بين الحج وعيد الأضحى رحلة ارتقاء وسمو روحي

قال الله تعالى: ((وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)) (آل عمران:97).

فرض الله تعالى على عباده الحج إلى بيته العتيق في العمر مرة واحدة، وجعله أحد أركان الإسلام الخمسة. فالحج من أوّله إلى آخره، وفي كل خطوة من خطواته، حافل بكثير من المناسك والمواقف التي تشعر الإنسان بعظمة الله وقدرته، وتتجلّى فيها الحِكَمُ والأسرار لمن كان له قلب أو ألقى السّمْعَ وهو شهيد، وفي كل واحدة من هذه المناسك تذكرة للمتذكّر، وعبرة للمعتبر. ثم يأتي عيد الأضحى في ختام موسم الحج إلى مكّة المكرّمة، وهو واحدٌ من أهمّ الشّعائر الدّينيّة في الإسلام.



فضل الحج:

ومن الحكم والفوائد الحسنة للحج أن له فضائل كثيرة: يكفّر الحج الذنوب الصغائر ويطهر النفس من شوائب المعاصي، وقال بعض العلماء كبعض الحنفية: والكبائر أيضاً، بدليل: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة». فلا يقتصر لصاحبه من الجزاء على تكفير بعض ذنوبه، بل لا بد أن يدخل الجنة، ولقوله صلّى الله عليه وسلم أيضاً: «من حج، فلم يرفُث، ولم يفسُق، رجع من ذنوبه كيومَ ولدته أمُّه» أي بغير ذنب. وقال عليه السلام: «الحجاج والعُمَّار وفد الله، إن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم» رواه عن أبي هريرة النسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهم. وقال أيضاً: «يُغْفَر للحاج، ولمن استغفر له الحاج» رواه البزار والطبراني في الصغير، وابن خزيمة في صحيحه والحاكم.

والحج يطهر النفس، ويعيدها إلى الصفاء والإخلاص، مما يؤدي إلى تجديد الحياة، ورفع معنويات الإنسان، وتقوية الأمل وحسن الظن بالله تعالى.

شعائر الحج:

للحج عدّة أركان يجب أداؤها، وعددها أربعة وهي:

1- الإحرام:

ويتم ركن الإحرام بالنيّة لدخول نسك الحج، لقول الرسول صلى الله عليه وسلّم: ((إنّما الأعمال بالنّيّات وإنّما لكلّ امرئٍ ما نوى))، وللإحرام ثلاث واجبات، وهي:

  1. الإحرام من الميقات: وهو يتمثل بالمكان الذي حدده الشّارع للإحرام، بحيث لا يجوز تعديه دون إحرام لمن كان يريد الحج.
  2. التجرد من المخيط: وهناك ملابس محددة للإحرام، وملابس الإحرام للرجال عبارة عن إزارين غير مخيطين، يلف أحدهما على وسطه ليغطي عورته، والثاني يضعه على كتفيه أو أحدهما، ويُمنع الرجل من تغطية الرأس أو ارتداء اللباس المخيط طول فترة الإحرام ولا يرتدي الخف، وهناك محظورات أثناء أداء الحج، كالجماع بين الرجل وزوجته. أما ملابس الإحرام للنساء فهي عبارة عن لباس كامل غير مُلفت للأنظار، ولا يجوز أن تتنقب المرأة، ولا تلبس القفازات.
  3. التلبية: وهي قول: ((لبّيك اللّهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إنّ الحمد والنّعمة لك والملك لا شريك لك))، وتبدأ التلبية بعد الإحرام من الميقات. وفي معنى التلبية معانٍ كثيرة: معنى لبيك إجابة بعد إجابة، ولزوماً لطاعتك، فهي من "لبَّى"، بمعنى أجاب، وقيل معناها اتجاهي وقصدي إليك، ويُستحبّ الإكثار من التلبية من حين الإحرام في حال الركوب والمشي والنزول، وعلى كل حال، ويُستحب رفع الصوت بالتلبية، وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرفعون أصواتهم حتى تُبَحَّ أصواتهم.

وفي الإحرام تظهر المساواة بين جميع المسلمين، ومظهر الحجاج في لباس الإحرام يمثل البعث في الحياة الآخرة، ويكشف عن أن الدنيا زائلة، وهو في حقيقته تجرّد من شهوات النفس والهوى، وحبسها عن كل ما سوى الله.

إقرأ أيضاً: 8 نصائح قبل السفر إلى الحج

2- الوقوف بعرفة:

الركن الثاني من أركان الحج هي الوقوف بعرفة، ويعتبر جوهر فريضة الحج، ويؤدّى هذا الركن في عرفة في منطقة جبل عرفات، ووقته من ظهر يوم التاسع من ذي الحجة إلى فجر يوم العاشر منه، ويقع جبل عرفة في الاتجاه الشرقي من مدينة مكة المكرمة، حيث يبعد عنها عشرين كيلومتراً، ومن فاته الوقوف بعرفة فاته الحج.

ويتذكر الحاج بالوقوف بعرفة يوم القيامة واجتماع الأمم والعرض الأكبر على الله تعالى، وهو موقف يُذَكّر بالموت الذي ينتقل به المرء إلى ربه بكفن شبيه بلباس الإحرام، كما أن فيه تجرد الإنسان في ذلك الوقت من ملاذ الدنيا، وشهوات النفس، وأن ذلك يدفع إلى الإقبال على الله تعالى، والاجتهاد في الأعمال الصالحة.

ومع غروب شمس يوم عرفة تبدأ جموع الحجيج نفرتهم إلى مزدلفة ويصلون بها المغرب والعشاء، ويقفون بها حتى فجر غد العاشر من شهر ذي الحجة لأن المبيت بمزدلفة واجب، حيث بات رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، وصلى بها الفجر.

وفي مزدلفة يجمع الحجيج الحصى لرمي الجمرات بمنى ورمي الجمار من واجبات الحج، ويبدأ من بعد طلوعِ شمس يوم النَّحر بالنّسبة لجمرة العقبة، ومن بعد زوال الشمس إلى آخر النهار بالنسبة للجمرات الثلاث في أيام التشريق الثلاثة، الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجّة لمن تأخَّرَ. ورمي الجمار من ذكر الله، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما جُعل الطواف بالبيت، وبالصفا والمروة، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله) رواه أبوداود وغيره.

وهو رمز للاقتداء بسيدنا إبراهيم عليه السلام، ومحاربة الشيطان ووسوسته وتضليله. لما أمره الله بذبح ولده وسعى لتنفيذ ذلك اعترضه الشيطان ووسوس إليه بألّا يذبح ولده فرماه بسبع حصيات، ثم انطلق فاعترضه مرَّة أخرى فرماه بسبع، ثم انطلق فاعترضه مرّة ثالثة فرماه وأضجع ولده على جبينهِ وأجرى السِّكِّين على عنقِه فلم تقطع، وناداه الله بقوله: ((وناديناهُ أنْ يا إبراهيمُ * قد صدَّقتَ الرُّؤيا إنّا كذلكَ نجزي المُحسنين)) [٩]، أي امتثلتَ لما أمرك الله به وعصيت الشيطان.

إقرأ أيضاً: أخطاء يقع فيها الحجاج في يوم عرفة

3- طواف الإفاضة:

وهو الركن الثالث من أركان الحج، ويُؤدّى بالطواف في بيت الله الحرام سبعة أشواط، بعد الوقوف بعرفة والمزدلفة، وتكون بداية طواف الإفاضة بعد النزول من عرفة والانتهاء من المزدلفة، ولا توجد نهاية له فيمكن الانتهاء من الطواف في أي وقت. ومن شروط الطواف:

  • النية قبل البدء به.
  • والطهارة من الحدث.
  • وستر العورة.
  • والمتابعة بين الأشواط.
  • وعدم الفصل بينها دون حاجة.

وليس المقصود هنا طواف الجسم بالبيت فحسب، بل المقصود هو طواف القلب بذكر رب البيت، حتى لا يبتدئ الذكر إلا منه، ولا يختم إلا به.

4- السعي بين الصفا والمروة:

وهو الركن الرابع من أركان الحج، ويُؤدّّى بعد الانتهاء من طواف الإفاضة، والصفا والمروة هما جبلان يقعان في مكة المكرمة متصلين بالمسجد الحرام. المسافة الفاصلة ما بين الجبلين يُطلق عليها اسم "المسّعى"، ويكون السعي في المشي بينهما سبع مرات، فيبدأ السعي من الصفا وينتهي بالمروة في كل شوط.

ولقد ورد في القرآن الكريم اسم الجبلين والسعي بين الصفا والمروة، قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا والْمَرْ‌وَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَیتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَیهِ أَن یطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَیرً‌ا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِیمٌ﴾.

وتعتبر اقتداءً بالسيدة هاجر زوجة النبي إبراهيم، بعد أن تركها زوجها في صحراء قفرة لا زرع فيها تنفيذاً لأمر الله سبحانه وتعالى، وبذلك بقيت هاجر مع ابنها إسماعيل في صحراء قفرة لا زرع فيها ولا ماء ولا بشر. وبعد وقت قصير بدأ العطش يأخذ مأخذه من ابنها إسماعيل الذي صار يطلب الماء بإلحاح. في حيرتها بدأت هاجر تسعى بين جبلي الصفا والمروة بكل ما أوتيت من طاقة لعلها تجد ماء يروي عطش رضيعها. وبعد أن فعلت ذلك سبع مرات وبلت جهدها وإذا بها تجد الماء قد نبع عند رضيعها لتنفذ المشيئة الإلهية بإغاثتهما بعد أن خارت قواها، وهذا النبع ليس إلا بئر زمزم. وقد بقيت هذه الشعيرة وأصبحت جزءاً من أعمال الحج وسُنّةّ قائمةً إلى يوم القيامة يتعبد بها الناس ربهم، ويأخذون منها وجوب السعي وراء الرزق والحث على العمل والبعد عن الكسل.

إقرأ أيضاً: دعاء الوقوف على الصفا والمروة

عيد الأضحى

في اليوم العاشر من ذي الحجة في كل عام، يحتفل المسلمون حول العالم بعيد الأضحى، ويمثل عيد الأضحى واحداً من أهم الشعائر الدينية في الإسلام. يأتي عيد الأضحى إحياءً لذكرى نبي الله إبراهيم (عليه السلام) الذي أمره الله بالتضحية بابنه إسماعيل (عليه السلام)، فأطاع إبراهيم أمر الله مُظْهِراً بذلك طاعة ثابتة لله، فأنزل الله تعالى كبشاً من السماء فداء لسيدنا إسماعيل عليه السلام، ومن هنا أصبح المسلمون يضحّون بأحد الأنعام في هذا اليوم تقرباً إلى الله تعالى. وتُوزّع الأضحية على الأقارب، والفقراء، والبيت، وهو إظهار لنعمة الله، بتوسعته على المسلمين بأن يوسعوا على أنفسهم وعلى الفقراء والمساكين في أيام العيد، وهناك العديد من الأسماء لعيد الاضحى، ومنها: يوم النحر، والعيد الكبير، وعيد القربان.

يسنّ التكبير ليوم عيد الأضحى منذ اليوم الأول من ذي الحجة، قال تعالى: (ويذكروا اسم الله في أيام معلومات) [الحج:28]، وهذه الأيّام المعلومات هي الأيام العشر الأولى من ذي الحجة، وقد ذُكِر عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما، أنّهما كانا ينزلان إلى السوق خلال أيام ذي الحجة وهما يكبّران فيكبّر الناس معهما، وهذا دليل على سنة إظهار التكبير في السوق وفي المساجد، وصفة التكبير أن يقول المسلم: "الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد".

وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام اليوم الأول من العيد وذلك لإقامة شعائر الله في هذا اليوم والشّعور بفرحة العيد. وتتسم أجواء عيد الأضحى بالفرح، والعطف على الفقير، وتقديم الحلوى، وشراء ملابس العيد، وزيارة الأقارب واجتماعهم وتقوية صلة الأرحام، والعيد يبعث على الفرحة ويزرع بسمة أمل في قلوبنا، وهو فرصة لكي نسامح بعضنا البعض ونعيش جميعاً أجواء المحبة في يوم العيد.

إقرأ أيضاً: ماهي تجهيزات عيد الأضحى وكيف نستعد له؟

في الحج نتعبد ونبذل جهداً كبيراً، وننفق مالاً وفيراً، ولكننا نتمتَّع باستشعارنا لكرامة الاصطفاء ضيوفاً على الرحمن. وفي العيد نسعد ونفرح، ونرضي الرب الجليل سبحانه، بشكر نعمته، وذبح الأضاحي، وتفقّد الأيتام والمحتاجين والفقراء. فهما إذاً عبادة وسعادة، بذل ومتعة، إنفاق وسرور.

"الشمس تنحدر إلى المغيب على جبل عرفات. الجبل مزروع بالخيام.. مليون وخمسمائة ألف حاج يحطون عليه كالحمام في ثياب الإحرام البيض.. لا تعرف الواحد من الآخر.. لا تعرف من الفقير ومن الغني.. ولا تعرف من الأجنبي ومن العربي؟

اختفت الجنسيات.. واختفت الأزياء المميزة واختفت اللغات.. الكل يلهج بلسان واحد.. حتى الجاوي والصومالي والإندونيسي والزنجي والأذربيجاني الكل يتكلم العربية.. بعضهم ينطقها مكسّرة وبعضهم ينطقها بلكنة أجنبية.. وبعضهم يمد بعض الحروف ويأكل بعض الحروف ولكنك تستطيع أن تفهم من الجميع وتستطيع أن تسمع أنهم يهتفون.. لبيك اللهم لبيك".

مصطفى محمود من كتابه "الإسلام ما هو".




مقالات مرتبطة