الغفران: المبدأ الذي عليك تبنيه

يتوق معظم الناس في هذه الأيام إلى السعادة والفرح والحب على ما يبدو، لكن دون جدوى؛ فنحن نعيش في عالم تكثر فيه الخيارات والموارد والحريات والاعتماد الكبير على التكنولوجيا، ومع ذلك يبدو أنَّ معظمنا يعيش حياةً يسودها التوتر وتنقصها المتعة أكثرَ من أيِّ وقت مضى، ما يجعلك تتساءل عن سبب حدوث ذلك وعمَّا تفتقده.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن الكاتب توني روبينز (Tony Robbins)، ويشرح لنا فيه خلاصة تجربته مع الغفران.

الغفران هو الهدية التي تمنحها لنفسك لا للآخرين:

توجد بالطبع عدة طرائق للإجابة عن هذا التساؤل، لكن بعد أن عملت مع أكثر من 50 مليون شخص في 100 دولة حول العالم، أستطيع أن أخبرك أنَّ الناس لديهم أنماط مختلفة من الإدراك، وهذا يعني أنَّه بشتى الطرائق التي تنظر من خلالها إلى تجاربك مع الآخرين وتُصنِّفها، فإنَّ معظم من الأحداث التي تحصل في حياتنا تجعل الناس يشعرون بالإحباط والضيق.

مع ذلك، فقد قابلت بعض الأشخاص الرائعين على مر السنوات، والذين عاشوا حياةً ذاتَ هدفٍ يملؤها الرخاء؛ إنَّهم سعداء فعلاً ونادراً ما يكون سبب ذلك أنَّ حياتهم أسهل من حياة الآخرين.

الشيء اللافت هو أنَّه مهما كانت الحياة مباركةً بوجود الصحة والثروة والأسرة والأصدقاء المقربين وفرص التعلم والنمو وإمكانية رد الجميل، فإنَّ أكثر طريقة تُسيء للناس وتُدمر حياتهم كلياً في بعض الحالات هي التوقعات.

التوقعات والتوتر والألم:

إذا كنت تريد أن تعيش التوتر؛ فكلُّ ما عليك فعله هو أن تتوقع أنَّ الحياة وجميع الأشخاص الموجودين فيها يفكرون ويتصرفون ويتحدثون بالطريقة التي حددتها لهم مُسبقاً، فإذا تمسكت بتوقعاتك، فإنَّ ذلك سيضمنُ لك كثيراً من التوتر والألم.

يمتلك البشر قيماً ومعتقدات ومخاوف وعادات واحتياجات مختلفة، ولهذا السبب فإنَّ حتى أكثر الأشخاص الذين تعرفهم لطفاً وعطفاً، يمكن أن يتحولوا خلال لحظة إلى أشخاص لئيمين أو مُتبلِّدي المشاعر، أو على الأقل غير مدركين للأثر الذي يتركونه في غيرهم.

إذاً ماذا لو كانت الطريقة الوحيدة لتشعر بالسعادة هي أن يتصرف الجميع أو يتواصلوا في كلِّ لحظة بطرائق تُلبِّي توقعاتك المثالية؟ عندها من الأفضل أن تُخطط لحياةٍ تسودها خيبة الأمل والألم.

إنَّ الحل لشعوركَ المستمر بخيبة الأمل هو أن تثق بأنَّ الناس يبذلون قصارى جهدهم بما هو متاح لهم، فعندما تقابل شخصاً ما يفعل أمراً غيرَ واعٍ له، فمن المفيد أن تتذكر بأنَّ الأمر نادراً ما يتعلق بك؛ بل بمجرد أنَّ هذا الشخص يشعر بكثير من التوتر والضغط غالباً لدرجة أنَّ جلَّ ما يهمه يصبح الاستمرار والنجاة فحسب، إنَّ هذا أمر يحدث للجميع، وهو جزءٌ من طبيعتك البشرية، فلا تتوقع أن يكون الجميع مثاليين طوال الوقت.

أفضل صيغة لحياة رائعة:

استبدل توقعاتك بالتقدير؛ ففي اللحظة التي تفعل فيها ذلك يتغير عالمك كلُّه.

أنت تُدرك شعور عندما يتوقع الناس منك أن تمنحهم شيئاً ما، فهذا يسلبك لذة المفاجأة العفوية والسعادة الناتجة عن العطاء، وبالمقابل عندما تُقدِّر كلَّ ما تُقدمه لك الحياة أو الأشخاص، فأنت تختار الانفتاح وتجذب لك السعادة، ويتأجج كثير من الغضب والإحباط والحُنق والأذى والاكتئاب والحزن نتيجة التوقُّع بأن يكون الناس مُحبين وكرماء ولطفاء وعَطوفين ومُبادرين وحاضرين وداعمين ومُراعين وما إلى ذلك.

لقد وجدتُ أنَّ الناس يمتلكون هذه الصفات مجتمعةً في بعض الأحيان إذا شعروا بالأمان في حياتهم، أو إذا كنت محظوظاً بمعرفة أحد أولئك الأشخاص الذين يتمتعون بطبعٍ متفائل عادةً.

ربما تكون محظوظاً بما يكفي لتعيش هذه التجارب الإيجابية مع أصدقاء مقربين يحبونك، ولديهم معايير رفيعة للتصرف على هذا النحو باستمرار، لكن كلَّما زاد عدد الأشخاص الذين تتفاعل معهم، زادت فرصة تلقِّيك لردود فعل مختلفة، وإذا كانت سلامتك وعافيتك تستند إلى طريقة تصرُّف هؤلاء المعارف معك فستُعاني كثيراً.

إقرأ أيضاً: التزم بهذه القواعد الخمسة لتعيش حياتك بسعادة وإيجابيّة

قوة الغفران والإيمان:

بخلاف الامتنان الذي يُعدُّ الركيزة الأساسية لكليهما، فما من مشاعر بشرية لها تأثير كبير في نوعية حياتك مثل الغفرانِ والإيمان، فأنت ستُثقل قلبك دائماً بمشاعر الغضب والاستياء إذا كانت لديك توقعات مُنتظرة من أشخاص آخرين وظروف حياتية لا يمكنك السيطرة عليها.

الغفران في الحقيقة هو إدراك أنَّ الشخص الوحيد الذي تؤذيه عندما تكون مستاءً مهما كان ذلك مُبرراً هو نفسك، وإن كان كلُّ ما بداخلك يدفعك لإلقاء اللوم على شخص آخر، فكِّر في منح نفسك هديةَ الغفران لتوقعاتك.

قابلتُ الرئيس الراحل نيلسون مانديلا (Nelson Mandela) في أوائل التسعينيات، وتأثرت كثيراً في قدرته على أن يغفر للأشخاص الذين سلبوه ربع قرنٍ من حياته وسجنوه ظلماً، وسألته كيف "نجا" خلال تلك السنوات، فأخبرني بأنَّه لم ينجُ؛ بل "استعدَّ".

لقد استعد للغفران حتى إذا نجا في الواقع فسيكون قادراً على تجاوز الأمر والمُضي قُدماً، فهو كان يعلم أنَّه من خلال التغاضي فقط سيكون قادراً على قيادة نفسه والآخرين نحو إحداث تحوُّل في وطنه الحبيب جنوب إفريقيا.

قال مانديلا: "أدركت بينما خرجت باتجاه البوابة التي ستقودني إلى حريتي أنَّني إذا لم أترك ذلك الشعور بالمرارة والكراهية خلف ظهري، فسأظل في السجن".

لقد أدرك نيلسون مانديلا بصورة جوهرية أنَّ الغفران ليس هديةً تقدمها للآخرين؛ بل لنفسك؛ إنَّه تحرر حقيقي من قصص ماضيك، ومن الألم والحُنق والغضب الذي يمكن أن ينخر في عقلك وجسدك.

لا يُعدُّ السياسي البارز والزعيم الروحي للهند مهاتما غاندي (Mahatma Gandhi)، ومقدمة البرامج الحوارية الأمريكية أوبرا وينفري (Oprah Winfrey)، والرئيس نيلسون مانديلا (Nelson Mandela) الوحيدين القادرين على هذا النوع من الغفران الكامل؛ فالحقيقة هي أنَّنا كلَّنا قادرون على ذلك؛ فعندما نرتقي بمعاييرنا، فإنَّنا نحرر أنفسنا.

اسأل نفسك: ماذا لو كلُّ شيء في الحياة حدث لسبب ما في الحقيقة؟ وماذا لو كان لكلِّ أمر غاية بالفعل تخدمنا على الأمد الطويل؟ وماذا لو كان كلُّ ما يحدث في الحياة هو لمصلحتنا لا ضدنا؟ وماذا لو كان حتى للألم والمشكلِات هدفاً أسمى متعلقاً بنمو وتطور أرواحنا؟

إذا كنت ستعيد النظر في حياتك، فلا بُدَّ من أن تُدرك أنَّك مررت ببعض التجارب المؤلمة التي لن ترغب أبداً في تكرارها، ومع ذلك ستشكر الله أنَّ بعضاً منها حصل بالفعل؛ وذلك لأنَّها أدت إلى تعزيز بصيرتك أو زيادة اهتمامك أو منحك مستوىً من القوة الداخلية التي رسمت شخصيتك وعظمةَ ما يمكنك أن تقدمه للآخرين حتى هذا اليوم.

عندما تستفيد من هذا المستوى من الوعي، تكون قد أدركت معنىً أعمق لآلام الماضي، فأنت لم تسامح فقط، لقد تجاوزت بإيمانك التجربة بحد ذاتها وحررت روحك وعززت قوتها من خلال الغاية الأسمى التي أدركتها.

إنَّ الأشخاص الذين يتجاوزون قصةً حدثت لهم ويعثرون على معنىً أسمى، هم الذين يقودون وينمون ويعطون ويختبرون أعمق شعور بالبهجة والرضى في الحياة؛ إذ يعتقد الجميع أنَّ مشكلاتهم صعبةً للغاية، لكن يوجد شخص آخر مضطر لتحمل أكثر من ذلك، ولكي تكون حراً وسعيداً حقاً في هذه الحياة عليك أن تتخلى عن توقعاتك، فقد تكون مشكلتك الكبرى هي الاعتقاد بأنَّه ليس من المفترض أن تواجه مشكلات، في حين أنَّ قوتك تكمن في مشكلتك؛ لأنَّها تطلق العنان لسعة حيلتكَ وتدفعك للنمو لتواجهها بوعي ورأفة؛ فالحلُّ هو الغفران الكامل والإيمان بالمعنى الأسمى لتجربتنا.

شاهد بالفديو: 15 قول عن التسامح والغفران

كيف تغفر بصدق؟

تظهر الأبحاث تغيرات كيميائية حيوية في تدفق الدم إلى أجزاء مختلفة من الدماغ عندما نكون غاضبين وعندما نختار أن نغفر بالمقابل؛ إذ تثبت دراسات عديدة أنَّ الشعور بالغضب والاضطراب العاطفي المزمن، ينال من الصحة البدنية، ويُسبب خللاً في التوازن القلبي الوعائي، ويؤثِّر سلباً في نوعية النوم ويُحفِّز إنتاج الهرمونات المرتبطة بالتوتر مثل الكورتيزول. وعلى النقيض من ذلك فإنَّ الغفران يُعزز السلامة والعافية وصحة القلب والأوعية الدموية وقد يزيد من معدل البقاء على قيد الحياة.

إذاً كيف يمكنك أن تغفر؟ وكيف تعثر على هذه القوة في قلبك؟ اجعل شخصاً مثل نيلسون مانديلا مَثَلَكَ الأعلى، أو استرجع وقتاً في الماضي منحت فيه الغفران، فمتى سامحت شخصاً قبل أن يعتذر حتى؟ ومتى يمكنك اختيار الغفران دون أن يتطلَّب ذلك اعتذاراً أو أيَّ شروط أو تغييراً في المشاعر؟ وأين يمكنك أن تجد معنىً أسمى وتُحرر نفسك أخيراً؟ وكيف يمكنك تجاوز الأمر ببساطة؟

يكمن الأمر في التخلص من تلك التوقعات معدومة الجدوى، وتقديم الامتنان هو إحدى الطرائق للاعتياد على هذا، وحاول أن تُخصِّص 10 دقائق يومياً تمتنُّ خلالها لأكبر عدد من الأمور البسيطة التي يمكن أن تخطر في بالك.

فما يثير الاهتمام هو أنَّنا غير قادرين على الشعور بالغضب والامتنان في الوقت نفسه؛ لذلك استعجل مشاعر الامتنان هذه؛ وذلك لأنَّ تنميتها يومياً تعزز نوعاً من الترابط؛ فيكون من السهل مسامحة الآخرين عندما تُصيبهم مشكلة ويشعرون بالضغط؛ لذا كُن أكثر امتناناً للأمور البسيطة وهذا سيساعدك على الغفران بسرعة وسهولة وتحرير نفسك من الألم.

في الختام:

إذا كنت ترفض الغفران، فأنت ما تزال تلوم أمراً آخر غير نفسك وهذا طبيعي، فلا يُجيد معظم الناس الغفران، لكنَّهم يتقنون إلقاء اللوم؛ إنَّها الطبيعة البشرية؛ لذا استثمر قوتكَ استثماراً جيداً، وإذا كنت ستلوم شخصاً ما على ألمك، فعليك أن تعزو له كلَّ ما تشعر به من سعادة أيضاً، وإذا كنت ستلوم والديك لكونهما سيئين للغاية فعليك أن تكون ممتناً لهما على القوة التي منحاكَ إياها لاحقاً.

تذكَّر أنَّ الخطأ متاح دائماً؛ وكذلك الصواب والنمو والفرح والرؤى الجديدة والمغزى والسعادة والحرية والحب؛ فكلُّها أمور لا تتطلب إلا قليلاً من الإيمان والغفران لتحصل عليها.

المصدر




مقالات مرتبطة