فوائد تمنحك إيَّاها فترات العزلة القصيرة

يُعدُّ جيسي ليفيرمور (Jesse Livermore) أفضل متداول أسهم في التاريخ، وهو الشخصية الرئيسة لواحد من أشهر كتب البورصة بعنوان "مذكرات مُضارب" (Reminiscences of a Stock Operator).



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن الكاتب داريوس فوروكس (Darious Foroux)، ويتحدث فيه عن 3 فوائد يمكن الحصول عليها من فترات العزلة القصيرة.

أكثر ما يشتهر به ليفيرمور هو قيامه باستثمارات قصيرة الأجل قبل زلزال سان فرانسيسكو (San Francisco) في عام 1906، وقبل انهيار بورصة وول ستريت (Wall Street) في عام 1929، وقد جعلته هاتان العمليتان يكوِّن ثروة، ويصبح محط احترام من قبل مجتمع الاستثمار. لكن ليس هذا السبب الوحيد لشهرة ليفيرمور، لقد كان متتبِّعاً ماهراً لاتجاه الأسهم، تماماً مثلما كان بنيامين غراهام (Benjamin Graham) بالنسبة إلى استثمار القيمة.

ارتقى ليفيرمور بمهنته إلى مرحلة جديدة في أوائل القرن العشرين من خلال تكريس حياته بكاملها للمضاربة؛ إذ إنَّ عاداته كانت سابقة لوقته، وقد كان قادراً على توجيه تركيزه بأكمله على عمله من الساعة 9:30 صباحاً عندما يُفتح سوق الأسهم حتى الساعة 4:00 مساءً عندما يُغلق السوق تماماً.

في لقاء موجود في الإصدار الأخير من كتابه "كيفية الاستثمار في سوق الأسهم" (How To Trade In Stocks) يقدِّم ليفيرمور النصيحة الآتية للمتداولين: "تخلَّص من التوتر، وافعل كلَّ ما يلزم لتجعل ذهنك صافياً ومحاكمتك منطقية، وقد تمكنتُ من فعل ذلك من خلال النوم باكراً، وتجنُّب الإفراط في الطعام والشراب، وممارسة الرياضة، والوقوف منتصب القامة في منصة البورصة، والوقوف في أثناء التحدُّث على الهاتف، والطلب من الآخرين الحفاظ على الهدوء في المكتب، وتجنُّب التحدُّث مع أيِّ أحد في أثناء ذهابي إلى العمل، ولم أفصح لأحد عن الإجراءات التي سأتخذها بخصوص المضاربة".

لكن هذا لا يعني أنَّ ليفيرمور اتَّبع هذه النصيحة طوال الوقت، فعلى الرَّغم من أنَّه كان مضارباً ناجحاً، إلا أنَّه أفلس ثلاث مرات، وقد عانى أيضاً الاكتئاب، وأخيراً انتحر في عام 1940.

قضيت وقتاً طويلاً في دراسة حياة ليفيرمور وفلسفته، وبصفتي مستثمراً في سوق الأسهم، فإنَّني أتعرَّف إلى معظم استثمارات القيمة؛ لكنَّني أعتقد أنَّه من الضروري دراسة المضاربين أيضاً؛ ولذلك بدأت بدراسة ليفيرمور منذ عدة سنوات، والشيء المثير للاهتمام بخصوص ليفيرمور أنَّه ما زال يؤثِّر في معظم المتداولين حتى الآن.

توجد سلسلة كتب عن المضاربين الناجحين في سوق الأسهم بعنوان "أساطير سوق الأسهم" (Stock Market Wizards) للكاتب جاك دي شواغر (Jack D. Schwager)؛ إذ يتضح في سلسلة الكتب هذه أنَّ معظم الذين برعوا في المضاربة في سوق الأسهم قد اعتمدوا على فلسفة ليفيرمور، وما زالت أفكار ليفيرمور تُطبق على الأسهم والعقود الآجلة والسلع والعملات الرقمية، وعلى الرَّغم من أنَّك قد لا تكون مضارباً، إلا أنَّ هناك فكرة لدى ليفيرمور تصلح لأيِّ شخص بصرف النظر عن مهنته، وهي إضافة مزيد من العزلة إلى حياتك.

شاهد: 10 نصائح للحصول على الراحة النفسية

أولاً: العزلة تحفِّز التفكير المستقل

جزء كبير من فلسفة ليفيرمور كان الاعتماد على تفكيره المستقل، وكان دائماً يرغب في اتخاذ القرارات بنفسه، ولم يحب أن يعمل بنصائح الآخرين فيما يتعلق بسوق الأسهم.

بمعنى أنَّه أراد أن يتحمل المسؤولية كاملةً عن الإجراءات والقرارات التي يتخذها، يوضِّح هذه القناعة بقوله: "كان غرضي الأساسي من ذلك هو حماية نفسي من التأثير السلبي غير المرغوب فيه، وبالتحديد كنت أحاول تجنب أن أُضلَّل من خلال تقديم معلومات لي على شكل نصائح فيما يتعلق بالتداول في سوق الأسهم، والحقيقة أنَّ النصائح هي الشيء الوحيد الذي سبَّب لي الخسارة في المضاربة".

يؤثِّر الآخرون في آرائنا وأفكارنا طوال الوقت، وبالنتيجة تتأثر قراراتنا وأفعالنا بالآخرين، في حين أنَّه من أهم الأشياء التي يمكن للمرء أن يحققها في حياته هي أن يصبح مفكِّراً مستقلاً؛ فعندما تفكر بطريقة مستقلة، فأنت تتعامل بعقلية منفتحة مع آراء الآخرين، وما يملكونه من معارف ومعطيات، لكن في النهاية لا تتخذ قراراً إلا بإرادتك المستقلة.

يمنحك هذا إحساساً بالحرية وشعوراً بأنَّك تتحمَّل المسؤولية عن قراراتك، فعندما تتخذ قراراً خاطئاً أو لا يحقق النتائج المرجوة منه لا تلقِ اللوم على الآخرين، ولا تلُم نفسك؛ إذ يكفي الاعتراف بأنَّك اتخذت قراراً سيئاً، لكن في النهاية فكرت بطريقة مستقلة، الأمر الذي سيساعدك في عملية اتخاذ القرارات المقبلة.

ثانياً: تساعد على التركيز على الأمور ذات الأهمية

تستغرق عملية التفكير وقتاً وطاقة والسبب أنَّها تتطلب معالجة الأفكار من جوانبها المختلفة؛ إذ يتطلب الأمر النظر إلى المشكلات من زوايا مختلفة، لكن قلَّما نجد الوقت الكافي للتفكير بجدية، يكفي أن نذكر أنَّ معظمنا يتعرض للمقاطعة بشكل دائم؛ لذلك لا تتاح لنا الفرصة للتفكير، ولأنَّنا لا نفكِّر كما ينبغي فإنَّنا نسارع لاتخاذ القرارات السيئة، وهذا ما دفع ليفيرمور إلى قضاء وقت كبير وحده.

يقول بهذا الشأن: "أحتاج إلى تدفق في الأفكار، عرفت أنَّه ينبغي أن أقضي أكثر من 15 دقيقة في التفكير دون أيِّ مقاطعة"، وقد اتخذ خطوات صارمة لتجنب اللقاء بالآخرين عندما كان يذهب إلى عمله في وول ستريت.

يوضِّح ما كان يفعله بقوله: "كنت أذهب إلى مكتبي بواسطة السيارة دون أن يرافقني أحد؛ وذلك حتى أحصل على الهدوء وأنعم بالعزلة، وإذا كان الطقس جيداً كنت أذهب بواسطة القارب دون أن يكون بصحبتي أيُّ أحد وبعزلة تامة، وكان يمنحني هذا الفرصة لقراءة الجرائد والتخطيط ليومي، كما يمنحني التنقل وحدي القدرة على متابعة التفكير دون أيِّ تشويش يؤدي إلى أخطاء في تطبيق خطتي اليومية".

السر في أن تصبح مفكراً وصانع قرارات بارعاً، هو في أن تمنح نفسك مزيداً من الوقت، وهذا ليس أمراً معقداً؛ إذ نحتاج فقط إلى قضاء مزيد من الوقت وجدنا، لكن في عصر السرعة - كما يُسمى - نحن نعطي أهمية لسرعة الإنتاج على حساب النوعية، ودائماً ما نكون محاطين بالآخرين، سواء كانوا أصدقاءً أم زملاء عمل، أو حتى أنَّنا نستمع لحديث أحدهم في مدونة صوتية أو كتاب صوتي، وغالباً ما نكون عاجزين عن إيجاد الحلول؛ والسبب أنَّنا لا نجد الوقت الكافي لعملية التفكير، ولهذا نتسرع في اتخاذ الإجراءات أو نشعر بالإرهاق، ما يجعلنا عاجزين عن التفكير بحلول للمشكلة.

شاهد: فوائد الصَّمت بحسب علم النفس

ما هو مقدار الوقت الذي تتجاوز فيه مرحلة العزلة المفيدة؟

على الرَّغم من أنَّ العزلة ضرورية، لكن يجب ألا نبالغ في عزلتنا؛ إذ أظهرت إحدى الدراسات أنَّ الشعور بالوحدة يزيد من خطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية، وأظهرت دراسة أيضاً في نيوزيلندا (New Zealand) توبع فيها 1037 شخصاً منذ الولادة وحتى بلوغهم سن 26، أنَّ العزلة الاجتماعية تؤثِّر سلباً في الصحة عموماً.

ربما هذا هو السبب في إصابة ليفيرمور بالإحباط، وأيضاً معاناته من الاكتئاب في معظم حياته، وما جعل وضعه أسوأ هو أنَّه أصبح انطوائياً؛ لأنَّه في نهاية المطاف نحن كائنات اجتماعية ويجب أن نتجنب هذه العواقب؛ ولهذا نقترح العزلة لفترات قصيرة، وسنشرح كيف يمكنك القيام بذلك:

بدايةً وقبل كلِّ شيء يجب أن تدرك كم من الوقت تحتاج إليه كي تقضيه منعزلاً حتى تحصل على الفوائد، ويمكنك أن تحدد ذلك من خلال الإجابة عن الأسئلة الآتية:

  1. ماذا يحدث إذا كنت محاطاً بالناس طوال الوقت؟
  2. كم من الوقت (ساعات، أيام، أسابيع، ما إلى ذلك) يمكنني تحمُّل وجود الناس من حولي دون أن يُلحق بي أيُّ ضرر؟
  3. ماذا يحدث إذا قضيت يوماً بكامله وحدي؟
  4. كم المدة التي أستطيع فيها البقاء وحيداً تماماً مع شعوري بأنَّني على ما يرام؟

اكتشف كيف تستجيب مع مواقف معينة، واستخدم إجاباتك لتعرف مقدار الوقت الذي تحتاج إليه وحدك، على سبيل المثال أجد استخدام فترة التأمل الصباحي والمسائي للبقاء وحدي، وفي هذه الأثناء لا أستخدم وسائل التواصل الاجتماعي، ولا أحضر اجتماعات من أيِّ نوع ولا أتلقى مكالمات، ويمكنك أنت أيضاً تخصيص الوقت المناسب لتكون وحدك دون أيِّ أحد، أنت وأفكارك فقط مع مجلة أو كتاب جيد.

يتطلب الأمر بعض الوقت والتجربة لمعرفة المدة التي يجب أن تقضيها وحدك حتى تحصل على فوائد العزلة، بالنسبة إلي، بعد فترة من الوجود مع الآخرين، أحب أن أقضي يوماً أو يومين وحدي تماماً، والسبب في ذلك أنَّني أميل إلى الانطوائية فأجد أنَّ هذه المدة جيدة بالنسبة إلي.

ثمة وسيلة أخرى فعالة هي تحدِّي نفسك لتفعل عكس ما تفعله عادةً، فمثلاً إذا كنت اجتماعياً، جرِّب أن تقضي فترة المساء وحدك، أمَّا إذا كنت انطوائياً حاول أن تقلل من الوقت الذي تقضيه وحدك، وخصِّص وقتاً أكثر للخروج مع العائلة والأصدقاء والمعارف؛ فالفكرة هي أن تعرف ما يناسبك لأنَّ مدة العزلة المفيدة تختلف من شخص لآخر.

إقرأ أيضاً: لماذا عليك تخصيص وقت خاص لنفسك؟

ثالثاً: إجراء تقييمات أصيلة نابعة من محض أفكارك

امنح نفسك ما يكفي من الوقت للتفكير؛ لأنَّ ذلك يتطلب من أدمغتنا معالجة كثير من المعلومات الخارجية التي تؤثِّر فينا، ولا يوجد شيء يمكننا فعله لإيقاف تأثير المعلومات التي تصل إلى أدمغتنا من البيئة المحيطة لأنَّنا كائنات اجتماعية، لكن من خلال البقاء وحدك لفترة معينة والإصغاء لأفكارك الخاصة ستكون قادراً على الخروج بأفكار أصيلة وتقييمات تشكِّل مزيجاً بين المعلومات الخارجية والطريقة التي عولجت بها هذه المعلومات.

يمكن القيام بهذه العملية من خلال تخصيص ساعتين في الأسبوع تقضيها وحدك مستخدماً دفتر الملاحظات، انفرد بنفسك فقط وحاول إيجاد حلول لمشكلاتك، ودوِّن الملاحظات، وفكِّر في مختلف الأوضاع والحلول، والأهم من كلِّ ما سبق أن تعتمد على تقييمك الخاص، ولا يهم إلى أيِّ مدىً يكون تقييمك مصيباً، ما يهم هو أنَّه نابع من أفكارك الأصيلة.

إقرأ أيضاً: استراتيجيات لتجاوز العزلة التي يسببها الاختلاف عن الآخرين

في الختام:

ممَّا لا شك فيه أنَّ العزلة تؤدي إلى نتائج سلبية على صعيد الصحة النفسية والبدنية إذا طبقناها بإفراط، لكن إذا استخدمناها لإعادة تهيئة أنفسنا لمواجهة مشكلات الحياة وإيجاد حلول لها تكون نابعة من أفكارنا الأصيلة، فإنَّ خطر عواقبها السلبية يتلاشى، وفي المقابل نحصل على فوائد تعزز قدراتنا الإبداعية.

المصدر




مقالات مرتبطة