد في تعديل الوضع قليلاً:

1. الكمال مملّ:

تُعَدُّ عباراتا "خالٍ من العيوب" أو "لا تشوبهُ شائبة" مرادفتين لكلمة "الكمال"، وهي جميعاً كلماتٌ يُعَدُّ استخدامها لطيفاً وجيداً حينما تشتري سيارةً جديدة، لكن مَنِ الذي يريد أن يصف رحلته ويقول أنَّها كانت رحلةً "مثالية"؟ أو إذا خرجت مع أصدقاءك لحضور حفلةٍ ما مَنْ مِنْكم يريد أن تكون الليلة "خاليةً من العيوب"؟

إنَّ أفضل القصص تحدث حينما تسير الأمور بشكلٍ سيء، ففي إحدى الليالي وبينما كنا نتناول العشاء، كانت أختي وزوجها يتذكران بشوقٍ شهر عسلهما ويتحدثان عن السرطانات الوردية التي وجداها في حوض الاستحمام، والباص المليء بالدجاج الذي ركباه، وكيف جرَّا حقائبهما على الطرقات الترابية.

لقد كانا يبتسمان ويضحكان وهما يرويان هذه القصص، ولو أنَّهما قضيا شهر عسلٍ مثالياً لما سمعنا حديثهما، فالعيوب والعثرات هي التي تجعل أحداث حياتنا تبقى محفورةً في الذاكرة. تقبَّل وجود الفوضى في حياتك وانسَ أنَّ ثمَّة شيئاً خالياً من العيوب وقل لنفسك: "الكمال ممل".

2. التدرُّب يؤدي إلى الأفضل:

استبدل بالعبارة القديمة التي تقول: "التدريب يؤدي إلى الإتقان" هذه العبارة الجديدة، فقد لا يكون مدرّس البيانو هو من قال هذا أول مرة لكنَّه هو الذي غرس هذه الفكرة في عقلي. يمكنك أن تعزف اللحن نفسه مراراً وتكراراً وأن تتمرن عليه طول حياتك لكنَّك لن تعزفه مثلما كان من المفروض أن يُعزَف. لقد كنت أرى أنَّ هذا الأمر يشكل تحدياً بالنسبة إليَّ لكن بعد أن أصبحت فناناً صرت أرى أنَّه أمرٌ واقعي.

حتى الشخص الذي كتب المقطوعة الموسيقية لا يستطيع أن يعزفها بالطريقة نفسها دائماً، فالآلات وحدها من تستطيع فعل ذلك. والأمر نفسه ينطبق على أي جانبٍ في الحياة سواءً كان حدثاً رياضياً، أم عملاً في المكتب، أم نزهةً في الحديقة.

يمكنك العمل بجد وقضاء حياتك كلها في التمرن لكنَّك لن تصل أبداً إلى الكمال فالظروف تتغير، وأحوال الطقس تتبدل، والناس يتدخلون، لكن إذا كنت لا تحاول أن تكون مثالياً وتسعى فقط إلى أن تكون أفضل من قبل فالأمر يتعلق بك وبما تستطيع فعله.

إقرأ أيضاً: لا تهتم بالصغائر في العمل (ابتعد عن المثالية!!)

3. ابذل قصارى جهدك:

شكوْتُ يوماً ما لصديقي خوفي من ألَّا تكون المقالة التي كتبتها جيدةً بما فيه الكفاية، فسألني: "أَبَذَلْتَ قصارى جهدك؟" فأجبته: "نعم أظن ذلك"، فردَّ قائلاً: "فهذا إذاً كل ما تستطيع فعله".

لقد كان هذا كمصباحٍ صغير أضاء في رأسي، لقد ساعدتني هذه الفكرة في التخلص من كثيرٍ من مشاعر القلق والتوتر. أستطيع عادةً أن أعرف ببراعةً تامة متى أُصاب بالتراخي، لكن يبدو أنَّني لم أعرف يوماً إذا ما كنت أبذل قصارى جهدي أم لا.

لقد ساعدني برنامجٌ تدريبيٌّ حضرته مؤخراً في التعرف إلى هذا الشعار البسيط: "ابذل قصارى جهدك ولا تلتفت إلى أي شيءٍ آخر. إذا فعلْتَ ذلك سيفقد وحش الكمال أنيابه".

4- الجميع يرتكبون الأخطاء:

استدعاني أحد الأصدقاء ليحكي لي عن رسالةٍ إلكترونية تلقاها، فقد أرسل له مدير مدرسته المعروفة علامات جميع الذين يحضرون البرنامج التدريبي الذي يقدمه، بيد أنَّه أخطأ ووضع اسم زميلٍ له مكان اسمه!

تعرضنا جميعاً لهذا الموقف من قبل فمهما كان عدد السنين التي عشناها، ومهما كان عدد السنوات التي قضيناها في أداء وظائفنا، أو عدد الساعات التي قضيناها ونحن نؤدي عملاً ما، لا بد من ارتكاب الأخطاء وهذا أمرٌ طبيعي.

كلما ارتكبْتُ خطأً ما أحاول جاهداً ألَّا أوبخ نفسي، لكن لأنني شخصٌ مغرمٌ بالكمال تصبح المسألة مسألة خوف من ارتكاب الأخطاء، لا مسألة خوف من الأخطاء التي ارتكبتها بالفعل وهذا قد يصيبني بالشلل.

لقد فكرْتُ في قصصٍ كالتي ذكرناها في الأعلى أو في هفواتٍ أخرى ارتكبْتُها أنا في الماضي، الحياة لم تنتهي بالنسبة إلى ذلك المدير وأنا لا زلنا على قيد الحياة، الجميع يرتكبون الأخطاء وتمضي أيامهم بشكلٍ طبيعي.

إقرأ أيضاً: 7 نصائح من الخبراء لحياة مثالية خالية من المشاكل

5- تصرَّف على طبيعتك فلا أحد يفعل ذلك بطريقةٍ أفضل من التي تفعلها أنت:

قرأْتُ مرةً أن أحد أبرز الأسباب التي تدفع الناس إلى السعي نحو الكمال، هو رغبتهم في ألَّا يكون فيهم شيءٌ يمكن أن يُنتقَد، وهذا السبب يروق فعلاً بالنسبة لي فقد عانيْتُ دائماً من الانتقادات.

لكنَّني أدركت أنَّني إذا حاولت أن أكون شخصاً مثالياً لأتجنَّب انتقادات الناس، فأنا بذلك لا أرفض قبول نفسي فقط بل أرفض النمو أيضاً وهذا يُعَدُّ ثمناً باهظاً، لا سيما حينما يقول الواقع أنَّه لا يوجد أحدٌ يستطيع تجنُّب التعرض للانتقاد لأنَّه لا يوجد أحدٌ مثالي.

وحينما لاحظْتُ أنَّني أقوِّم كل جزءٍ من شخصيتي ومن اللحظات التي أعيشها خلال اليوم باستخدام معايير مثالية، سألْتُ نفسي: "أأحاول أن أتجنَّب انتقاداتٍ خيالية؟ تصرَّف على طبيعتك".

من الصعب أن تسمع كلاماً سلبياً يُقال في حقك، لا سيما حينما تقضي يومك كله وأنت تُسْكِت الصوت المُنتقِد الذي يخرج من داخلك. يتيح لك قبول نفسك على طبيعتها وقبول ما تفعله الآن أن تتعامل بأريحيةٍ أكبر مع نفسك، ويجعل تقبُّل عبارات الانتقاد البنَّاء الودودة أمراً أسهل.

جميعنا ارتكبنا الأخطاء فهي جزءٌ من إنسانيتنا، وحينما نتعلم قبول كل جزءٍ من شخصيتنا والتخلي عن الحاجة إلى السيطرة، والسعي إلى الكمال سنصبح أكثر تكاملاً. إنَّه هدفٌ يستحق أن تقضي كل حياتك وأنت تسعى إلى تحقيقه.

المصدر




مقالات مرتبطة