كشف لغز المنطق

في العام الماضي قرأتُ كتاباً يُدعى "لغز المنطق" (The Enigma of Reason) للمؤلفَين "دان سبيربر" (Dan Sperber)، و"هوجو مرسييه" (Hugo Mercier)، لقد أعجبني هذا الكتاب جداً، لذا قررت مناقشة وشرح الأفكار الموجودة فيه في المقال هذا



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن المدوِّن "سكوت يونغ" (Scott H Young)، يحدِّثنا فيه عن كتاب "لغز المنطق"، وينوِّه على بعض الأمور المثيرة للاهتمام فيه.

اللغز الأساسي هو:

  1. إذا كان المنطق مفيداً جداً، فلماذا البشر هم الكائنات الوحيدة التي تمتلكه؟ فعلى سبيل المثال، الأسد الذي يتمتَّع بقدرات تفكير ممتازة سوف يصطاد مزيداً من الغزلان، لكن مع ذلك، يبدو أنَّ البشر هم الوحيدون الذين يملكون القدرة على التفكير في الأشياء.
  2. إذا كان المنطق قوياً جداً، فلماذا لا نجيد استخدامه؟ ولماذا لدينا كثير من التحيُّزات المعرفية؟ من المُفترض أن يكون التفكير المنطقي أمراً جيداً، لكن يبدو أنَّنا نستخدمه استخداماً قليلاً إلى حدٍّ ما.

كشف اللغز:

إنَّ الإجابة عن هذين اللغزين، والتي لها آثار بعيدة الأمد في طريقة تفكيرنا واتخاذنا للقرارات، هي أنَّنا في الواقع قد أسأنا فهم المنطق؛ فالنظرة التقليدية للعقل هي أنَّه يساعدنا على التفكير بطريقةٍ أفضل، وعموماً التفكير المنطقي أفضل من التفكير غير المنطقي، فالقدرة على التفكير تعني أن تكون أكثر ذكاءً، وهذا نوع من التعزيز المعرفي الشامل الذي يصلح لحل جميع أنواع المشكلات، فنحن لا نستخدم عقولنا دائماً، ويمكن أن يكون التفكير أبطأ من إطلاق الأحكام البديهية، ولكنَّه دائماً أمرٌ جيد.

وفي المقابل يجادل كلٌّ من "دان" و"هوجو"، على أنَّ المنطق هو في الواقع عبارة عن تكيُّف معرفي متخصِّص جداً؛ إذ إنَّ السبب في أنَّ الكائنات الأخرى لا تمتلك المنطق هو أنَّها لا تمتلك البيئة الفريدة التي يعيش البشر فيها، ومن ثمَّ لم تكن تلك الكائنات تحتاج إلى تطوير ذلك التكيُّف، أمَّا السبب وراء عدم استخدام البشر للتفكير المنطقي، فهو أنَّ قدرات عقولنا محدودة جداً في استخدامها، فنحن نستخدمها فقط عند الضرورة، وعدا ذلك، نعتمد نفس الاستراتيجيات التي تعتمدها الكائنات الأخرى للقيام بتصرُّف ذكي.

ما هو الهدف من المنطق؟

وَفقاً لـ "دان" و"هوجو"، فإنَّ الهدف من المنطق، بصفته قدرةً، هو كشف الأسباب وتقييمها؛ فالمنطق هو عبارة عن قدرة نمتلكها، وقد تشمل المرادفات المشابهة للعقل، كلاً من: المنطق، والتفكير النقدي، والتحليل.

والأسباب، في المقابل، هي عبارة عن تفسيرات، وعادةً ما تُقدَّم على شكل جمل، مثل: ما هو سبب إحضار مظلة إلى الخارج؟ السبب هو "لأنَّها تمطر"، وبعض الأسباب، مثل: سبب إحضار المظلة، لا تشير إلى قدرة الإنسان على اتخاذ قرار بشأن إحضار المظلة عند هطول الأمطار، بل إلى التفسيرات التي تبرِّر مثل هذا السلوك للآخرين ولأنفسنا.

يفيد "دان" و"هوجو" بأنَّ قدرة المنطق عند البشر هي ليست لإنشاء سلوك ذكي، بل يعمل المنطق على تبرير وشرح هذا السلوك، فنحن نملك المنطق لإنشاء الأسباب، وهذه الأسباب غالباً ليست لأنفسنا، لكن لجعل سلوكنا مفهوماً ومبرراً للأشخاص الآخرين.

أمَّا الكائنات الأخرى كالحيوانات، فلا تحتاج إلى هذه القدرة، لأنَّهم بصفتهم لا يستطيعون التكلم، فلن يستطيعوا تبرير الأسباب التي قد تكون لديهم، وبالنسبة إلى البشر، فهم لا يستخدمون المنطق طوال الوقت، لأنَّ القرارات التي نتخذها بشأن ما يجب فعله تُنشَأ في الغالب من خلال عمليات بديهية أخرى، أمَّا التفكير فيتم بعد ذلك.

شاهد بالفيديو: 7 طرق لتجنب التفكير الثنائي

الوحدات المنطقية وطريقة تفكيرنا في الأمور:

تُعدُّ نظرية "الوحدات المنطقية" (Modular Theory) نظرية شائعة للدماغ؛ إذ تقول هذه الفكرة أنَّه بدلاً من أن يكون الدماغ كتلةً واحدة، فهو مقسَّم إلى وحدات متميزة، إذ تأخذ كل وحدة مدخلات من أجزاء أخرى من الدماغ، وتعطي مخرجات لأجزاء أخرى من الدماغ، وكل وحدة متخصِّصة في وظائف محددة.

من التشبيهات المجازية لهذه النظرية هي أن نقارن بين مصنع يصنع الأدوات من الصفر على حزام ناقل كبير، وبين مجموعة من الشركات المنفصلة التي تصنع كل منها أجزاء من الأدوات، وتُجمَّع معاً في النهاية فقط، فإنَّ الوحدات المنطقية تشبه هذا المثال الأخير؛ إذ تكون كل وحدة منفصلة إلى حدِّ ما عن الوحدات الأخرى.

وَفقاً لهذه الفكرة، فإنَّ المنطق، وفقاً لـ "دان" و"هوجو"، هو وحدة عقلية منفصلة، وهذه الوحدة لها وظيفتان:

  1. تولِّد أسباباً للمواقف؛ لذا إذا كنت تقف حاملاً مظلة، وسألك أحدهم "لماذا تحمل المظلة؟" قد تولِّد وحدة المنطق الخاصة بك بعض الإجابات المحتملة، قبل أن تصل إلى إجابة "لأنَّها تمطر بالخارج" بوصفها سبباً جيداً.
  2. تقيِّم أسباب الآخرين؛ وبهذه الطريقة، يمكنك أيضاً أن تأخذ الأسباب التي قدمها الآخرون وتقرر ما إذا كانت جيدة أم لا، على سبيل المثال، إذا سألتك عن سبب حملك للمظلة وأجبتني: "لأنَّه يوم الإثنين" فهذا السبب لا يبدو سبباً وجيهاً على الإطلاق.

إذ إنَّ الأمر الهام في هذه النظرية هو أنَّ قرار حمل المظلة بحدِّ ذاته لا يلزم أن تحدده وحدة المنطق، فقد تكون هذه وظيفة وحدة مختلفة للدماغ، والتي من خلال تجربة سابقة، ولَّدت أمراً بإحضار المظلة قبل مغادرة المنزل، قد يظهر السبب وراء حمل المظلة، من حيث التفكير الفعلي فيه، في وقت لاحق، بناء على سؤال يطرحه شخص ما.

العمليات المبهمة والتفكير:

إحدى المصادفات التي أجدها مقنعة جداً من حيث الجدل عن هذه الفكرة تأتي من التعلُّم الآلي، فمن النقد الشائع للتعلُّم الآلي، أنَّه غير قادر على تقديم الأسباب؛ بمعنى، إذا وافقت إحدى الخوارزميات على أمرٍ ما، فغالباً لا يعرف البشر سبب اتخاذ هذا القرار، حتى مُصمِّمي الخوارزمية نفسها غالباً لا يعرفون أسباب اتخاذ ذلك القرار، حتى لو كان القرار دقيقاً عموماً.

من الحلول المقترحة لهذه المشكلة كان صنع نظامين، أحدهما يتخذ القرار، والآخر يدرِّب نفسه على أنماط النظام الأول لتوليد "تفسيرات" لخيارات النظام الأول، وبهذه الطريقة، يمكن لنظام التعلُّم الآلي أن يبرِّر اختياراته؛ فالمصادفة هنا هي أنَّ هذا الأمر بالضبط ما يتحدث عنه "دان" و"هوجو"؛ أي كيف تعمل العقول البشرية.

توجد أيضاً مجموعة من الخوارزميات المُبهمة التي قد تُدرَّب بطرائق لا تختلف عن خوارزميات التعلُّم الآلي، وحقيقة أنَّ خوارزميات التعلُّم الآلي التي غالباً ما توصف بمصطلح الشبكات "المحايدة"، تستخدم تشابهها السطحي مع الدماغ بوصفه تشبيهاً لعملياتها.

فنحن أيضاً نحتاج إلى تبرير سلوكنا للغرباء لكي يبدو موافقاً لمجتمعنا، فإذا بدا كأنَّنا نقوم بأشياء دون أي سبب واضح، أو لسبب غير صالح للوضع الاجتماعي، فقد يُنظر إلينا على أنَّنا مجانين أو أشرار.

هكذا، زوَّدنا التطور أيضاً بوحدة عقلية ثانية، والتي تولِّد من قراراتنا التي توصَّلنا إليها بصورة حدسية أسباباً يمكننا شرحها للغرباء، حتى يتمكَّنوا من محاولة تقييم سبب قيامنا بالشيء الذي نقوم به.

الآثار المترتبة على نظرية "دان" و"هوجو":

توجد عدة آثار مترتبة على هذه الفكرة والتي لا يمكن التطرُّق إليها بسهولة في هذا المقال؛ لذا من الأفضل قراءة الكتاب نفسه، ومع ذلك، أودُّ أن أعرض بعضاً من أهم الآثار المترتبة على هذه النظرية، إذا كانت صحيحة:

1. التفكير ليس جزءاً كبيراً من الذكاء أو الوعي:

تصف إحدى وجهات النظر الشائعة علم النفس باستخدام استعارة الفيل والفارس؛ إذ نمثِّل نحن البشر الفرسان، ونُعلِن كيف نريد أن يتوجَّه سلوكنا، لكن الفيل؛ أي العقل اللاواعي، هو القوة الدافعة فعلياً.

لقد استُخدمت وجهة النظر هذه غالباً للتقليل من فكرة أنَّنا مسيطرون على حياتنا أو على قراراتنا، فمع أنَّ جوهر الوعي ما يزال موضع نقاش، ففي هذه النظرية الجديدة لا يوجد فارس، فالمنطق بحدِّ ذاته هو مجرد وحدة نمطية أخرى في الدماغ، وتوفِّر دعماً لمهام محددة؛ بعبارة أخرى، إنَّها عمليات مبهمة وبديهية.

قد يكون من الأفضل تشبيه نظرية الوحدات المنطقية في الدماغ بطيور الزرزور، فهذه الطيور تطير في أنماط محددة، لكنَّ السلوك ينبثق من كل طائر يقوم بدور أصغر، فلا يوجد طائر يملي نمط الطيران على الآخرين، مثل الفارس الذي قد يوجِّه الفيل في تشبيهنا السابق، ولا يوجد أيضاً توجُّه عام نحو التجاهل، مثل الفيل الذي قد يتجاهل الفارس عمداً، بل توجد مجموعة من الأجزاء الصغيرة (الوحدات)، التي تؤدي جميعها أغراضها الخاصة، وتساهم في سلوك أكثر ذكاءً على مستوى أكبر.

شاهد بالفيديو: 9 أنواع من الذكاء ينبغي عليك معرفتها

2. من الممكن أن نتخذ قرارات ذكية، دون وجود أسباب لها:

من وجهة النظر التقليدية للعقل، فإنَّ عدم وجود سبب لقرار ما، يجعله قراراً سيئاً بالتأكيد، ما لم يكن صحيحاً بالصدفة، فلا نستطيع الثقة بأي شيء إذا لم يكن هناك سبب وراءه.

في المقابل، يقلب "دان" و"هوجو" وجهة النظر هذه تماماً، فإذا كان المنطق موجوداً لتوليد الأسباب، فمن المُحتمل أن يكون لدينا كثير من القرارات الذكية التي نواجه صعوبة في توليد أسباب وجيهة لها؛ لذلك، فإنَّ تجاهل المنطق والتصرف دون تفكير، ليس بالضرورة أن يكون مُضرَّاً للتكيُّف.

لا أعتقد أنَّ هذا الأمر يعني أنَّنا يجب أن نتخذ كل قرار بأسلوب حدسي فقط، لكنَّ هذا الأمر يضع فجوة كبيرة في موضوع "العقلانية" بوصفه هدفاً لتحسين الذات، فإذا كانت العقلانية تدور في أغلب الأحيان حول التبرير، فإنَّ فكرة العمل الجاد لجعل سلوكك يتماشى مع "أسبابك" هي فكرة خاطئة.

3. النقاش يجعلنا أذكى من التفكير وحدنا:

يُطلق "دان" و"هوجو" على نظريتهما اسم "النظرية الجدلية" للعقل، وهذا لأنَّهما يَدَّعيان أنَّ وظيفة المنطق هي توفير أسباب مبررة اجتماعياً للمعتقدات والسلوكات، وهذا يفسِّر أيضاً تبرير معتقداتنا بدلاً من تحديها، وهذا هو سبب وجود المنطق في الواقع.

مع ذلك، قوة المنطق، والسبب في أنَّ المنطق ينتج عنه أشياء رائعة، مثل التكنولوجيا، والعلوم والتقدم البشري، هو أنَّ نقاط ضعفنا الفردية تتلاشى عموماً، فإذا كنت تُجري مناظرة على سبيل المثال، قد لا تتمكَّن من إقناع خصمك في المناظرة، لكن الجمهور سيصغي بكل الأحوال، وستتغلَّب الأسباب الجيدة على الأسباب السيئة في نطاق المناقشة الأوسع.

4. قد تشرح التغذية الراجعة دور المنطق التقليدي:

قد يبدو هذا التفسير كأنَّه يدحض بسهولة شديدة النقطة الرئيسة للتفكير التقليدي، وهو أنَّ الأشخاص الأذكياء يفكِّرون بعناية للوصول إلى فكرة حصلوا عليها بصعوبة، ومع ذلك، عندما نرى أنَّ المنطق يمكن أن يولِّد ويقيِّم أسباباً للأشياء، فإنَّ هذا الأمر يشكِّل حلقة تغذية راجعة محتملة، يمكنك أن تأخذ الأسباب التي تولِّدها بنفسك ثمَّ تُقيِّمها، وإذا كنت تتوقع وجود المعوِّقات، فقد ترفض هذه الأسباب الأولية وتبحث بحثاً أعمق في الأسباب للمحاولة من جديد، وقد يدفعك هذا الأمر إلى تغيير معتقداتك الحدسية إذا كنت غير قادر على التوصل إلى مبرِّر مناسب.

يحدث هذا الأمر طوال الوقت عندما يتعيَّن عليك شرح شيء ما للأشخاص الشكَّاكين، فتتمرَّن على عدَّة تفسيرات مختلفة قبل أن تعتمد السبب الذي تعتقد أنَّه أكثر الأسباب تبريراً، وقد يُفسَّر هذا الأمر إلى جانب قدرة وحدة المنطق على إلغاء القرارات التي تُتَّخذ بأسلوبٍ حدسي، بشرط عدم إمكانية تبريرها بطريقة كافية، كيف أنَّ نظرية "دان" و"هوجو" عن المنطق تتداخل مع نظرية المنطق التقليدي تحت ظروف معينة.

إقرأ أيضاً: ثقافة التغذية الراجعة: هل نحن بحاجة إليها؟

5. سوف تفكِّر تفكيراً أفضل إذا كان من الصعب تقديم الأسباب:

إنَّ هذه النظرية تشرح أيضاً سبب ندرة هذا النوع من التفكير العميق، فنحن عادةً لا نتعامل مع أشخاص شكَّاكين، ونحن راضون عن التمسك بأول سبب قد نفكر فيه، وليس البحث والتقييم وربما حتى تغيير معتقداتنا عندما يتبيَّن أنَّ تلك الأفكار الأولى غير مبررة.

قد يُفسِّر هذا الأمر أيضاً سبب عمق تفكير المجتمعات العلمية؛ فالناس يكونون شكَّاكين جداً، ويضعون قيوداً ضيقة على أنواع الأسباب الهامة، وغالباً ما يكون من الأسهل إلغاء قرار حدسي، بدلاً من تقديم سبب مقبول للقرار السيئ.

فقد يعطي هذا الأمر أيضاً نصيحة محتملة لتحسين الأداء في المجالات القائمة على الأسباب، فكلما توقعت أنَّ معايير الأشخاص مرتفعة، أصبح تفكيرك أفضل، وهذا سيجبرك على مراجعة أفكارك مراراً وتكراراً، بدلاً من مجرد التعبير عن حدسك فقط.

مع ذلك، قد تكون النتيجة الطبيعية لذلك أنَّه إذا كانت القيود ضيقة جداً بالنسبة إلى المنطق، فقد يؤدي ذلك إلى رفض الإجابات "الجيدة"، التي لا تتناسب مع الأسباب التي تتضمنها، وقد تكون الدوغماتية من الآثار الجانبية الحتمية للعقل؛ إذ إنَّ البُنى التي تفرض التفكير في طرائق محددة قد تحرفه عن الحقيقة.

إقرأ أيضاً: قوة التفكر: 10 استراتيجيات لتطبيق قوة التفكر في حياتك

في الختام:

عقولنا مقسَّمة بين عدة عمليات لاواعية مختلفة، لكل منها مجالاتها ووظائفها الخاصة، مع وجود سبب لكل شيء، ففي بعض النواحي، يعدُّ هذا انحداراً لمكانة المنطق، من كونه قدرة عظيمة تفصلنا عن الكائنات الأخرى، إلى كونه مجرد أداة من عدة أدوات في مجموعة أدواتنا العقلية، ومن جهة أخرى، قد يمثِّل الأمر استعادة لمكانة المنطق، لأنَّه بدلاً من أن تكون قدرة مهملة وضعيفة وغير فعَّالة، يفعل المنطق بالضبط ما خُلق ليفعله جيداً.

المصدر




مقالات مرتبطة