القيم التربوية في الجمال والفن

يرتاح الإنسان للجمال ويشعر بالبهجة لدى اتصاله بما هو جميل؛ لذا كان الجمال وما يزال موضع اهتمامه وتقديره، ويظهر ذلك من خلال التراث الفني للبشرية؛ وذلك منذ عصور موغلة في القدم وحتى العصر الذي نعيش كما يظهر فيما قاله مفكرون مرموقون عن الجمال والفن وصلته بالإنسان، فقد قال "سقراط": "اللهجة الحلوة والرشاقة والانتظام إنَّما تأتي من عقل نبيل مرتب منظم"، وقال "روسو": "لو استطاع أحدنا يوماً أن ينتزع من قلوبنا حب الجمال لما بقي للحياة في أعيننا أي سحر". وفي مقالنا هذا سنتعرَّف إلى القيم التربوية في الجمال والفن.



قيمة الجمال والفن:

لا تقتصر قيمة الجمال والفن على انعكاساتها الهامة في الحياة الفردية؛ بل تمتد إلى أبعد من ذلك لتُعبِّر عن حياة المجتمع ومشكلاته وتنبه المواطنين إليها، ولتشرك أفراد المجتمع الواحد أو المجتمعات المختلفة في الاتصال الثقافي والحضاري وزيادة التقارب فيما بينهم.

وهذه الصلة بين الإنسان والجمال دفعت مربين عديدين إلى الاهتمام بالتربية الجمالية أو الفنية، فدعوا إلى القيام بها في البيت والمدرسة والمجتمع.

وتتضمن الخبرة الجمالية أو الفنية إدراكاً وتذوقاً للجمال ومعانيه، وتقديراً لصفاته وابتكاراً له، ولهذا المضمون أهميته في اكتساب عدد من القيم التربوية وتمثُّلها ونموها في شخصية الفرد.

قيمة الإدراك الحسي للجمال والفن:

يُعنَى الفن بالحواس أكثر من عنايته بالأفكار الخالصة، كما تفعل الرياضيات مثلاً، فموضوع الفن شيء مادي يواجه الحواس أولاً، والفن لا يُعنى بروحٍ ليس لها جسمٌ ماديٌ؛ وإنَّما بأشياء محددة لها وجود مادي، وزيادة على ذلك، فالحواس - بعضها أو كلها - تدعى للعمل، فالموسيقا متضمنة في تنظيم معيَّن للأصوات وتحملها تذبذبات المواد المادية، ويقوم الرسم على الرؤية واستعمال أصباغٍ متنوعةٍ، والنحت والعمارة بصريتان أيضاً، ولهما أساسهما في عدد من المواد الصلبة كالمعدن والحجارة، ويستعمل الرقص الجسم الإنساني كأساسه المادي، ويستعمل الحواس الحركية والجمالية وكذلك البصر.

وبذلك تتضمن الخبرة الجمالية المدى الكامل للإدراك الحسي والمجموعة الكلية للمواد المادية التي تثير الحواس؛ ولهذا التنوع تتيح الفنون صفات مختلفة من الخبرة، فأنواع كثيرة من الأشياء المادية يمكن أن تكون مادة الموضوع الجمالي، وكل عضو من أعضاء الإدراك الحسي يمكن أن يُدعى للعمل في عملية التقدير الجمالي؛ وبذلك لا تقتصر الخبرة الجمالية على ميدان ضيق لطريقة من طرائق الإدراك؛ وإنَّما تقوم على جميع مكونات الحساسية الإنسانية.

القيمة الفردية والقيمة الذاتية للجمال والفن:

إنَّ موضوع الخبرة الجمالية هو موضوع فردي خاص على الدوام وليس عاماً، وفي هذه الناحية، يختلف الفن بالضرورة عن العلم الذي يبدأ بالملاحظة للأشياء الفردية، ولكنَّه يتحرك على الدوام إلى تشكيل التصنيفات الوصفية أو المبادئ أو القوانين التي يُبتَلع فيها الخاص في سبيل العام، فالعلم يقوم على المفاهيم، أما الفن فيقوم على المدركات، ويُعنى العلم بأنواع الأشياء، أما الفن فيُعنى بالأشياء الخاصة في فرديتها وتفرُّدها، فالموضوع الجمالي يقف وحده ولا يدعو إلى المقارنة مع غيره من الموضوعات الجمالية الأخرى، ومبدأ الفردية هو إسهام عظيم من جانب الفن في التربية.

تتميز الخبرة الجمالية أيضاً بأنَّ لها قيمة ذاتية، فنحن نستمتع بالموضوع الجمالي في ذاته وليس لأنَّه يؤدي قيمةً أخرى، وتناول الطعام - من أجل الحصول على القدرة على القيام بالأعمال اليومية أو لمجرد إشباع الجوع - لا يُعَدُّ نشاطاً جمالياً، ومن ناحية أخرى، فإنَّ الاستمتاع المباشر بالجمال واللمس والشم وتذوق الطعام الجيد له طبيعة جمالية، وهذا ليس معناه أنَّ الموضوعات الجمالية ليس لها فائدة، فقد تكون لها قيمة وسائلية، ولكنَّ معيار الحكم على قيمتها الجمالية لا يكون في علاقتها بأشياء خارجة عنها؛ وإنَّما في طبيعتها وذاتيتها.

شاهد بالفديو: 6 أسئلة هامّة لمعرفة ما تريد أن تنجزه بحياتك

قيمة الاستمرار عبر الزمن للجمال والفن:

ميزة أخرى للفن تتضح أهميتها عندما نقارنها بالتاريخ، فالتاريخ كالفن يُعنى بالأشياء الخاصة لا بتصنيفات الأشياء، ولكنَّ الأشياء الخاصة بالتاريخ تختلف عن الأشياء الخاصة بالفن، فالفن يُعنى بأشكال مادية فردية معيَّنة، في حين يتناول التاريخ وتاريخ الفن حوادث معينة، فالحادثة تقع في زمن معيَّن، في حين يكون الوضع الزمني لا قيمة له بالنسبة إلى موضوع الفن من الناحية الجمالية، فتمثالٌ من اليونانيين القدماء، ورسمٌ من عصر النهضة، وبناءٌ معاصرٌ، كلها أشياء تتفرد بشكلها في جميع الأزمنة، وبينما تحتل تواريخها وظروفها وأصولها أهمية بالنسبة إلى مؤرخ الفن، فهذه الحقائق لا علاقة لها بالناحية الجمالية، فالفن بطبيعته لا زمن له.

قيمة الابتكار في الجمال والفن:

إنَّ الاستمتاع التأملي بالجمال يجب أن يُفهم على أنَّه شيءٌ سلبيٌ؛ إذ إنَّ الخبرة الجمالية على العكس من ذلك، فهي نشاطٌ خلاقٌ، فالفن هو القيام بصنع شيءٍ، ويتَّضح هذا في حالة الفنان الذي يجمع المواد معاً بطريقة جمالية تحقق الأشكال، وهذا العمل الخلاق دليلٌ على القوة الابتكارية للشخصية الإنسانية.

صحيحٌ أيضاً أنَّ التقدير الجمالي عمل خلاق، إلَّا أنَّ الذي يستجيب إلى موضوع جمالي يجب أن يمر بشيء يشبه خبرة الفنان الذي يصنع الأشياء الجميلة، والذي يقدر الموضوع الجمالي، قد يجد فيه معنى مختلفاً تماماً عما وجده صانعه، وفي هذه الخاصية قيمة تربوية هامة وهي توجيه التربية الجمالية نحو التشجيع على الإبداع والابتكار الفني.

قيمة الشكل والشعور والعاطفة في الجمال والفن:

يُعَدُّ الشعور والعاطفة من مكونات المعنى الجمالي، فالموضوع الذي يثير أو يُهدِّئ أو يلهم مشاعر المستمع أو المشاهد لا يُعَدُّ موضوعاً جمالياً، فالفن المؤثر يجب أن يُحدِث شحنة في الحياة؛ أي يثير دفئاً في الاستجابة وتأكيداً لقيمة الشيء الذي نستمتع به، والجزاء يجب أن يكون إرضاءً مباشراً أو استمتاعاً.

إنَّ الشعور لا يحدد المعنى الجمالي وحده، فالخبرة الجمالية اندفاع فوضوي من العاطفة، أو تدفق لطاقة الحياة مضطرب لا شكل له، فالمعنى في الفن يتضمن الضوء كما يتضمن الشكل والشعور، والإحساس بالجمال حكم على النوع، والنوع يتضمن أشكالاً محدودة مع تمييزات واضحة بينها، والمعنى الجمالي هو الشكل الذي نشعر به للشيء الجميل.

المنطق في الفنون:

نجد الشكل الجمالي في البناء المنطقي، ولكنَّ المنطق ليس هو نفسه بالضرورة ما يوجد في البحث العلمي؛ إذ إنَّ الشكل الموسيقي مثلاً، قد تكون له مقدمة وموضوع وتفصيلٌ للموضوع ونهاية، فالمشكلات الانسجامية قد تظهر وتتطلب حلَّاً انسجامياً.

مثال ذلك أيضاً أنَّ المأساة والملهاة لهما أنواع متميزة في البناء المسرحي، وأيَّة مسرحية لها فروض معينة ومناقشات ونهاية، ولكن في الموسيقا وفي التمثيل وفي كل فنٍ آخرٍ تختلف طريقة التفكير التي تُستَعمَل في عرض النمط الكامل اختلافاً تاماً عما يحدث في مناقشة الحقائق اللفظية.

اتساع المعاني في الجمال والفن:

يفتح الفن ميادين أوسع من المعنى؛ أي إمكانات أوسع من الشكل أو النمط؛ وهذا يُتاح عن طريق المنطق العادي أو البحث اللفظي، واتِّباع المعاني العلمية اتباعاً مطلقاً يُضيقُ من مدى الخبرة ذات المغزى، فليس من الضروري أن نختار بين عالم من الحقائق العلمية من ناحية، وعالم من الشعور غير المحدد من ناحية أخرى، فالاعتراف المناسب بمنطق الفن يتيح عالماً جديداً تماماً من المعنى الجمالي، ومن وظائف التربية الفنية أن تُوسِّع مدى المعاني بأن تُقدِّم للمتعلِّم منطقاً مُتَّسِعاً اتساعاً أكبر وأقل جموداً، ويكون متضمناً في بناء الخبرة الجمالية.

إقرأ أيضاً: المعتقدات: تعريفها، ونشأتها، وأنواعها، وكيفية التحرر من السلبية منها

الفن والأخلاق:

تختلف المواقف حول علاقة الفن بالأخلاق، ويمكن تمييز ثلاثة مواقف فيما يتعلق بهذا الموضوع:

  • الاستقلال: يجب أن يكون الفن مستقلاً عن الأخلاق؛ إذ إنَّ التوتر الأخلاقي يعطل ابتكاريةَ الفنان، ويكتشف المغزى الجمالي في شكل الموضوع الفني لا بالرجوع إلى مبدأ خارجي كالاتساق مع مبدأ أخلاقي، وزيادة على ذلك، فاتِّجاه الفرد الذي يندمج في تأمل الشيء الجميل يختلف اختلافاً كبيراً عن الاهتمام الأخلاقي بالواجب والتصميم، فالجمالي يتعلق بالإدراك، والأخلاقي يتعلق بالعمل.
  • التطابق: إنَّ أولئك الذين يعتقدون بالتطابق بين الجمال والخير، يؤمنون بأنَّ ما هو حق، هو في الواقع مرض أيضاً من الناحية الجمالية، وأنَّ الاستمتاعات الشريرة تؤدي في النهاية إلى الوهم والخداع، وحسب هذا الرأي توجد مستويات محدودة للجمال تقيس ما يجب أن يستمتع الإنسان به من الناحية الجمالية، وما سيعمل في الوقت نفسه على الارتفاع بالمستوى الأخلاقي؛ ولذلك تُعَدُّ الفنون في التربية أدوات للتحسن الأخلاقي.
  • العلاقة المتبادلة: الوضع الوسط يعترف بالاختلافات في النوع بين الخبرة الجمالية والأخلاقية دون إنكار لعلاقة أخلاقية معينة مع الجمال والعكس صحيحٌ، والفن يؤثر في السلوك؛ لذلك يمكن الحكم عليه أخلاقياً، ولكن يوجد أيضاً حكم أخلاقي يتضمن مغزىً إدراكياً مباشراً، وهكذا تكون التربية الفنية؛ إذ تنمي إحساساتٍ جمالية معينة، وتعمل في الوقت نفسه على الانسجام بينها وبين أفضل المثل العليا للشخصية والسلوك.

شاهد بالفديو: كيف أحمي نفسي من الانحراف الأخلاقي؟

في الختام:

لا شك أنَّ الخبرة الجمالية تكشف عن نوعٍ هامٍ من الحقيقة؛ وهو أنَّ موضوعات من الإدراك الحسي المستقرة تدعو الأفراد الذين تشكلوا بطرائق مناسبةٍ إلى أن يستجيبوا لها إيجابياً، وإدراك الجمال بهذه الإيجابية يؤدي إلى معرفة حقيقة وطبيعة الأشياء، وهذه المعرفة تختلف في تعريفها عن المعرفة في الميادين الأخرى كالعلوم واللغة والتاريخ؛ إذ يوجد تنوعٌ أكثر في الأشكال المتميزة، وفي حجم مجتمعات التواصل المناسبة، والصفات الشخصية الضرورية لعضويتها.

المصدر: كتاب التربية العامة للدكتور أنطون حبيب رحمة 1982.




مقالات مرتبطة