الفروقات الجماعية

يكثر الحديث عن الفروقات الفردية وعن الاختلافات في السمات والقدرات والخصائص بين الأفراد، لكن هل فكرت مرَّةً بالفروقات الجماعية، وحقيقة اختلاف المجموعات عن بعضها؛ كأن تقول إنَّ أفراد هذه المجموعة جميعاً يتفوقون على أفراد مجموعة أخرى، أو إنَّ هذا الفرد أذكى فقط بسبب انتمائه لجنس معين.



إلى أي مدى يمكن عَدُّ هذه الاعتقادات صحيحة، وهل توجد دراسات تثبت حقيقة وجود هذه الفروقات؟ هذا ما سنتطرق إليه في مقالنا اليوم عن الفروقات الجماعية، ففي الواقع إنَّ الفروقات الأكثر وضوحاً هي تلك الموجودة بين الرجال والنساء؛ بسبب الطبيعة الجسمانية المختلفة، وأيضاً بسبب اختلاف طرائق التنشئة الاجتماعية التي يخضع لها كل من الجنسين، ولكن توجد كذلك بعض الفروقات الجماعية الهامة التي شغلت اهتمام الباحثين كالعمر والعرق.

في المقال الآتي سنتناول الفروقات الموجودة بين تلك المجموعات الثلاث، وما هي أسباب تلك الفروقات.

1. الفروقات الجنسية:

الفروق الجنسية

كما ذكرنا منذ قليل فإنَّ أكثر الفروقات الجماعية وضوحاً هي الفروقات الجماعية الموجودة بين الجنسين، تقول الباحثة النفسية "تايلر" في كتابها "سيكولوجية الفروق الإنسانية": "لا يوجد أمتع من هذا الموضوع بالنسبة إلى علم النفس" وطبعاً قصدت الفروقات الجنسية، ولم تجذب الفروقات الجماعية بين الرجال والنساء الباحثين فقط؛ بل يمكننا القول إنَّ تلك الفروقات بطريقة ما صارت حديث الجميع اليوم في سبيل تطويع تلك الفروقات لخدمة جنس على حساب جنس آخر، أو اتِّهام جنس باضطهاد جنس آخر.

حتى نكون على دراية بما نقوله عندما نعطي رأينا فيما يخص موضوعاً حساساً كهذا؛ سنتناول في حديثنا عن هذه الفروقات مجالات رئيسة ثلاث؛ وهي المجالات المعرفية، والعدوانية، والاتكالية.

اختلاف القدرات المعرفية بين الرجال والنساء:

لا توجد فروقات تُذكَر بين النساء والرجال من ناحية الذكاء، ودرجة حاصل الذكاء أو الذكاء العام بين المجموعتين من رجال ونساء هي واحدة تقريباً.

أمَّا بالنسبة إلى الفروقات الأخرى في المجالات المعرفية فقد أثبتت البحوث والدراسات أنَّه في السنوات المبكرة تسجل الإناث نتائج أفضل من ناحية القدرات اللفظية؛ فاستجابتهنَّ لأحاديث البالغين تكون أكثر من استجابة الذكور، كما أنَّهنَّ وسطياً يبدأن بالكلام قبل الذكور، ويستمر هذا التقدم في القدرات اللفظية حتى مرحلة الدراسة فيكُنَّ أفضل في القراءة وفي الامتحانات المتعلقة بالطلاقة اللفظية.

لقد أثبتت الدراسات الحديثة تراجع هذه الفروقات خلال السنوات الماضية، وربَّما يرجع السبب الرئيس في ذلك إلى تغيير نظرة المجتمع إلى أدوار كلٍّ من الذكور والإناث؛ فلم يعد أحد ينظر إلى القراءة مثلاً على أنَّها عمل أنثوي، وهذا ما يفتح العيون على نقطة هامة جداً، وهي أنَّ الفروقات بين الجنسين قد تكون ضئيلة أو غير موجودة من الأساس؛ لكنَّ نظرة المجتمع والأدوار النمطية وظروف التنشئة الاجتماعية لكل جنس، تؤدي دوراً كبيراً في تطوير القدرة عند جنس معين على حساب تطويرها عند الجنس الآخر.

بالنسبة إلى القدرات الرياضية فقد تحدثت أغلب الدراسات عن تفوق الذكور في هذا المجال، فيتمتع الذكور بقدرة تحليلية أكبر من الإناث.

عموماً فإنَّ الذكور وسطياً يتفوقون في الأمور الرياضية وفي العلاقات المكانية، في حين تتفوق الإناث بالطلاقة اللفظية والذاكرة الصمية، ولا بدَّ من الإشارة هنا إلى أنَّ هذه النتائج لا تعتمد فقط الدراسات والاختبارات النفسية؛ بل كذلك يُتابَع أداءُ كلٍّ من الجنسين في المدارس؛ فالذكور يتفوقون في الرياضيات والمواد التقنية، في حين تتفوق الإناث في الأدب والتاريخ واللغة، وهنا لا بدَّ من التركيز على أنَّ هذه الفروقات الجماعية تركز على المتوسطات؛ أي إنَّه من الطبيعي إيجاد فتيات يبرعن في الرياضيات وذكور متفوقين في اللغة.

إقرأ أيضاً: الاختصار للرجل والمُقدّمات للمرأة

العدوانية:

يوجد حقيقة كثيرٌ من الاختلافات بين الجنسين فيما يخصُّ الشخصية والسلوك الإنساني، والعدوانية تُعَدُّ إحدى أهم السلوكات التي تظهر عند الذكور أكثر من ظهورها عند الإناث، ويمكن ملاحظة هذه الفروقات بين الرجال والنساء من عمر الثالثة تقريباً؛ فتجد أنَّ الذكور أكثر ميلاً نحو الألعاب العنيفة، كما أنَّهم أكثر ميلاً نحو المشادات الجسدية واللفظية والقتال، حتى أنَّ الرجال في مرحلة البلوغ يرتكبون جرائم أكثر من النساء.

يقول "كونراد لورنير" عالم الأعراق البشرية إنَّ العدوان غريزة قتال طبيعية ومتوقعة، سواء عند الإنسان أم الحيوان، وهي موجَّهة نحو أعضاء من الفصيلة نفسها.

يُستَثار السلوكُ العدواني تبعاً لأسباب متعددة وهي أيضاً مختلفة بين الجنسين؛ فما يثير الرجال ويدفعهم إلى العدوان يختلف عمَّا يثير النساء؛ فالرجال أكثر عدوانية في مواقف مثل الرياضة التنافسية، وفي العمل، وغيرها من المواقف التي تتضمن التنافس مع شخص آخر، أمَّا النساء فيصبحن عدوانيات عندما يشعرن بالظلم أو عندما يعاملهنَّ أحدٌ بقسوة.

في كل مرة لا بدَّ أن نؤكد على أنَّ أيَّ نتائج وأيَّ دراسات قابلة للتغير في المستقبل.

الفروقات في المطاوعة والاتكالية بين الرجال والنساء:

على الرَّغم من أنَّ الشائع كون النساء أكثر طواعية من الرجال، لكنَّ الدراسات الحديثة قد أكدت عدم وجود اختلافات بين الجنسين، ولنكن أدق فإنَّ مسألة معرفة من هو الأكثر اتكالية الرجال أم النساء هي مسألة مفتوحة.

2. الفروقات العرقية:

الفروقات العرقية

العرق هو ثاني المجموعات التي اهتم علماء النفس بالبحث فيها، وقد تركزت أغلب البحوث ضمن هذه المجموعة على الفروقات في الذكاء بين السود والبيض، فقد أشارت التجارب إلى انخفاض ذكاء السود عن البيض بين 12 و15 درجة، ويرجع هذا الاختلاف إلى العديد من الأسباب غير المؤكد صحتها حتى الآن، ويمكن اختصارها فيما يأتي:

  1. يرى بعضهم أنَّ هذه الفروقات في حاصل الذكاء ليست إلا نتيجة طبيعية لسنوات الظلم والإجحاف والتمييز والعداء التي تعرَّض لها السود عبر التاريخ، إضافة إلى الأوضاع الاجتماعية السيئة التي عانوها، وقد حاول العديد من العلماء دراسة ذلك إحصائياً. تشير الدراسات إلى أنَّ مثل هذه النتائج تبقى على حالها حتى في حال تم التحكم بالظروف الاقتصادية والاجتماعية، ومن الدراسات الإحصائية دراسة ويلرمن 1979، التي أظهرت أنَّ نسبة السود الذين يملكون حاصل ذكاء دون 75 أكثر بكثير من نسبة البيض، مع العلم أنَّه تم التحكم بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية لهم، ومن جهة أخرى يوجد العديد من العلماء الذين لا يعتقدون بصحة هذه النتائج الإحصائية.
  • يعزي بعضهم السبب في فروقات الذكاء بين السود والبيض إلى الوراثة، ويدعم مؤيدو وجهة النظر هذه كلامهم من خلال الإشارة إلى عدم حدوث أي تغيرات في وضع السود؛ فما زال الفرق 15 نقطة لمصلحة البيض في حاصل الذكاء على الرَّغم من التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الكبيرة التي شهدها العالم خلال العشرين سنة الماضية.
  • يقول آخرون إنَّ الفروقات الظاهرة هي في حاصل الذكاء وليس في الذكاء نفسه، وحاصل الذكاء ليس مقياساً؛ وبهذا تصبح فروقات الذكاء هذه معدومة المعنى.

لا بدَّ من التأكيد على أهمية النتائج التي وُصِل إليها سواء تلك التفسيرات الوراثية أم غير الوراثية؛ فحتى لو كنت من أنصار التفسير الوراثي فبالتأكيد ستجد في دراسات التطور ودراسات الحالة الاقتصادية والحالة الاجتماعية ودراسات التحيز الثقافي ما يفيدك ويعطيك صورة أوضح.

الاختلافات موجودة بالفعل، وبصرف النظر عن الأسباب والتفسيرات؛ لذلك لا بدَّ من العمل على التقليل من هذه الفروقات قدر الإمكان من خلال تحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، فلو كان للعامل الوراثي دوراً في تحسين الأوضاع المعيشية والطبقية، سوف يساعد على تطوير الذكاء إلى أعلى حد تسمح به بيئتهم الوراثية.

إقرأ أيضاً: 4 طرق فعّالة لتنمية قدراتك العقلية

3. الفروقات العمرية:

المجموعة الأخيرة التي تظهر فيها الفروقات الجماعية هي المجموعة العمرية، تشير الدراسات إلى أنَّ الذكاء ينمو مع العمر وصولاً إلى أوائل مرحلة الرشد؛ فمثلاً لا يستطيع ابن السنة تنفيذ مهمة يقوم بها طفل في السنة الثالثة من عمره، وهنا يلح علينا التساؤل الآتي: "هل يستمر الذكاء بالنمو بعد الثامنة عشر؟".

لقد أجرى علماء النفس كثيراً من الدراسات في محاولة الوصول إلى إجابة قطعية، والحقيقة أنَّهم لم يتمكنوا من ذلك، وعلى الرَّغم من ذلك فتوجد بعض النتائج الهامة في هذا الصدد؛ فمثلاً الأفراد ضمن المجموعات العمرية الأكبر يظهرون انخفاضاً قليلاً في المهارات اللفظية، في حين يكون الانخفاض كبيراً في سرعة الاستجابة وفي المهارات العددية.

ليس الذكاء ما يتغير فقط مع العمر؛ فأيضاً الشخصية تتغير، وقد أثبتت كثير من الدراسات تغيُّرَ سلوكات الأفراد مع التقدم في العمر وحتى تغير معناها؛ فالسلوكات التي نراها عند أبناء العشرين تختلف جذرياً عن تلك التي تُميِّزُ أبناء الخمسين، ولكن لا بدَّ من التأكيد على أنَّ التغيرات التي تطرأ بعد الرشد أقل بكثير من التغيرات في مرحلة المراهقة، وأيضاً الاهتمامات أكثر مقاومة للتغير.

في الختام:

كل فرد يتميَّز بصفات وسمات خاصة تجعله متميزاً ومتفرداً عن غيره، لا مجال للشك في ذلك، ولكن في الوقت نفسه يشترك الأفراد معاً في كثير من الجوانب، وهذا ما يجعلنا نضع هؤلاء المتشابهين معاً في مجموعات واحدة ينتمون إليها؛ كالمجموعات العمرية والجنسية والعرقية، وكما رأينا خلال المقال السابق قد يحدث وجود هذه المجموعات بعض المشكلات في التفكير؛ كأن يُقال إنَّ هذه المجموعة متفوقة على الأخرى فقط لانتمائها إلى عرق معين أو جنس معين، وهذا ما سيوصلنا بطبيعة الحال إلى العنصرية والتعصب لمجموعة ما دون غيرها؛ لذلك لم يكن الهدف أبداً من دراسة الفروقات الجماعية إظهار تفوق مجموعة على أخرى؛ بل كان الهدف الأساسي التعرف إلى بعض الفروقات إن وُجِدَت ومعرفة أسبابها في محاولة لإزالة أيَّة آثار سيئة لتلك الفروقات في حال وُجِدَت بالفعل.




مقالات مرتبطة