ضباب العواطف والابتزاز العاطفي

ينتشر الابتزاز العاطفي كما تنتشر فروع شجرة اللبلاب السام، ويمكِن لفروعه اللولبية أن تلتف حول كل جانب في جوانب حياتنا؛ حيث إن كنَّا نُذعن لابتزاز عاطفي في العمل على سبيل المثال، فربما نعود للمنزل وننفِّس عن غضبنا في أولادنا، وإن كنَّا نحظى بعلاقة فاشلة مع آبائنا، فربما نصبُّ كامل غضبنا وسلبيتنا على شركاء حياتنا؛ إذ من غير الممكن وضع صراع ما في صندوق مُدوَّن عليه "المدير" أو "الزوج" لنحتفظ به ما بقي من حياتنا، وهذا ما يدفعنا لننفِّس عن إحباطاتنا في شخص أضعف أو أكثر حساسية منا؛ ممَّا قد يزيد في معاناتنا الشخصية، ويدفعنا لأن نصبح مبتزين بدورنا.



ما هو الابتزاز العاطفي؟

يُعدُّ الابتزاز العاطفي صورة قوية من صور الاستغلال الذي يُهدَّد فيه أشخاص مقرَّبون منَّا بالعقاب عند عدم فعل ما يريدون؛ حيث يعلم ممارسو الابتزاز العاطفي حجم تقديرنا للعلاقة بهم، ويعلمون أوتارنا الحساسة وأسرارنا الدفينة، وقد يكون هؤلاء الأشخاص آباءنا وأزواجنا، أو رؤساءنا وشركاءنا في العمل، أو أصدقاءنا وأحبابنا؛ أياً كان مقدار اهتمامهم بنا، فهم يستخدمون هذه المعرفة الخاصة في نيل ما يريدون، ألا وهو امتثالنا لهم، كما تقول المعالجة النفسية سوزان فورورد في كتابها (الابتزاز العاطفي).

كيف يحدث الابتزاز العاطفي؟

يمكِن لأحداث مختلفة أن تحفز الابتزاز؛ مثل: رفض الحبيب، أو فقدان الوظيفة، أو الطلاق، أو التقاعد، أو المرض، حيث يمكِن لأمور كهذه أن تحوِّل شخصاً مقرباً إلى مبتز، وبما أنَّ الابتزاز يتطلب بطبيعة الحال وجود طرفين؛ لذا يمكِن لدورنا أن يزيده أو يُلاشيه.

يمرُّ الابتزاز العاطفي بستِّ مراحل وهي: الطلب، والمقاومة، والضغط، ثم التهديدات والإذعان، والتكرار، وكثيرٌ من الابتزاز يكون مخفياً وغير واضح جداً، ومع ذلك يبقى ابتزازاً؛ لذلك علينا تسليط الضوء على ضباب هذا الابتزاز العاطفي، فهناك فرق بين فرض الطلبات والابتزاز العاطفي، وليس كل فرض للطلبات أو الرغبات يُصنف على أنَّه ابتزاز عاطفي، وإن كان الشبه كبيراً إلى حدٍّ بعيد، فلا ضير في أن تطلب من شخص ما ألا يتحدث عن موضوع حساس، ولكن ماذا لو تضمَّن الصراع شيئاً أكثر جدية؟ مثل: علاقة أحد الزوجين بشخص آخر، أو مشكلة إدمان شخص ما للمخدرات، أو عدم أمانة شخص ما في العمل.

إقرأ أيضاً: 3 مهارات يتقنها الأشخاص الذين يتمتعون بالذكاء العاطفي

الأشخاص المبتزون وأنواع الابتزاز العاطفي:

ليس لكل مبتز الأسلوب ذاته أو السمات الشخصية ذاتها؛ فمنهم السلبيين، ومنهم العدوانيين للغاية، ومنهم المباشرين، ومنهم الماكرين للغاية. ينقسم الأشخاص المبتزون فيما يلي إلى أربعة أنواع، يتميز كل منهم بأسلوب تلاعب عقلي خاص به:

  • المبتزون المعاقبون: يخبروننا غالباً بما يريدون، ويفرضون تنفيذ عمل ما قد يترتب عليه عواقب إن رفضنا تنفيذه، وهذا النوع واضح وظاهر وأكثر عدوانية، ويندرج ضمن هذا النوع من المبتزين صنف يدعى: "المعاقبون الصامتون"، ويبني هذا النوع من المبتزين حائط سد بيننا وبينهم خلف وجه خال من التعبيرات، متفادين تحمُّل مسؤولية المواجهة المباشرة بما يريدونه، غير مكترثين بمشاعرنا أو بالأسباب التي دعتنا للرفض.
  • المبتزون المعاقبون للذات: يُهدِّد أفراد هذا النوع من الابتزاز بإلحاق الضرر بأنفسهم إن لم نرضخ لهم، وهم على العكس من النوع الأول؛ غير مباشرين في توجيه التهديد لنا.
  • المبتزون المعانون: يتَّخذون موقفاً فحواه أنَّهم إن شعروا بالبؤس أو المرض أو عدم السعادة، فسيحصلون على ما يريدون؛ لذلك تجدهم معظم الأوقات يُلقون باللوم على الآخرين، محمِّلين إياهم مسؤولية بؤسهم وتعاستهم، مكتفين بالشكوى والأنين دون إيضاح ما يريدون.
  • المبتزون المُغرُون: يلجأ هذا النوع إلى الإغراء بالحُب، أو النقود، أو التقدم الوظيفي (على مبدأ الجزرة والعصا) كوسيلة ضغط لنرضخ إلى مطالبهم، فيُخضعوننا لامتحان تلو الآخر، قاطعين وعوداً بجوائز رائعة إن نحن نجحنا في اختباراتهم وحققنا رغباتهم.

شاهد بالفيديو: 6 عادات اكتسبها لتشعر بالأمان العاطفي

كيف نواجه الابتزاز العاطفي؟

إنَّ وجود ابتزاز عاطفي في علاقة مُقرَّبة لا يعني بالضرورة الحكم عليها بالفشل والانتهاء، ولكنَّه يعني ببساطة حاجتنا للاعتراف الصريح بالسلوك المسبب للألم، والسعي في تصحيحه لإعادة وضع هذه العلاقات على أرض أكثر صلابة، فتسليط الضوء على علاقات يشوبها ضباب الابتزاز العاطفي كفيل بإنهاء هذا الابتزاز، وهو أساسي في بداية الحل.

وللأسف، إنَّ الإذعان لسلوك المبتز مكافأة له، وفي كل مرة "نكافئ" فيها أحداً ما على تصرف معيَّن، سواء كنَّا مدركين أم غير مدركين لذلك، فإنَّنا نؤكِّد له بكل السبل أنَّ بإمكانه تكرار ذاك التصرف معنا مرة أخرى.

إنَّ الثمن الذي ندفعه كل مرة نستسلم فيها لابتزاز عاطفي ثمن باهظ جداً، ولعلَّ أسوأ ما يمكِن حدوثه لنا كل مرة نستسلم فيها لابتزاز عاطفي هو خسارتنا الشعور بالنزاهة والتواصل مع بوصلتنا الداخلية، والتي تساعدنا في تحديد القيم والسلوكات التي ينبغي اتِّباعها.

إنَّ شعورك بالذنب في الواقع هو شعور أناني، وهو ما يحاول المبتزون زرعه في داخلك؛ لذا فإنَّ تخلُّصك من شعور الذنب يُعدُّ مفتاحاً أساسياً للتخلص من الابتزاز، ودون شعورك بالذنب فإنَّ المبتز لا حيلة له.

في مثل هذه الحالات، قد يتفوَّه الطرفان بأشياء بغيضة لبعضهما بعضاً، وقد يبدو وضع الحدود على أنَّه ابتزاز عاطفي؛ لأنَّ المشاعر قوية للغاية، ومع ذلك فإنَّ الفرق واضح بين وضع الحدود المناسبة وبين الابتزاز العاطفي في مثل هذه الحالات؛ إذ إنَّ الفهم والتعاطف مع المبتز عاطفياً لن يجديا نفعاً؛ بل هما في الواقع كمن يصبُّ زيتاً على نار الابتزاز.

وأيَّاً كانوا فهم يستغلُّون الخوف من الخسارة، والتغيير، والرفض، وفقدان السلطة؛ إذ إنَّ الخوف يُعدُّ أرضية مشتركة تمتد تحت هؤلاء المبتزين.

وأياً كان أسلوب الابتزاز فهو يدمِّر سعادتنا، وعلينا التخلص منه نهائياً.

يعمد المبتزون أياً كان نوعهم إلى تعزيز مشاعر الخوف، والالتزام، والشعور بالذنب لدينا، وهو ما يسمَّى بالضباب الحاجب؛ فيجعلنا ذلك نرتبك ونشعر بعدم الراحة والخوف من الغضب، والغضب هنا لا يقتصر على غضب الآخرين فحسب؛ بل يتعداه إلى الخوف من غضبنا نحن، وما قد يترتب عليه من التزام شعور الدَّين الدائم الذي يستغله المبتزون.

والشعور بالذنب هو القنبلة النيوترونية للمبتز، فهو ربما يبقي العلاقات قائمة، لكنَّه يقوِّض الثقة والحميمية اللتين تجعلاننا نريد أن نكون طرفاً في هذه العلاقات، ولكي يَنشر المبتزون الضباب على مشاعرنا ليشعرونا بالخوف والالتزام والذنب؛ فإنَّهم يذهبون للالتفاف، وبمعنىً آخر نحن الطالحون وهم الصالحون، بالإضافة إلى تشويه المبتزين لسمعة الأشخاص المستهدفين، فإنَّهم يمارسون ضغطاً من خلال تحدي شخصيتنا ودوافعنا وقيمنا، ويُصيب المبتز حالة من الحرمان؛ فهو يَعتقد بأنَّه إذا لم يصمم على الحصول على ما يريده، فإنَّه لا يملك أي فرصة للسيطرة، وإنَّ الأشخاص الذين واجهوا خسارة وحرماناً كبيرَين في طفولتهم عادةً ما يصبحون كثيري المطالب على المستوى العاطفي وعالة على الآخرين بشكلٍ واضح كبالغين كي يتجنبوا الإحساس بالرفض أو الهجر أو التجاهل.

وقد يكون عدم القدرة على تحمُّل الإحباط استجابة أيضاً للشكوك والضغوط الحديثة نسبياً، حيث تزداد احتمالية حدوث ابتزاز زيادةً مهولة خلال أزمات مثل: الانفصال، أو الطلاق، أوفقدان الوظيفة، أوالمرض، أوالتقاعد، التي تقوِّض إحساس المبتزين بأنفسهم كأشخاص ذوي قيمة.

قد لا يشكِّل الابتزاز العاطفي تهديداً للحياة، ولكنَّه يسلبنا أغلى ممتلكاتنا، وهي نزاهتنا، والنزاهة هي مستودع قيمنا وبوصلتنا الأخلاقية، وهي التي توضح الصواب والخطأ بالنسبة لنا.

إقرأ أيضاً: 18 خصلة يتحلى بها الأشخاص النزيهون... ما هي؟ وهل هي موجودة فيك؟

وهذه بعض التأكيدات لتعزيز النزاهة:

أنا أدافع عما أؤمن به، وأنا لا أدع الخوف يدير حياتي، وأنا أواجه الأشخاص الذين تسببوا في إيذائي، وأنا أحدد شخصيتي ولا أسمح للآخرين بالقيام بذلك، وأنا أفي بالوعود التي أقدِّمها لنفسي، وأنا أحمي صحتي النفسية والعاطفية، وأنا لا أخون الآخرين، وأنا أقول الحقيقة.

واحترام نزاهتنا وحمايتها ليس أمراً سهلاً، حيث إنَّ المبتزين يشوِّشون على نظام الإرشاد بداخلنا عن طريق إحداث ارتباك وجلبة، وبينما يفعلون ذلك، نبدو وكأنَّنا نفقد التواصل مع جوانب المعرفة داخلنا، فإذا بنا نوبخ أنفسنا حين ندرك أنَّنا استسلمنا مرة أخرى، فالابتزاز العاطفي يتركنا مشحونين بالمشاعر المتأجِّجة المكبوتة.

وعندما لا نحمي أجسادنا، فهي ترسل لنا إشارة من خلال الألم لكي ننتبه، ونحن نعرف أنَّ الاستسلام للابتزاز العاطفي يجعلنا نخون أنفسنا واستقامتنا، لكنَّنا نميل إلى التغاضي عن الطريقة التي قد نخون بها من نهتم بأمرهم وذلك لمحاولة تهدئة المبتزين أو تجنب النقد.

والابتزاز العاطفي يمتص الأمان من العلاقة، ونعني بالأمان حسن النية والثقة، وهما العنصران اللذان يتيحان لنا أن نكشف عن أنفسنا لشخص ما دون الخوف من أن تتم معاملة أفكارنا ومشاعرنا العميقة باهتمام ولا شيء غير ذلك، أما هذان العنصران وما سيتبقى؛ فهو علاقة سطحية خالية من الصراحة العاطفية التي تمكِّننا من أن نكون على سجيتنا مع الطرف الآخر.

ومن الكلمات التي تقوِّي تحمُّلنا للابتزاز "أنا أستطيع التحمل"، وربما تبدو تلك الكلمات الثلاث غير مُهمة، لكن إذا تمَّ استخدامها استخداماً صحيحاً، يمكِنها أن تصبح أحد أسلحة مقاومة الابتزاز العاطفي، وهي ذات فاعلية؛ لأنَّها تعارض اعتقاداً يقودنا للموافقة على طلبات مَن يبتزوننا، وهي فكرة أنَّنا لا نستطيع تحمُّل الضغط.

عندما تتعرَّض للابتزاز، فقل للمبتز: "لا أستطيع أن أجيبك الآن، أحتاج لبعض الوقت للتفكير"، وراقِب، وبمجرد أن تفصل نفسك عن دراما الابتزاز، تصبح في موضع يتيح لك جمع المعلومات التي تساعدك على تحديد الطريقة التي سترد بها على المبتز، وخلال الوقت الذي اكتسبتَه لاتخاذ قرارك، ستحتاج إلى أن تصبح مراقباً على نفسك وعلى الطرف الآخر، وعند تحليلك للموقف؛ فإنَّه سيقع ضمن ثلاث حالات وهي إما أنَّه ليس بالأمر الجلل، أو أنَّه يحتوي على مسائل مُهمة، ونزاهتك على المحك، أو أنَّه يتضمن إحدى مسائل الحياة الرئيسة.

ضع استراتيجية، فهناك أربع استراتيجيات لوقف الابتزاز العاطفي وهي:

  • التواصل غير الدفاعي.
  • عمل تحالف مع الخصم.
  • المقايضة.
  • استخدام الدعابة.

فلنوقف الابتزاز العاطفي من عالمنا ولنخلق جواً نظيفاً لكنَّه جو متفتح ولا يخدعنا أحد فيه.




مقالات مرتبطة