سايكولوجيا الإنسان المغلوب على أمره

قد لا يجد بعض الأشخاص أيَّة لذة فيما يُطلِق عليه الناس "ملذات الحياة وبهجاتها"، فقد لا يجدون أيَّة متعة في الحفلات والسهرات وما إلى ذلك من وسائل المتعة والسعادة التي يرونها لحظيَّة وسطحيَّة، ولا تقدِّم أيَّة فائدة للحياة والمجتمع.



إنَّهم يجدون اللذة الحقيقية في المعرفة أو ما يسمونه بلذة المعرفة، والتي تكون من خلال القراءة والبحث والمطالعة، وصولاً إلى صنع استنتاجات تفسِّر الظواهر التي تحدث معهم بطريقة عقلانية ومنطقيَّة، فإنَّ هذه المعرفة هي لب السعادة وجوهر المتعة بالنسبة إليهم.

ما هو تعريف الإنسان المغلوب على أمره؟

لقد اختلف العلماء والباحثون في تعريف هذا الإنسان، ويمكن تلخيص الأشخاص المغلوب على أمرهم في اتجاهين؛ الاتجاه الأول ربطه بالظروف الاقتصادية والمعيشية السيئة فهو بنظر هذا الاتجاه إنسان فقير يعاني من سوء التغذية ويعيش في ظل خدمات صحية وتعليمية سيئة؛ لذا فهو من وجهة نظر هذا التعريف مغلوب على أمره من قِبَل الظروف الموضوعية المحيطة به.

أما الاتجاه الثاني فقد ابتعد عن ربط الإنسان المغلوب على أمره بالظروف على أنَّها نتيجة وتحصيل حاصل بالنسبة إلى أمور أخرى تتعلق ببنيته النفسية المقهورة، والتي يتأثر فيها ويتطبَّع بها، من هدر لقيمته واستهانة بكرامته وقدراته.

كوجهة نظر معتدلة تقف وسطاً بين الاتجاهين؛ قد يكون الإنسان المغلوب على أمره هو نتاج لهذين الاتجاهين، وقد لا نستطيع التحديد تماماً مَن هو الذي سبب الآخر؛ هل الوضع الاقتصادي والاجتماعي والصحي والتعليمي السيِّئ هو الذي أدَّى إلى قهر هذا الإنسان وتدمير بنيته النفسية؟ أم أنَّ بنيته النفسية العاجزة عن التغيير وتقبُّل الجديد هي التي أوصلته إلى هذه الأوضاع السيئة؟ إنَّها قصة مضحكة ومبكية في نفس الوقت تشبه قصة البيضة والدجاجة.

لماذا تفشل خطط التنمية في مجتمعات الإنسان المغلوب على أمره؟

تُطبِّق الحكومات الموجودة في المجتمعات المتخلِّفة العديد من خطط التنمية، والتي قد تهدف إلى بناء مجتمع متحضر ومتوازن، وحتى قد تدخل بعض المنظمات الدولية المعنية بمثل هذه الأمور مثل منظمة الأمم المتحدة ومنظمة حقوق الإنسان وصندوق النقد الدولي وغيرها، ولكنَّ كل هذه الجهود عادةً ما تبوء بالفشل.

تتبع هذه المنظمات خططاً مدروسة ومنهجية واضحة وعلمية موضوعة بأيدي خبراء متخصصين في مثل هذه الأمور، فتطبِّق السياسات النقدية السليمة والخطط الاقتصادية المناسبة لبنية الاقتصاد، واستثمارات تراعي مقدرات الدولة ومقوماتها، ويبدو أنَّ كل الأمور تسير وفق الخطة الموضوعة، لكن في النهاية لا يحصدون سوى القليل من الفوائد، والتي هي أقل بكثير من التوقعات والخطط والأهداف.

إنَّ السبب الحقيقي وراء هذا الفشل هو عدم مراعاة سايكولوجيا الإنسان المغلوب على أمره، وعدم معالجة بنيته النفسية التي تُعَدُّ العائق الحقيقي أمام تحسين أوضاعه والظروف المحيطة به.

وهنا تكمن المشكلة الأساسية؛ ألا وهي عدم قدرة الإنسان المقهور على تقبُّل موضوع التغيير، فهو لا يقبل أن يتخلى عن العرف والعادة والتقليد ولو كانت سبباً لما يحدث له من شقاء وعناء، وهنا أصل العلة؛ لذا فإنَّ أي تغيير في الظروف المحيطة بالإنسان لن ينجح إذا لم يترافق مع تغيير في البنى السايكولوجية الخاطئة التي يتمسَّك بها الإنسان المقهور؛ وذلك لأنَّ تعرُّضه للقهر باستمرار ولمدة طويلة جعل من هذا القهر جزءاً من التكوين النفسي والذهني والعقلي، بطريقة غير واعية وغير محسوسة.

إقرأ أيضاً: 5 نصائح لتحسين الحياة والوصول إلى الاستقرار النفسي

ما هي العوامل التي تؤدي إلى تشكيل الإنسان المغلوب على أمره؟

لا شك بأنَّ أهم عامل هو القهر الذي يُمارَس على الإنسان حتى يصبح جزءاً لا يتجزأ من شخصيته، ويمكن تقسيم هذا القهر إلى شقين؛ الأول تمارسه الطبيعة عليه، والثاني تقوم به السلطة الحاكمة.

إنَّ أبرز مظاهر القهر هي العنف؛ إذ إنَّ العنف المستمر يحوِّل الإنسان المعنَّف إلى خيط في شبكة من الناس المعنَّفين مثله، وفي نفس الوقت يمارسون العنف على الآخرين؛ أي إنَّ العنف هو وسيلة لنشر القهر على شكل تزايد الأسى.

وتتحول الضحية "الإنسان المغلوب على أمره" في المجتمع الذي يسيطر عليه العنف إلى جلاد بالنسبة إلى مَن هم أضعف أو أدنى منه، وإلى ضحية بالنسبة إلى مَن هم أكثر قوة وسلطة منه.

كيف تساهم دورة العنف والقهر في بناء الإنسان المغلوب على أمره؟

  1. المسؤول الكبير أو المدير العام الذي يُمارس العنف سواء اللفظي أم الجسدي على مرافقيه أو حاشيته أو موظفيه.
  2. الموظف في مؤسسات الدولة الذي يمارس السلطوية والعنف اللفظي تجاه المراجعين الذين يقصدونه بغية إتمام معاملة.
  3. يعود المراجع إلى بيته والقهر والعنف يتراكمان في داخله ويطوفان عن نفسه، فيبدأ بالصراخ على زوجته، وما إن تدافع عن نفسها حتى يبدأ بممارسة العنف ضدها.
  4. تعود الزوجة المغلوب على أمرها إلى المطبخ وتحاول إلهاء نفسها في عمل البيت، وما إن يأتي أحد الأطفال إليها ليطلب منها أمراً ما حتى تصرخ في وجهه وتمارس في حقه العنف اللفظي أو حتى العنف الجسدي.
  5. هذا الطفل الذي قُهِرَ أو عُنِّفَ يذهب إلى أخيه الصغير أو جيرانه في الحي ممن هم أضعف منه ليفرغ قهره أو عنفه ضدهم، ليشعر ببعض التعويض عن العنف الذي تعرَّض له.
  6. ثم قد يخرج الأخير إلى الشارع فلا يجد من يفرغ فيه طاقة العنف سوى قطة صغيرة أو دجاجة مسكينة، فيلاحقها أو يضربها بالحجارة.
  7. نرى ظاهرة ضرب الحيوانات منتشرة في مجتمعات الإنسان المقهور والمغلوب على أمره؛ لأنَّ هذا الإنسان لا يجد سوى الحيوانات ليفرغ فيها قهره، وهذا ما لا نراه في المجتمعات المتقدمة والمتحضرة؛ إذ يشكل الاعتداء على أي حيوان جريمة نكراء ليس فقط في عرف القانون؛ بل في عرف المجتمع، وهذا هو الأهم.

ما هي الأساليب الدفاعية التي يتبعها الإنسان المغلوب على أمره؟

1. الانكفاء على الذات:

بسبب تعرُّض الإنسان للقهر المزمن؛ فإنَّه ينكفئ على ذاته ويعزل نفسه عن أي عامل خارجي، ويحجِّم طموحاته ويحدُّ منها، لا بل قد يقتلها تماماً ويحاول إخماد أي بصيص رغبة يشتعل في رماده، ويفعل كل ذلك خوفاً من أن يحاول وتنتهي محاولته بالفشل.

شاهد بالفديو: 5 طرق لقهر الاكتئاب النفسي

2. تقبُّل المصير:

يرمي الإنسان المغلوب على أمره كل ما يمر فيه من بؤس وخوف وفشل على الأقدار، ويقنع نفسه بأنَّ هذا هو مصيره المحتوم، وأنَّ هذا العذاب مكتوب عليه وهو لا حول له ولا قوة في تغييره أو تحسينه، ودائماً ما يُحدِّث نفسه بأنَّ الحياة عبارة سلسلة من العذاب والمعاناة لكي يتقبل الواقع المزري ويُطفِئ أيَّة شرارة للتغيير في داخله.

3. العودة إلى الماضي:

لأنَّ الإنسان مغلوب على أمره؛ فهو لا يملك أي أمل في الحاضر أو المستقبل وليست لديه أيَّة ضمانات مستقبلية على صحته أو حياته أو حياة أولاده، فهو يعود إلى الماضي ويتشبث بالتراث والعادات والتقاليد ويكررها ويعتز بها، ويتغنى بإنجازات آبائه وأجداده من غابر الزمان؛ لأنَّه لا يمتلك أيَّة إنجازات قام بها بنفسه، ولا يكتفي بالعودة إلى الماضي؛ بل يتجاهل كل دعوة تدعو إلى الانفتاح والتحرر ونسيان الماضي والتطلُّع إلى المستقبل.

وتستغل الحكومات المستبدة هذه النقطة وتوجِّه المشايخ والوجاهات إلى بث أحاديث الركون والخمول والقناعة والرضى بالواقع كما هو، والامتناع عن الخروج عن قوانين المجتمع مهما كانت بالية أو متخلفة.

4. الذوبان في الجماعة:

عندما يكون الإنسان مغلوباً على أمره، فإنَّ هويته الشخصية أو الفردية تصبح ضعيفة أو حتى غير موجودة؛ وهذا يدفعه إلى أن يذوب في الجماعة وتصبح هويته هي هوية الجماعة، بالإضافة إلى إحساس هذا الشخص بحالة انعدام الأمان؛ وهذا بدوره يدفعه إلى اللجوء إلى الجماعة، فيتخلى عن خصوصيته الفردية التي تميزه ويقدِّم لها الولاء المطلق، مقابل حصوله على الحماية.

5. التكاثر:

لأنَّ الإنسان المغلوب على أمره لا يجد ما يمكن أن يحقق طموحاته ورغباته التي قد تتعارض مع رأي الجماعة مما يعرضه إلى الخطر، فإنَّه يلجأ إلى الإنجاب والتناسل؛ إذ يرى أنَّ هذه الرغبة غير ممنوعة من العرف العام، لا بل مرغوبة بشدة ومُشجَّع عليها، بالإضافة إلى أنَّ الإنسان المقهور يرى في هؤلاء الأطفال وسيلة لحماية نفسه وزيادة قوة العائلة من خلال زيادة عدد أفرادها، ولأنَّه لا يمتلك أيَّة ضمانات أو تأمين على شيخوخته، فإنَّه يرى هؤلاء الأطفال بمنزلة التأمين؛ وهذا يُشعِره ببعض الأمان والاطمئنان في ظل ما يعانيه في واقعه.

6. التماهي بالمتسلط:

لأنَّ الإنسان المغلوب على أمره عاجز تماماً عن مواجهة الظلم والقهر، فإنَّه يلجأ إلى تبنِّي العنف والتماهي مع المتسلط؛ ويتجلى ذلك من خلال العمل في صفِّه أو الدفاع عنه، أو ممارسة العنف على الأشخاص الآخرين.

7. اللجوء إلى الغيب:

يرمي الإنسان المغلوب على أمره كل فشله وانكساراته على القدر، ولا يكتفي بذلك، بل يلجأ إلى الغيب والماورائيات لمساعدته على تخطِّي مصائبه ومشكلاته، مثل السحر أو الشعوذة؛ وذلك لأنَّه غير قادر على العمل ضمن الواقع الذي يعيش فيه.

إقرأ أيضاً: العنف المجتمعي: أسبابه، وأنواعه، وأهم الوسائل للقضاء عليه

في الختام:

في نهاية هذا المقال يمكن أن نلخص سبب التخلُّف بالتمسُّك في الماضي وعدم التطلُّع إلى المستقبل؛ فلا يمكن أن يصل الإنسان إلى التقدُّم والتطور طالما أنَّه يعيش في الماضي، ولا يمكن بناء الأوطان إلَّا بالعلم والمعرفة

المصادر: 1، 2، 3




مقالات مرتبطة