شارلوك هولمز: دروس في التفكير النقدي وحل المشكلات

على الرغم من كونه شخصية خيالية، فإنَّ شارلوك هولمز هو خير مثال عن التفكير النقدي وحل المشكلات يمكننا جميعاً التعلُّم منه؛ لذا إليك تحليل لفلسفته، ونهج تفكيره.



يميِّز هولمز نفسه بصفته محققاً، ومستشاراً خاصاً عن المحققين الآخرين بقدرته الفريدة على مراقبة وتحليل الموقف، واستخلاص النتائج التي يعجز عنها الشخص العادي، وهذا ما يجعل الشخصيات الأخرى تطلب منه النصح، والمشورة، وذلك في رواية: دراسة في اللون القرمزي (A Study in Scarlet) بقلم الكاتب آرثر كونان دويل (Arthur Conan Doyle).

يعرف شارلوك هولمز كيف يرى الأشياء التي لا يراها الآخرون بدقة ملاحظته، ويعرف الحقائق التي يجب التركيز عليها، والتي يجب تجاهلها، ويعرف كيف يستدل على هذه الحقائق باستنتاجاتهم المنطقية الحتمية، وبينما يعد شارلوك هولمز بالطبع شخصية خيالية، إلا أنَّه ما يزال من الممكن أن يُعدَّ نموذجاً يُحتذى به عندما يتعلق الأمر بالتفكير النقدي وحلِّ المشكلات.

فيما يأتي النقاط البارزة، والخُلاصات السريعة بما يتعلق بفلسفته في التفكير:

لا تملأ دماغك بالمعارف المعدومة الفائدة:

يرى شارلوك هولمز أنَّ دماغه عُليَّة فارغة لا يمكن ملؤها إلا بالمعرفة والحقائق، وهو يحرص على عدم ملئها بالخردة معدومة الفائدة، يقول: "أعدُّ عقل الإنسان في الأصل كالعُليَّة الصغيرة الفارغة، وعليك فرشها بأثاث من اختيارك، فيملؤها الأحمق بأيِّ أثاث يصادفه، فتتراجع المعرفة التي قد تكون مفيدة له أو تختلط في أحسن الأحوال مع كثير من الأغراض الأخرى؛ ما يجعله يواجه صعوبة في العثور عليها حين يحتاج إليها.

في حين يكون العامل الماهر شديد الحرص بالفعل على ما يملأ به عُليَّة دماغه، لن يكون لدى ذلك العامل سوى الأدوات التي قد تساعده على القيام بعمله، وبتشكيلة كبيرة منها، وجمعها بترتيب مثالي، فمن الغلط الاعتقاد أنَّ هذه الغرفة الصغيرة فيها جدران مرنة، ويمكن أن تتوسع إلى أقصى الحدود.

خُذ بكلامي، سيأتي وقت تنسى فيه أمراً كنت تعرفه من قبل مقابل كلَّ معرفة إضافية؛ لذلك من الهام بمكان ما ألا تسمح بوجود حقائق معدومة الفائدة، والتي قد تحلُّ محل الحقائق المفيدة".

كان الدكتور واتسون (Watson) الذي يروي الرواية، ويبدأ بوصفه شريك غرفة مع شارلوك هولمز مفتوناً دائماً بأساليب وفلسفات هولمز الغريبة، وعند محاولته اكتشاف الأمر الذي يميز شارلوك، توصَّل إلى أنَّه قد كان لديه معرفة ممتازة في مجالات معينة من الحياة، مثل: الكيمياء، وعلم النبات، وعلم التشريح، والجيولوجيا، ولكنَّه كان جاهلاً جهلاً رهيباً بأمور أخرى، مثل: السياسة، والأدب المعاصر، وعلم الفلك.

في الواقع، اعترف شارلوك هولمز عندما تعرَّض للضغط أنَّه لم يكن يعلم أنَّ الأرض تدور حول الشمس، فصُدِمَ الدكتور واتسون بجهله في هذه المعلومة البديهية، لكن كان رد هولمز كالآتي: "ما الذي قد تعنيه هذه المعلومة لي؟ أنت تقول لي إنَّنا ندور حول الشمس، لكن وإن دُرنا حول القمر، فلن يحدث هذا فرقاً لي أو لعملي".

إنَّ هذا النوع من البراغماتية القاسية هو من سمات فلسفة شارلوك هولمز؛ فلا يهتم بحقيقة ما لم يكن لها تأثير مباشر في نفسه وعمله؛ فبالنسبة إليه إنَّ المعلومة التافهة أو معدومة الفائدة هي بمنزلة الكذب أو الإلهاء عما هو هام حقاً كونها أمراً لا يعمل إلا على تكديس عُليَّة دماغه.

علم الملاحظة والاستنتاج:

اشتهر شارلوك هولمز بقوته الاستنتاجية، والاستنتاج هو عندما تبدأ بالنظر إلى مجموعة من الحقائق، ثم تتبعها إلى أصلها لتصل إلى استنتاج منطقي، يتوصَّل هولمز في الكتاب إلى عدة استنتاجات رائعة بملاحظة الحقائق السهلة، ثمَّ التفكير في الأمر باتجاه مخالف؛ أي من نهايته إلى بدايته.

يصف أحد الأمثلة المبكرة في الكتاب كيف أدرك هولمز أنَّ الدكتور واتسون قد عاد لتوه من أفغانستان: "كعادتي منذ زمن طويل، كانت سلسلة أفكاري تتدفق بسرعة كبيرة في ذهني لدرجة أنَّني أصل إلى الاستنتاج دون أن أعي الخطوات الوسيطة".

لكنَّ تلك الخطوات موجودة، والتفكير مستمر: "يوجد هنا رجل نبيل يبدو أنَّه طبيب، لكنَّه يبدو مثل رجل عسكري أيضاً، لا بُدَّ أنَّه طبيب في الجيش إذاً لقد جاء للتوِّ من المناطق الاستوائية؛ فوجهه داكن الآن، وهذا ليس لون بشرته الطبيعي؛ لأن معصميه بلون فاتح في الأصل، ويقول وجهه المتهالك بوضوح أنَّه قد عانى من مشقة ومرض، وذراعه اليسرى مصابة؛ لأنَّه يمسك بها بطريقة غير طبيعية، ففي أيِّ المناطق الاستوائية يمكن لطبيب من الجيش الإنجليزي أن يرى مثل هذه المشقَّة ويُصاب في ذراعه؟ من الواضح أنَّ ذلك كان في أفغانستان"، لم تأخذ سلسلة الأفكار بكاملها ثانية، لأُشير لك أنَّك قادم من أفغانستان، وتندهش أنت عندها".

بملاحظة السمات الجسدية، مثل: الطريقة التي يمشي بها الرجل، وسلوكاته، وبشرته المُسمرة، وملامح وجهه، وكيف يحرك ذراعيه، كان هولمز قادراً على استنتاج أنَّ هذا الرجل كان طبيباً في الجيش الإنجليزي عائد لتوه من منطقة ساخنة، ما يؤكِّد أنَّه عائد من أفغانستان؛ فقد كان البريطانيون يقاتلون في أفغانستان في ذلك الوقت في أواخر القرن التاسع عشر.

يقدِّم هولمز عدة ملاحظات مماثلة في الكتاب، مثل قدرته على تقدير طول الشخص بناءً على أثر مشيته التي تكشفها آثار الأقدام في الأرض، وملاحظة أنَّ سيارة الأجرة كانت قد توقفت في موقع الجريمة؛ لأنَّ مسارات الإطارات الموجودة على الطريق أرفع من السيارات العادية.

يتمثل جزء كبير من عبقرية هولمز في القدرة على ملاحظة حقيقة صغيرة، والتعرف إلى جميع الحقائق الأخرى التي يجب أن ترتبط بها منطقياً، وهُنا يُخبر شارلوك الدكتور واتسون كيف تختلف قدراته المنطقية عن معظم الناس: "سيُخبرك معظم الناس بالنتيجة إذا وصفت لهم سلسلة من الأحداث، فبإمكانهم جمع هذه الأحداث معاً في أذهانهم، وأن يجادلوا بأنَّ شيئاً ما سيحدث، لكن يوجد عدد قليل من الأشخاص الذين إذا أخبرتهم بنتيجة سيكونون قادرين على استنباط الخطوات التي أدت إلى هذه النتيجة؛ إنَّني أعني قوة التفكير المخالف".

بينما يلاحظ معظم الناس الأسباب، ويستنتجون فيما بعد النتائج التي ستتبعها، يفخر هولمز بقدرته على البدء بالنتائج، ثم تتبعها إلى الوراء مستنتجاً أسبابها الأصلية.

إقرأ أيضاً: كيف تطلق العنان لأنواع الإبداع الأربعة بداخلك؟

قيمة الحقائق الغريبة:

كلَّما كانت الحقيقة أغرب، زادت إمكانية كشفها، وبحسب فلسفة هولمز، لا تُعدُّ الحقائق العادية مفيدة جداً؛ لأنَّها يمكن أن تتناسب مع مجموعة واسعة من السيناريوهات، في حين يمكن للحقيقة الغريبة، والتي تتميز عن غيرها، أن تساعدك على تضييق خياراتك وتوجيهك في الاتجاه الصحيح.

إذا كان الشخص يرتدي قميصاً أزرق، فهذا لن يخبرك كثيراً عن شخصيته؛ لأنَّ كثيراً من الناس يرتدون القمصان الزرقاء؛ فارتداؤه أمر منتشر وشائع جداً لدرجة أنَّه لن يُخبرك بأيِّ شيء هام، لكن سيُثير ارتداء شخص لسترة مدرعة، ومتعددة الألوان جميع أنواع الأسئلة التي قد تقودك إلى حقيقة مثيرة للاهتمام.

عادةً ما نعتقد أنَّه كلَّما كان الموقف أكثر غرابة كان من الصعب شرحه، لكن يختلف الأمر بالنسبة إلى هولمز، وذلك لأنَّه باستخدام قدرته على الاستنتاج؛ يمكنه أن يأخذ أمراً غامضاً ويرى أنَّه يدلُّ على الحقيقة بدلاً من أن يخفيها.

يشرح هولمز قضية لواتسون بعد حلِّها: "يبدو كلُّ هذا غريباً بالنسبة إليك؛ لأنَّك فشلت في بداية التحقيق في إدراك أهمية الدليل الحقيقي الوحيد الذي قُدِّم لك، وقد كان من حسن حظي أن أغتنم ذلك، وقد أكَّد كُلُّ شيءٍ حدث منذ ذلك الحين افتراضاتي الأصلية التي توصلت بواسطتها إلى نتيجة منطقية.

ومن ثَمَّ، إنَّ الأشياء التي حيرتك، وجعلت القضية أكثر غموضاً بالنسبة إليك، قد ساعدتني على تقوية استنتاجاتي، ومن الخطأ الخلط بين الغرابة، والغموض الذي لا يقدِّم سمات جديدة أو خاصة يمكن استخلاص الاستنتاجات منها.

شاهد بالفديو: 5 نصائح تساعدك على حلّ المشاكل في العمل

الحاجة إلى التأمل العميق:

بينما يُصوَّر هولمز عموماً على أنَّه نشيط ويتخذ زمام المبادرة في الكتاب، فبالإمكان ملاحظة كيفية قضائه فترات مكثفة من التأمُّل أيضاً، فمبكراً في الكتاب، كان قد قدم الدكتور واتسون - زميل هولمز في الغرفة - ملاحظة مقلقة تتعلق بالفترات التي يدخل فيها هولمز في مزاجه الانعزالي.

قال واتسون: "لا يمكن لشيء أن يُضاهي طاقته عندما يعمل، لكن ستجده من حين لآخر مستلقياً على الأريكة في غرفة الجلوس، وبالكاد ينطق بكلمة أو يحرك عضلة من الصباح إلى الليل، ولاحظت في هذه المناسبات تلك التعبيرات الحالمة في عينيه؛ لدرجة أنَّني كنت لأشتبه أنَّه مدمن على تناول بعض المواد المخدرة لو لم أكن أعرفه حق المعرفة".

لم يُقل المزيد عن هذه السلوكات؛ لذلك علينا التكهن قليلاً، ونظراً لأنَّ هولمز كان لديه جدول زمني ثابت عندما يتعلق الأمر بالنوم والنظام الغذائي والعمل، فمن الآمن القول إنَّ هذه السلوكات الغريبة ليست بسبب المجهود المفرط أو العمل الشاق.

تحتاج معظم العقول العظيمة إلى لحظات من التفكير الصحي لمعالجة جميع المعلومات التي استوعبوها طوال اليوم؛ فربما يحتاج عقل شديد النشاط وفائق الانتباه مثل عقل شارلوك إلى وقت للاستيعاب والتفكير أكثر من غيره.

يبدو أنَّ "ملامح الوجه الحالم" تشير إلى الشخص الذي ينظر إلى داخله، ويضبط العالم الخارجي، مُفكراً بعمق، ولدى هولمز صفات أخرى غريبة ترتبط بقدرته على التفكير، وحلِّ المشكلات، وربما يكون أكبرها عادته في العزف على الكمان.

"كانت قدرته على العزف رائعة للغاية، لكنَّها غريبة الأطوار مثل كلِّ إنجازاته الأخرى، فقد عزف لي مقطوعات صعبة جداً كنت أعرفها، وعندما يُترَك الأمر له نادراً ما كان يعزف مقطوعات موسيقية معروفة، فقد كان يستلقي على أريكته في المساء، ويغمض عينيه ويمسك بلا مبالاة الكمان المُلقَى على ركبته لتكون في بعض الأحيان الألحان رنانة وحزينة.

في حين كانت رائعة، ومبهجة بين الحين، والآخر، من الواضح أنَّ تلك الألحان كانت تعكس أفكاره، لكنَّ معرفة ما إذا كانت الموسيقى تُؤثِّر في أفكاره، أو ما إذا كان العزف ببساطة لمجرد التسلية كان أمراً يصعب استنتاجه".

يبدو أنَّ هولمز يستخدم الكمان بوصفه أداة ارتجالية للتواصل تواصلاً أكبر مع أفكاره ومشاعره الداخلية عندما لا يُطلب منه عزف مقطوعة موسيقية كلاسيكية شهيرة لزميله واتسون، فهو غالباً ما ينظر إلى الموسيقى بوصفها طريقة للتفكير من دون كلمات، وهي طريقة أخرى لا تتطلب لغة أو محادثة للتفكير في تجاربنا واستيعابها.

من الممكن أن يكون استخدام شارلوك للكمان بوصفه وسيلة لأخذ قسط من الراحة من عقله المزدحم بالأفكار، ومثل شكل من أشكال الترفيه أو العناية بالنفس أو أنَّه يستخدمه بوصفه امتداداً لعقله لمساعدته على التفكير تفكيراً واضحاً، وأن يكون على تواصل مع قلبه وحدسه، ومهما كانت الحالة، فإنَّ عزف شارلوك على الكمان هو جزء هام من روتينه اليومي.

إقرأ أيضاً: فوائد التأمل للعقل والجسم: أسباب وجيهة لممارسة التأمل

في الختام:

شارلوك هولمز مثال رائع عن العقل الذكي والفضولي، ويُعدُّ كتاب "دراسة في اللون القرمزي" مقدمة ممتعة عن أساليبه الغريبة؛ لذا يتعين علينا قراءة مزيد من القصص عنه في المستقبل للتعمق أكثر فيما يجعل شخصيته فريدة ولا تُنسى.

كان يمكن أن يكون الكشف عن جريمة القتل هذه أكثر صعوبة لو عُثِر على جثة الضحية ملقاة بسهولة على الطريق من دون وجود أيٍّ من تلك الملابسات الغريبة والمدهشة التي جعلتها جديرة بالملاحظة، وبعيداً عن كون تلك التفاصيل الغريبة جعلت القضية أكثر صعوبة، إلا أنَّها لها تأثير في جعلها أسهل بطريقة ما".

إذا كنت تعرف حقيقة غريبة، فعليك أن تضعها في الحسبان عند فهمك للأمور؛ لأنَّ هذا ما سيقودك إلى مسارات معينة، بينما تحجب مسارات أخرى، وكما يقول الكاتب إسحاق أسيموف (Isaac Asimov): "إنَّ العبارة الأكثر إثارة التي يمكن سماعها في العلم، والتي تُنذر باكتشافات جديدة، إنَّها ليست "وجدتها" بل هي عبارة "إنَّه لأمر غريب".

سواء كنت عالماً أم محققاً أم باحثاً عن الحقيقة، غالباً ما توجهك الغرابة في اتجاه تحتاج إلى السعي الإضافي وراءه.

المصدر




مقالات مرتبطة