تأثير الهواتف الذكية في علاقاتنا الاجتماعية

وفقاً لعالِمة الاجتماع في "معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا" (MIT) ومؤلِّفة كتاب "استعادة المحادثة" (Reclaiming Conversation) شيري توركل" (Sherry Turkle)، نحن جميعاً نفقد القدرة على إجراء محادثات أعمق وأكثر عفوية مع الآخرين؛ ممَّا يغيِّر طبيعة تفاعلاتنا الاجتماعية تغييراً مقلقاً.



لقد أمضت "شيري" السنوات العشرين الماضية في دراسة تأثيرات التكنولوجيا في كيفية تصرفنا بمفردنا وبين الآخرين، وعلى الرغم من أنَّها كانت متفائلة في البداية بقدرة التكنولوجيا على إحداث تغيير إيجابي في المجتمع، فإنَّها تشعر الآن بقلق متزايد حيال التقنيات الجديدة، ولا سيما الهواتف المحمولة التي تقوِّض الروابط الاجتماعية في مجتمعاتنا.

لقد عبَّرت في كتابها السابق "معاً وحدنا" (Alone Together) عن مخاوفها من أن تجعلنا التكنولوجيا نشعر بمزيدٍ من العزلة، حتى لو كان هدفها هو جعلنا أكثر ارتباطاً، ومنذ أن صدر هذا الكتاب في عام 2012، أصبحت التكنولوجيا أكثر انتشاراً وارتباطاً بحاضرنا؛ لذا كان كتاب "استعادة المحادثة" بمنزلة دعوة من "شيري" لإلقاء نظرة فاحصة على التأثيرات الاجتماعية للهواتف المحمولة، والاهتمام بدور المحادثة في حياتنا اليومية من أجل الحفاظ على قدرتنا على التعاطف والتأمل والإبداع والألفة.

وفي مقابلة أجرتها عالمة النفس والمدوِّنة "جيل سوتي" (Jill Suttie) مع "شيري"، تحدَّثت الأخيرة عن كتابها وأجابت عن بعض الأسئلة التي أثارتها؛ إليكم المحادثة:

يحذِّر كتابك الجديد من أنَّ الهواتف المحمولة وأجهزة التواصل المحمولة الأخرى تقضي على فن المحادثة، لماذا أردتِ التركيز على المحادثة بالتحديد؟

لأنَّ المحادثة هي أكثر شيء إنساني نفعله، فمن خلالها نتعاطف مع الآخرين ونتحدث إليهم بلغة العيون والجسد، ونُصغي إلى نبرات أصواتهم ونشعر بوجودهم، كما تتيح لنا التعرُّف إلى الأشخاص الآخرين، ولكن للأسف، لقد ابتعدنا فعلياً عن المحادثة دون قصد، وبطريقة أظهر بحثي أنَّها ضارة لنا.

كيف تضرُّنا الهواتف المحمولة والتقنيات الأخرى؟

يقول 89% من الأمريكيين إنَّهم استخدموا هواتفهم خلال تفاعلهم الاجتماعي الأخير، وقال 82% إنَّه أدى إلى تدهور المحادثة التي كانوا يجرونها؛ ممَّا يشير إلى أنَّنا نفعل شيئاً نعلم أنَّه يضر بتفاعلاتنا.

في الواقع، إذا استخدمت هاتفك الجوال في أثناء تفاعل اجتماعي، سيؤدي ذلك إلى نتيجتين، أولاً: التقليل من أهمية ما تتحدث عنه؛ وذلك لأنَّك تتحدث عن أمور لا تمانع في مقاطعتها، وثانياً: التقليل من التواصل التعاطفي الذي يشعر به الناس تجاه بعضهم بعضاً.

ومن ثمَّ مجرَّد إظهار الهاتف في أثناء المحادثة يقلِّل من الأهمية العاطفية للحديث، ويقلل من التواصل الذي يشعر به الشخصان تجاه بعضهما بعضاً، وإذا فكَّرت ملياً، ستجد أنَّك تفعل ذلك عندما تتناول القهوة مع شخص ما أو تتناول الإفطار مع طفلك أو تتحدث مع شريكك حول ما تشعر به، فنحن نفعل ذلك عشرات المرات في اليوم.

شاهد بالفيديو: 6 خطوات لتتخلص من إدمان الموبايل

لماذا يضعف البشر أمام جاذبية الهاتف الجوال إذاً ما دام يضر بتفاعلاتنا؟

ذلك لأنَّ الهواتف المحمولة تمنحنا العديد من الوعود الضمنية، فنشعر بأنَّنا لن نكون وحدنا أبداً، وأنَّنا لن نشعر بالملل، وأنَّنا نستطيع توجيه انتباهنا إلى أي مكان نريده، وأنَّنا نستطيع القيام بمهام متعددة، والذي ربما يكون الأكثر إغواءً على الإطلاق، ولقد أصبحت هذه القدرة على تركيز انتباهك على ما تريده هي الشيء الذي يريده الناس في تفاعلاتهم الاجتماعية؛ إذ يُشعِرك هذا الشعور بأنَّه ليس عليك أن تُلزم نفسك بشيء معيَّن، وأنَّه يمكنك التفاعل مع الآخرين كلما شعرت بالملل.

في الواقع، يُعدُّ السماح لنفسك بالشعور بالملل لبعض الوقت أمراً هامَّاً للتفاعل البشري، وهامَّاً لعقلك أيضاً؛ وذلك لأنَّك عندما تشعر بالملل، لا يشعر عقلك بذلك على الإطلاق؛ بل يجدِّد نفسه، ويكون بحاجة إلى ذلك الوقت، ولكنَّنا نتأثر جداً بهواتفنا المحمولة، حتى أنَّنا نحصل على نسبة عالية من المواد الكيميائية العصبية المحفِّزة التي تقدِّمها لنا هواتفنا.

لقد أمضيت العشرين عاماً الماضية في دراسة قدرة التكنولوجيا على أسرنا، ولكن على الرغم من ذلك، لا يزال في إمكاننا التغيير، ففي الحقيقة، يمكننا استخدام هواتفنا بطرائق أفضل لأطفالنا وعائلاتنا وعملنا وأنفسنا، كما أنَّه ليس من الصحيح أن نقول إنَّنا مدمنون على الهواتف الذكية، فهي ليست مواد مخدِّرة.

أحد الأشياء التي أدهشتني في كتابك هو أنَّ العديد من الأشخاص الذين قابلتهم تحدثوا عن فوائد التعامل مع النزاعات أو المشكلات العاطفية الصعبة عبر الإنترنت، وقالوا إنَّهم يستطيعون توخِّي الحذر في ردودهم والتقليل من حدوث التوترات الشخصية، ويبدو هذا جيداً، فما هي المشكلة في هذه الفكرة؟

لقد كانت مفاجأة كبيرة عندما أجريت بحثاً عن كتابي لمعرفة عدد الأشخاص الذين يريدون التخلص من النزاعات أو التعامل مع المشكلات العاطفية الصعبة سواء مع شركائهم أم أطفالهم من خلال القيام بذلك عبر الإنترنت.

لنأخذ الطفل كمثال: إذا فعلت ذلك مع طفلك، وإذا تعاملت معه فقط بهذه الطريقة المحدودة، فأنت تعبث في أسوأ مخاوفه، وتجعله يشعر بأنَّ حقيقته، وغضبه، ومشاعره أمور لا يمكنك التعامل معها، وهذا بالضبط ما لا ينبغي أن يفعله الآباء مع أبنائهم؛ لأنَّهم هكذا يدركون أنَّه لا يمكنك تقبُّل وتقدير مشاعرهم.

يحتاج الناس إلى مشاركة عواطفهم، ولكنَّهم يتجنَّبون ذلك خشية الدخول في نزاعات، لكنَّ الأشخاص الذين يتَّبعون هذه الطريقة مع أطفالهم، يدفعونهم للاعتقاد بأنَّ مشاعرهم غير هامَّة، ومن ثمَّ يبحث الأطفال عن طرائق أخرى تساعدهم على التعبير عمَّا يشعرون به، مثل روبوتات التحدُّث أو التحدُّث إلى المساعد الافتراضي سيري (Siri)، وذلك لأنَّه بطريقة ما سيكون مكاناً آمناً للتعبير عن مشاعرهم.

إقرأ أيضاً: 6 نصائح نحو علاقات اجتماعية أفضل

يبدو أنَّ بعض الدراسات تُظهِر أنَّ زيادة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي تزيد في الواقع من التفاعل الاجتماعي الواقعي، أتساءل كيف ينسجم هذا مع أطروحتك؟

إذا كنت شخصاً اجتماعياً أو نشطاً اجتماعياً، سيصبح استخدامك لوسائل التواصل الاجتماعي تفعيلاً لوجودك على منصات التواصل الاجتماعي، وأعتقد أنَّ هذا رائع، كما أنَّ كتابي ليس ضد التكنولوجيا؛ بل هو لتأييد المحادثة والتحدُّث عن أهميتها؛ لذا إذا وجدت أنَّ استخدامك لوسائل التواصل الاجتماعي يزيد من عدد المحادثات التي تجريها وجهاً لوجه، فأنا أؤيد ذلك بنسبة 100%.

في الواقع، الشخص الذي قد تساعده وسائل التواصل الاجتماعي هو الذي يستخدمها لاتِّخاذ خطوات نحو مقابلة الأشخاص لإجراء محادثات وجهاً لوجه؛ لذا إذا كنت من هذا النوع، فأنا أؤيدك تماماً، ولكنَّني أكثر قلقاً بشأن الأشخاص الذين تصبح وسائل التواصل الاجتماعي بالنسبة إليهم بديلاً عن الحياة الواقعية، والذين ينشرون منشورات ما على "فيسبوك" (Facebook) ويترقبُّون عدد الإعجابات والتعليقات على منشوراتهم وصورهم، والتي تتحدِّد قيمتهم الذاتية، وتحوِّل تركيزهم إلى ما هو مقبول ومطلوب ومرغوب على وسائل التواصل الاجتماعي.

وأقلق أيضاً بشأن المواقف الاجتماعية التي تُفسَد بسبب استخدام الهواتف المحمولة؛ فنرى الناس في التجمُّعات ينظرون في هواتفهم ولا يهتمون أو ينتبهون إلى أي حديث جاد أو هام؛ ممَّا يؤدي إلى إجراء محادثات تافهة، دون الشعور بالارتباط ببعضنا بعضاً.

تكتبين أيضاً عن كيفية تأثير المحادثة في مكان العمل، ولكن ألا تعتقدين أنَّ المحادثات مجرد تشتيت للانتباه لإنجاز العمل؟ لماذا تدعمين حدوث ذلك؟

في مكان العمل، يجب إتاحة الفرصة لإجراء المحادثات؛ وذلك لأنَّها تحسِّن النتيجة النهائية، كما تُظهِر جميع الدراسات أنَّه عندما يُسمح للأشخاص بالتحدث مع بعضهم بعضاً، يتحسَّن أداؤهم، ويكونون أكثر تعاوناً وإبداعاً، وينجزون المزيد من الأعمال؛ لذا من الهامِّ للغاية أن تهتم الشركات بهذا الأمر، ولكن إذا لم يشجِّع المدير الموظفين على الحدِّ من متابعة بريدهم الإلكتروني لإجراء محادثة، فلن يُنجَز أي شيء.

لقد ذهبتُ من قبل إلى مكان عمل يصفُّ طاولات في أماكن مناسبة ومصمَّمة لتتيح للموظفين إجراء المحادثات، ومع ذلك، شعر الناس أنَّ أفضل طريقة لإظهار التفاني للشركة هي الرد على بريدهم الإلكتروني على الفور، ولكن لا يمكنك إجراء محادثة إذا كان عليك أن تتفحَّص بريدك الإلكتروني باستمرار.

بعض الأشخاص الذين قابلتهم كانوا خائفين من الابتعاد عن هواتفهم؛ لذا يمكن للناس إحضار هواتفهم حتى على طاولة الإفطار وعدم التحدُّث إلى شركائهم وأطفالهم.

إقرأ أيضاً: كيف تتغلب على التشتت الذهني الذي تسببه وسائل التواصل الاجتماعي؟

إذا كانت التكنولوجيا منتشرة في كل مكان، ولكنَّها تتسبَّب في إشكاليات عدة، فما هي النصائح التي تقدمينها للتمكُّن من إدارتها واستخدامها في الحدِّ المعقول؟

في الواقع، لم يعد من الممكن الاستغناء عن التكنولوجيا؛ بل علينا العيش في انسجام أكبر معها، ولكن يجب تجهيز مساحات معيَّنة - مثل المطبخ وغرفة الطعام والسيارة - لتكون خالية من الأجهزة تماماً ومخصَّصة لإجراء المحادثات.

عندما تتناول الغداء مع صديق أو زميل أو أحد أفراد الأسرة، لا تضع الهاتف بينكما على المنضدة؛ بل اجعل وجبات الطعام وقتاً للتحدُّث والإصغاء؛ وذلك لأنَّنا عندما نقطع المحادثة لنتفقَّد هواتفنا، نفقد نوع المحادثات التي تُشعِرنا بالألفة والتعاطف؛ لذا يمكنك اتِّباع "قاعدة الدقائق السبع"؛ أي الانتظار لسبع دقائق لمعرفة ما إذا كانت المحادثة ستكون ممتعة أم لا، وسوف يساعدك اتِّباع هذه القاعدة على عدم استخدام هاتفك الجوال، على الأقل في السبع دقائق الأولى من المحادثة.

وأخيراً، استمتع بتلك اللحظات الإنسانية، واعلم أنَّ الحياة ليست خبراً على مواقع التواصل الاجتماعي، وركِّز على المحادثات لتشعر بالتعاطف، والترابط، والإبداع.

المصدر




مقالات مرتبطة