تجارب في الإصلاح الإداري

يقول الاقتصادي الأمريكي والباحث في علوم الإدارة "بيتر فردناند دراكر" (Peter Ferdinand Drucker): "لا يوجد بلد متخلف أو بلد متقدم؛ إنَّما توجد إدارة متقدمة وإدارة متخلفة".



في الحقيقة يرتبط نجاح أي نوع من الخطط التنموية بمدى التقدم الذي تحرزه الدولة في إصلاح أجهزتها الإدارية التي يقع على عاتقها تنفيذ تلك الخطط؛ لذا نجد الإصلاح الإداري ضمن الأهداف الرئيسة لكافة دول العالم بحيث يحتل موقعاً مميزاً ضمن قائمة الخطط القومية للدول من منطلق كلما ارتقى عمل الأجهزة الإدارية واقترب من الإتقان والاحتراف، نجحت خطط التنمية وتحقيق النمو الاقتصادي والتطور الاجتماعي.

أصبح الإصلاح الإداري مطلباً جماعياً محقاً وأمراً ملحاً للخروج من حالة التضخم الإداري، وللقضاء على الفساد بأنواعه، وتقديم الخدمات العامة بنجاح، ورفع الكفاءة الإنتاجية للمنظمات والمؤسسات بما يتلاءم مع السياسية العامة التي تحددها الدولة.

يمكن القول إنَّ موضوع الإصلاح الإداري من أكثر الموضوعات أهمية سواء على المستوى الخاص أم على المستوى العام لإحداث التغيير في المجتمع ونقله من مستوى أدنى إلى مستوى أفضل والسير فيه إلى نمط أكثر تقدماً من الذي كان موجوداً، فالتجديد ضرورة حتمية لمجاراة العالم واللحاق بالتطور الهائل الحاصل على مستوى الإدارة العامة كلها مع ضرورة الحفاظ على الهوية الوطنية للدول وقيمها الموجودة.

تعريف الإصلاح الإداري:

عرَّفت الأمم المتحدة الإصلاح الإداري بأنَّه "الاستخدام الأمثل والمدروس للسلطة والنفوذ لتطبيق إجراءات جديدة على نظام إداري ما؛ وذلك من أجل تغيير أهدافه وبيئته وإجراءاته بهدف تطويره لتحقيق أهداف تنموية".

كما عرَّفه مؤتمر الإصلاح الإداري في الدول النامية الذي عقدته الأمم المتحدة في عام 1971 بأنَّه "حصيلة الجهود التي تهدف إلى إدخال تغييرات أساسية في المنظمة الإدارية العامة من خلال إصلاحات على مستوى النظام ككل".

مهما تعددت التعريفات التي تناولت مفهوم الإصلاح الإداري يمكن الوصول إلى اتفاق يقضي بأنَّه جهد جماعي يهدف إلى إحداث تغييرات هيكلية في الجهاز الإداري الموجود، وبما يتناسب مع الحالة الراهنة للبلد من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ وذلك بقصد زيادة فاعلية الأجهزة الإدارية من وزارات ومديريات ودوائر ومؤسسات عامة أخرى وتخفيض نفقاتها وتحسين مستوى أدائها.

إقرأ أيضاً: الإنتاجية أم الكفاءة: أيُّهما أهم؟ ولماذا؟

استراتيجيات الإصلاح الإداري:

استراتيجية التركيز على النواحي الهيكلية والتنظيمية:

تنطلق هذه الاستراتيجية من فكرة التقليل أو التخفيض من الأجهزة المشابهة من حيث عملها وتجميع هذه المهام وحصرها في جهة واحدة فقط.

استراتيجية إنشاء أجهزة التفتيش:

الهدف منها منع استغلال الوظيفة العامة للحصول على مكاسب شخصية والحد من الهدر في المؤسسات العامة وخفض النفقات إلى أقصى حد، وعلى الرغم من أهمية هذه الاستراتيجية، إلا أنَّ استخدامها يؤثر تأثيراً سلبياً في العاملين بسبب القيود الرقابية والضغط الذي يتولد عنها، وهذا ينعكس بدوره سلباً على إنتاجيتهم ودافعيتهم للعمل.

استراتيجية الأخذ بمبادئ الشفافية والوضوح:

تؤكد هذه الاستراتيجية على العمل وفق المعايير وأخلاقيات السلوك العام؛ إذ يشارك فيها كل من الجماعات المؤثرة مثل وسائل الإعلام وجماعات الضغط وأفراد الجمهور.

استراتيجية تخفيف المسؤوليات عن الإدارة العامة:

تقوم على التفويض ومنح الموظفين بعض الصلاحيات للتصرف والبعد عن الروتين الموجود في المركزية، ولا يخفى الأثر الإيجابي لهذه الاستراتيجية في رفع الروح المعنوية للعاملين.

مبادئ الإصلاح الإداري:

  • التركيز على التشريعات والقوانين والأنظمة النافذة وضرورة مراجعتها باستمرار وتعديلها عند الحاجة.
  • تبسيط الإجراءات والتقليل من التعقيد في المعاملات.
  • إصدار الأدلة الاسترشادية.
  • مراجعة الهياكل الإدارية والخرائط التنظيمية وتعديلها.
  • معالجة المشكلات القائمة واكتشاف الأخطاء وعلاجها.
  • علاج الهدر في الموارد المالية.

شاهد بالفديو: 7 استراتيجيات لإبقاء موظفيك في حالة تحفيز دائم

تجارب في الإصلاح الإداري:

تجربة الكويت:

تُعَدُّ الخطة الخمسية لدولة الكويت لأعوام 2009 إلى 2014 أساس عملية الإصلاح في دولة الكويت؛ إذ قدمت حلولاً واضحة للمشكلات الموجودة على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كما ركزت على إعادة هيكلة الأجهزة الإدارية في الدولة والتقليل من عدد الوحدات الإدارية عبر فك التشابك في الاختصاصات بينها وإسناد مهمة العمل الواحدة إلى وحدة إدارية واحدة.

إضافة إلى عمليات خفض الهياكل الوظيفية في القطاع الحكومي، وتبسيط الإجراءات، وإنشاء الحكومة الإلكترونية، وتقديم الخدمات إلكترونياً، والخدمات الأخرى الداعمة مثل البوابة الإلكترونية، وإنشاء مركز البيانات للقطاع الحكومي، وتكليف القطاع الخاص بأداء بعض مهام القطاع الحكومي، وإنشاء مركز متخصص لإعداد القيادات الإدارية لإنشاء هيئة مكافحة الفساد، وإصدار قانون مكافحة الفساد وتفعيل الآليات المؤسسية لمكافحته بأشكاله، وتعزيز الشفافية بالشكل الذي يحسن موقع الكويت على مؤشر الشفافية العالمي، وتعزيز دور منظمات المجتمع المدني ودعم مبادراتها في التنمية بالتعاون مع الأجهزة المعنية.

كما عملت دولة الكويت على دعم سياسات التخطيط والإحصاء من خلال تأسيس معهد متخصص في التخطيط والإحصاء، وأيضاً عملت على نشر ثقافة التخطيط في المؤسسات الحكومية من خلال إعداد دليل للتخطيط على مستوى الدولة يتناول المنهجية والأدوات وكيفية تدريب القائمين على التخطيط بشكل مفصل، إضافة إلى إنشاء وحدات إدارية حكومية معنية بالتخطيط، وعملت على تطوير بنوك المعلومات الإحصائية والمؤشرات الاقتصادية المختلفة وجعلها متاحة عبر الإنترنت.

تجربة مصر:

بدأت رحلة الإصلاح الإداري في مصر منذ عام 1951، وذلك عندما تم إنشاء لجنة خدمة مدنية مصرية في نفس العام بعد دراسة أجرتها لجنة الخدمة المدنية البريطانية في مصر برئاسة "بول سيكنر"؛ إذ كُلفت اللجنة التي تم إنشاؤها بإدارة وتنظيم ومتابعة شؤون العاملين في الدولة، وفي خطوة لاحقة في عام 1963 عُقد مؤتمر التنمية الإدارية؛ إذ خلص إلى مجموعات من التوصيات أهمها تحديد الأجور وترشيد التوظيف وإنشاء الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة.

على الرغم من الخطوات العديدة التي قامت بها مصر، إلا أنَّ الانطلاقة الحقيقية للإصلاح الإداري كانت في عام 2004؛ إذ وضعت برنامجاً واضحاً لتطوير الأجهزة الحكومية الإدارية، وقد اعتمد البرنامج على المنافسة في تقديم الخدمات العامة وتحسين مستوى الأداء للأجهزة الحكومية ووضع آليات مكافحة الفساد ووضع نظم المساءلة للأعمال الإدارية.

لكن للأسف التجربة المصرية فشلت ولم يحقق برنامج الإصلاح الإداري أهدافه؛ وذلك نتيجة وجود مجموعة غير قليلة من المعوقات، لعلَّ أبرزها تضارب المهام بين الوحدات الإدارية والروتين والبيروقراطية، وتدني مستوى الأجور، وضعف الحوافز، وعدم شمولية عمليات الإصلاح التي قامت بها.

تجربة تونس:

عملت تونس على إصلاح الإدارة من خلال القيام بمجموعة كبيرة من الخطوات، منها إحداث ديوان الدولة للإصلاح الإداري والوظيفة العامة، وإحداث ديوان الدولة للإعلام والمعلومات، وإحداث المعهد التونسي للدراسات والاستراتيجيات، وتطوير أجهزة الرقابة الأفقية والعمودية، وإنشاء النوافذ الموحدة في عدد من الإدارات والمختصة بتقديم الخدمات للمواطنين.

لتحقيق جودة الخدمات الإدارية وإشراك المواطن بالإصلاح، بدأ العمل بفكرة "المواطن الرقيب" في عام 1993؛ إذ يقدم المواطن الرقيب اقتراحه بتحفيز الموظف الجيد وإجراءات عقابية تجاه الموظف المقصر، ويرفع رئيس الحكومة تقريراً سنوياً عن ملاحظات المواطن الرقيب والتوصيات المقترحة إلى رئيس الجمهورية.

كما عملت تونس على اتباع نظام اللامركزية في الإدارة؛ وذلك من خلال إنشاء المجالس البلدية في المحافظات، وكذلك المجالس القروية الاستشارية خارج المجالس البلدية، إضافة إلى إنشاء المجالس المحلية التي تتولى الإشراف على نشاطات البلديات والمجالس القروية.

ركزت تونس في برنامجها الإصلاحي كذلك على تبسيط الإجراءات؛ إذ عملت على تقليص عدد التواقيع والأوراق المطلوبة واستبدالها بتصريح على الشرف، إضافة إلى تحديد قائمة الوثائق المطلوبة وتحديد أوقات معينة للرد على طلبات المواطنين، كما منحت التفويضات في تقديم الخدمات للمواطنين.

ركزت التجربة التونسية على استقبال المواطنين وحل شكواهم من خلال إحداث مكاتب العلاقات مع المواطنين، وبالنسبة إلى سياسات التوظيف اعتمدت تونس على مبدأ تكافؤ الفرص ومراعاة مصلحة العمل وعدم الانحياز وتحديد المسابقات وإتاحة فرصة الطعن حين التعسف.

كما أسست نظام أجور عادلاً، واعتمدت على معايير الأداء في منح التعويضات والحوافز، ولم تنسَ التجربة التونسية التركيز على الفئات الضعيفة عبر إنشاء صندوق التضامن الوطني والبنك التونسي للتضامن وآلية القروض الصغيرة.

تجربة سنغافورة:

بدأ الإصلاح الإداري في سنغافورة منذ عام 1958؛ إذ اتخذ مسار الإصلاح فيها مساراً تراكمياً عبر السنين، وركز البرنامج على نقاط عدة أبرزها التركيز على الموظف وطاقاته وقدراته وليس الوظيفة، والعمل بنظرية القطاع الخاص لتحسين الاقتصاد، والاعتماد على العمالة الوطنية وقيام المشاركة بين الموظفين والمواطنين لإنجاز مشروعات خدمية، وإحداث مكتب لتلقي شكاوى المواطنين، وتطبيق عقوبات قاسية في مرتكبي الانحرافات الوظيفية، وإحداث جهاز إداري لمكافحة الفساد، وإعادة الهيكلة للأجهزة الحكومية كافة لفك التشابك وإنهاء الازدواجية وإنهاء المهام المتماثلة وحصر المهمة بجهة واحدة.

تجربة البرازيل:

ركزت تجربة البرازيل في الإصلاح الإداري على التقليل من تدخل الأجهزة الحكومية في القطاع الاقتصادي والخدمي، كما ركزت على اتباع نمط اللامركزية في الإدارة وزيادة المساءلة للأجهزة الإدارية والإعلاء من شأن الموظف.

إقرأ أيضاً: العافية المالية تعود بالفائدة على الشركات والموظفين

في الختام:

إنَّ وجود حالة من عدم التوازن والتوافق في الأجهزة الحكومية، وعملها بحيث نلحظ التفاوت في رواتب الموظفين، وعدم النزاهة في اختيارهم، إضافة إلى سوء توزيع مهام العمل وتداخلها بين الجهات المختلفة، وعدم وضوح التعليمات، وسوء تقديم الخدمات العامة، والتقييم على أساس المحسوبيات، وضعف الرقابة وسواها من الأسباب تمثِّل مجتمعة ضرورة ملحة للبدء بعملية الإصلاح الإداري، وإحداث التغييرات المرغوبة على جميع المستويات والتنظيمات الإدارية القائمة، واستحداث تنظيمات جديدة ومراجعة القوانين وإصدار قوانين جديدة؛ وذلك بهدف تفعيل دور الأجهزة الحكومية وزيادة فاعليتها وكفاءتها في تقديم الخدمات العامة.




مقالات مرتبطة