فنُّ النسيان للتخلي عن الأشياء التي كسرت قلبك

عاملته كأخ وعاملني كذلك، أخبرني أنَّني عبقري وأنَّ العالم يجب أن يسمع الموسيقى التي أُؤلفها، كان شعلة من الحماسة، وعندما يتحدث يجعلني متحفِّزاً لمواجهة أي شيء لعيش حياة أفضل، كنت أعمل حينها مدرِّساً، وأقضي فصول الصيف مع فنانين مكافحين مَدُّوني بالطاقة وكانوا لي المجتمع الذي كنت أتوق إليه، وعندما التقيت به في مدينة "تورنتو" (Toronto)، شعرت أنَّني وجدت عائلة جديدة.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن المدوِّن "كانوير ماهل" (Kanwer Mahl)، ويُحدِّثنا فيه عن ما مرَّ به حين خانه أحد أصدقائه المقربين.

لم تكن عائلته بوضع جيد، فقد عانى والداه من الإدمان، وكانا يحاولان أخذ الأرباح التي جناها من إنتاج الموسيقى، كان ذلك يحطِّم معنوياته وآلمني ذلك؛ لذا دعوته للعيش دون استشارة والدي، وكان لي الأخ الذي لم تلده أمي.

وعدنا بعضنا بعضاً بأنَّنا سندعم بعضنا دائماً، عملنا في الموسيقى وكوَّنَّا العلاقات وتحدثنا عما يمكننا فعله فنياً وكيف يمكننا المشاركة في الوسط الفني في المدينة، لكن سرعان ما انتهى الصيف وعدت أنا إلى وظيفتي. كان ذلك محبطاً جداً بالنسبة لي؛ لأنَّني كنت أفكِّر في الموسيقى التي كان في إمكاني تأليفها خلال ذلك الوقت، حينها جاء إلي بفرصة غيَّرت حياتي إلى الأبد.

كان قد عثر على صفقة لتأليف الأغاني، بقيمة 120 ألف دولار لكتابة 10 أغانٍ لفنان غير معروف، لكن له علاقات مع أشخاص معروفين في المجال. كان ذلك حلمنا، أن نتقاضى المال مقابل كتابة الأغاني، فبهذه الأموال يمكننا أن نصبح فنانين دون الحاجة إلى وظيفة أخرى؛ لذا دون كثير من التفكير، أخذت إجازة من العمل، وانتقلنا إلى منزل استأجرته بصفتي شخصاً بالغاً مسؤولاً، ثمَّ شرعنا في الإبداع.

خيبة الأمل:

أخبرني أنَّنا سنحصل على الأموال قريباً، لكنَّ الأسابيع مرت دون أن نسمع أي كلمة، ثمَّ تحوَّلت الأسابيع إلى شهور، وكل ذلك الوقت كان يمر دون دخل؛ لذا تراكمت ديوني. لكنَّني لم أكن قلقاً، معتقداً أنَّه بمجرد أن نحصل على المال، سأتمكَّن من تسديد الديون بسهولة.

ثمَّ أخبرني عن أصدقائه الذين يدينون له بالمال، وأنَّه يمكننا البدء في جمع تلك الديون لتسديد الفواتير، لكنَّ ذلك لم ينجح، ومع مرور الأشهر، بدأت أطرح عليه مزيداً من الأسئلة، وأصبح جريئاً أكثر فأكثر، إلى أن سافر خارج المدينة في أحد الأيام ليطلب بعض المال من أحد أفراد أسرته الذي كان مديناً له، حينها كشف لي صديق مشترك بيننا أنَّه كان يطلب من الناس إقراضه المال، لكن لا أحد يدين له بأي شيء؛ لذا اتصلت به للتأكد من ذلك، فأغلق الهاتف على الفور، ولم أسمع صوته بعدها.

ترك ممتلكاته في الشقة ولم يعد أبداً لاسترجاع أي شيء، من ملابسه وكمبيوتره وتذكاراته. كان الأمر كما لو أنَّه اختفى، كنت مرتبكاً ومحطماً وحزيناً، فتلك أول مرة يكسر فيها صديق قلبي، فهذا نوع غريب من الخيانة لم أستطع استيعابه، وزاد الطين بلة أنَّني كنت أغرق ببطء في الديون التي تراكمت إلى أكثر من 80 ألف دولار، ولم يكن لديَّ أي وسيلة لسدادها، فاتَّضح أنَّ صفقة كتابة الأغاني لم تكن حقيقية أبداً، فقد زوَّر المستندات، وغيَّر الأسماء، وكان يخطِّط لاقتراض أموال من آخرين للتغطية على الأمر، وعندما لم يفلح ذلك ولم يجد خيارات أخرى، هرب.

كان ذلك قبل سبع سنوات، السنوات التي تلتها كانت أصعب سنوات حياتي، شعرت خلالها بيأس عميق ولجأت إلى العقاقير الطبية لتخدير الألم، وألقيت باللوم على العالم وكل من حولي لأنَّهم لم يحذِّروني منه، بقيت في الفراش لأسابيع دون أن أنهض ودون طعام على أمل أن يأتي أحد لينقذني، لكن لم يأتِ أحد قط.

إقرأ أيضاً: 6 نصائح فعّالة للتغلب على الانتكاسات

أوقات عصيبة:

في أحلك اللحظات، راودتني أسوأ الأفكار عنه، كيف يجرؤ على فعل هذا بي بعد أن استقبلته في منزلي وسمحت له بالعيش معي لمدة عام دون إيجار، كنت رائعاً معه وعاملته كأخ، وهكذا ردَّ الجميل.

لكنَّني تعلَّمت أن أتخلى عن ضغينتي تدريجياً، فلم أفعل ذاك لأنَّني ظننتُ أنَّ ما فعله كان مقبولاً، بل لأنَّني لم أستطع تحمُّل مثل هذا العبء الثقيل من الاستياء والندم، وإذا كنت سأخرج نفسي من الفوضى التي كنت فيها، فكنت أحتاج إلى التوقف عن التفكير به والتفكير بطريقة مختلفة.

هو لم يكن شريراً، بل كان خائفاً، حاول فعل ما يفوق استطاعته، وبدلاً من مواجهة عواقب أفعاله، هرب، كل ذلك كان خارج سيطرتي، وللحفاظ على سلامة عقلي احتجت إلى التركيز على ما هو تحت سيطرتي.

ما كان دائماً تحت سيطرتي هو طريقة تفكيري وتوقعاتي، كنت أتوقع منه أن يكون صادقاً معي لأنَّني كنت صادقاً معه، لكنَّ هذه ليست الطريقة التي تحصل بها الأشياء، على سبيل المثال، إذا مررت بجانب كلب ومررت يدي عبر السياج، فمن المحتمل أن يعضني ذلك الكلب، لا أستطيع أن أفترض أو أتوقع منه ألا يفعل ذلك، لمجرد أنَّني لا أخطِّط لأن أؤذيه؛ إذ تفعل الكلاب ما تعرفه، ويفعل الناس الخائفون ما يعرفونه.

شاهد بالفديو: 8 علامات تخبرك بضرورة تغيير طريقة تفكيرك

لذلك؛ سامحته شيئاً فشيئاً، وبدأت في تحمُّل مزيد من المسؤولية عمَّا حدث، لقد كان ذلك صعباً، لكنَّ القيام بذلك ساعدني على التخلص من الاستياء والندم اللذين كانا يعوقانني.

فمن السهل علينا أن نشعر بالأسف على أنفسنا، وأن نعدَّ أنفسنا ضحايا في الحياة، وليس سهلاً فحسب، بل إنَّه سريع ومريح أيضاً؛ لأنَّه يسمح لنا على الفور بالشعور بالتماسك والأهمية؛ لأنَّنا نشعر أنَّ لا أحداً يفهم ما نمر به، كما لو كنت أول شخص يتعرض للخيانة من قبل صديق، ولأنَّنا نبدأ في إقناع أنفسنا بأنَّ الحياة تتآمر ضدنا ونتساءل عمَّا فعلناه حتى نستحق ذلك.

لكنَّ هذا الحل السريع لا يدوم، ويحل محله على الأمد الطويل شعور بالعجز، لأنَّنا حين ألقينا باللوم على الجميع وكل شيء ما عدا أنفسنا تخلينا عن القوة، وهكذا، لكي أجد القوة كان علي أن أتحمَّل بعض المسؤولية، لأنََّّه بتلك الطريقة فقط سأستمد العزيمة لتحسين ظروفي.

فقد استغرق الأمر كثيراً من التدريب، لكنَّني أصبحت تدريجياً أكثر وعياً بتوقعاتي، وبدلاً من أن أوبِّخ نفسي لأنَّني لم ألاحظ جميع علامات الخطر التي كانت واضحة، قرَّرت استخلاص الحكمة من تجربتي، ووعدت نفسي بأنَّني سأستخدم هذه الحكمة حتى أكون سعيداً لأنَّني مررت بمثل هذا الوقت الصعب.

أنت منقذ نفسك:

لقد شُفي قلبي المكسور مع مرور الوقت، وأصبحت أقوى، ونهضت مجدداً وقضيت السنوات الأربع التالية في تخليص نفسي من مأزقي، من خلال بيع ممتلكاتي، والبحث عن عمل، والتدريس، وتأليف كتابي، تمكَّنت أخيراً من تسديد كامل ديوني، وبالتدريج، بدأت أشعر بالامتنان الصادق للرحلة التي اجتزتها وما مررت به للوصول إلى حيث كنت.

فقد ساعدني اكتشاف كيفية تسديد 80 ألف دولار من الدين على تعلم كيفية كسب المال حتى أصبح حسابي المصرفي يحتوي مدخرات لا بأس بها، وقد علمتني أيامي القاسية قيمة البساطة، وأصبحت أفضل في قراءة الشخصيات، وأدركت مدى مناعتي حقاً.

لم أعد آمل في وجود شخص أو شيء ليخلصني من مآزقي؛ لأنَّني أنا المنقذ، لم أعد أخشى الخسارة لأنَّها تحمل معها دائماً فرصة للتعلم، ولا أتساءل عمَّا إذا كنت أحتاج إلى الوثوق بالآخرين، لأنَّني أعرف أنَّني أستطيع أن أثق بنفسي؛ إذ تقوِّينا التحديات وتخطيها؛ لذلك إمَّا أن نتكيَّف معها حتى نتمكَّن من النمو، أو أنَّ الحياة ستجبرنا على ذلك.

إقرأ أيضاً: الأمل هو ترياق العجز: إليك كيفية تنميته

يمكننا أن نختار:

مع أنَّني الآن سامحت صديقي القديم تماماً، وشكرته على الدروس التي تعلمتها، فقد حدث كل ذلك داخلياً؛ أي لم أُدْلِ بأي تصريح ولم أحاول الاتصال به، وبعد وفاة صديق مشترك، حاول التواصل، لكنَّني لم أكن أريد تلك الطاقة التي يحملها في حياتي، لقد تخليت عنها بالفعل.

يجب علينا التخلي عن الأشياء ومساحة الآخرين، ليس من أجلهم، ولكن من أجلنا، لأنَّنا نحتاج إلى تخليص أنفسنا من العبء الذي نحمله من الأحقاد والندم والأمور الأخرى التي تتراكم، ونحتاج أيضاً إلى التخلي كي نخلق مساحة لحب الذات؛ لأنَّنا على الأرجح سنحتاج إلى تلك المساحة لمسامحة أنفسنا أيضاً.

لقد سامحت صديقي، وأنا ممتنٌّ له حقاً، فلو لم أكن قد مررت بتجربة مفجعة، لما تمكَّنت من التعمُّق في داخلي لأكتب وأنشر، ولم أكن لأصبح الشخص الذي أنا عليه اليوم.

في الختام:

لا يمكننا رؤية المستقبل، لكن يمكننا اختيار كم من ماضينا نتمسك به نحمله معنا إلى اليوم، ويمكننا أن نختار التخلي والمضي قدماً يوماً تلو الآخر.




مقالات مرتبطة