الغاية تبرر الوسيلة: عندما تصبح الأخلاق مجرد وهم

نحن نعيش في وسط مضطرب غير ثابت التوجُّهات، ولا يدافع عن قيمه ومبادئه، ولا يعترف بقوة الشخص الثابت على تحقيق قيمِه، فيَصفه بأكثر الصفات بعداً عن المنطقية والأخلاقية، ويقول عنه: "بسيط وساذج وغير قادر على مواكبة تطوُّرات الحياة".



لقد ارتبط مفهوم التطوُّر والانفتاح مع مسألة التخلي عن القيم؛ حيث تحوَّل معيار الذكاء إلى القدرة على كسر ارتباطك بقيمك في سبيل تيسير أمور الحياة، وكأنَّ القيم هي السبب الأساسي لتعثُّر قضايا الحياة، فكم نسمع جملة "لماذا تُعقِّد الأمور إلى هذا الحد؛ عليك أن تكون مرناً"! وكأنَّك تصبح مرناً أكثر كلما كانت قيمك مطاطية أكثر.

تبقى جملة "الغاية تُبرِّر الوسيلة" صعبة جداً على الطرف الذي يسمعها، وفي حين يدَّعي كل المجتمع كرهه لهذه الجملة، إلَّا أنَّ أغلبهم يمارسونها في تعاملاتهم اليومية، فذلك الأب المستعد للتخلي عن قيمه وسرقة أموال غيره في سبيل إسعاد ابنه، وذلك الابن الذي يغش في المدرسة وينال أعلى العلامات في سبيل إسعاد أبيه؛ هل هم مذنبون أم بريئون؟

هل سيبقى موقفك ثابتاً وحازماً في حال علمت أنَّ إنساناً ما قد سرق من أجل إجراء عملية جراحية لزوجته، كونه لا يملك المال الكافي للعملية؟  أم أنَّك ستقول عنه أنَّه قد تخلَّى عن قيمه وأخلاقه؟ في حال تعرَّضنا لموقف من المواقف الصعبة؛ كأن نختبر عملية نصب واحتيال ونخسر على أثرها كل أموالنا وثروتنا؛ هل سنكون عندها أخلاقيون في التعاطي مع الأمر أم أنَّنا سننسى كل مبادئنا وتوجهاتنا العميقة في الحياة؟

شاهد بالفيديو: 6 مواقف تسقط فيها الأقنعة ويظهر بها الناس على حقيقتهم

يعد سؤال "هل الغاية تُبرِّر الوسيلة؟" من الأسئلة الحَرِجة جداً، والتي تخضع للكثير من التحليل والاجتهاد؛ سنناقش من خلال هذا المقال؛ نشأة هذه الفكرة، وتعارضها مع الأخلاق تارة، ومسوغاتها الإنسانية تارة أخرى.

نشأة فكرة "الغاية تُبرِّر الوسيلة":

  • لقد أسس هذه الفكرة رجل السياسة الإيطالي "ميكافيلي" الذي وُلِد في عام 1464م في مدينة فلورنسا، لقد كانت إيطاليا ضعيفة آنذاك بفعل كونها مقسَّمة إلى أربع مدن رئيسة، ويحكم كل مدينة عائلة ثرية، وكانت إيطاليا أشبه بفريسة سهلة للدول الأوروبية المجاورة كفرنسا وألمانيا.
  • كانت ولاية فلورنسا خاضعة لحكم عائلة "ميديشي" الثرية جداً، والتي تبنَّت الحكم الاستبدادي في باطنه والديموقراطي البرلماني في ظاهره.
  • انتشر أسلوب الحياة الذي يعتمد على البذخ والرفاهية في تلك الحقبة من الزمن، والذي أسس دعائمها أمير من أمراء عائلة ميديشي والمدعو باسم الشاعر "لورنزو العظيم"، وقد رفع المدينة إلى مستويات أعلى بحيث أصبحت الغاية الأساسية لحياة الناس هي الجمال والتسلية والنساء والمال.
  • نشأ ميكافيلي في تلك الحقبة من الزمن، وتُفسِّر طبيعة حياته المادية أفكارَه اللاحقة الخاصة بالناس، إذ رأى ميكافيلي أنَّ الناس ما هم إلَّا كائنات أنانية للغاية، وضعيفة أمام الرغبات والشهوات، ومتقلبة المزاج، وغير أخلاقية، ولا تملك موقفاً ثابتاً أمام أي أمر؛ بل تقوم بتقليد مَن يقودها تقليداً أعمى.
  • كان مغرماً بالعلم؛ فدرس الفلسفة والقانون، وأتقن أكثر من لغة، وكان طموحاً جداً في استلام المناصب القيادية القريبة من السلطة الحاكمة، وشجَّع على النظام الاستبدادي في الحكم؛ حيث يرى أنَّ الحاكم المُهاب أفضل بكثير من الحاكم المحبوب.
  • ووجد أنَّ السعي إلى تخويف الناس وترهيبهم من أفضل الطرائق للسيطرة عليهم، كما وجد أنَّ سياسة البخل مع الشعب من أنجح الوسائل لقمعه؛ حيث شجَّع فكرة تجويع الشعب لكي تنكسر كرامتهم، وتتشوه رؤيتهم، فبدلاً من احتجاجهم ودفاعهم عن حقوقهم؛ باتوا يحتفلون بعظمة القائد في حال قيامه بزيادة جرعة فتات الحياة الممنوحة لهم.
  • شغل ميكافيلي منصب سكرتير المستشارة الثانية في ولاية فلورنسا، والتي تُشرِف على الشؤون الخارجية والعسكرية، واستمر بذلك المنصب لمدة 13 سنة، الأمر الذي منحه خبرة كبيرة في مجال المفاوضات وإبرام الاتفاقيات والمعاهدات، وأسقط ميكافيلي كل خبرته النظرية والعملية في كتاب "الأمير" الذي يحتوي على أفكاره الخاصة فيما يخص القائد الناجح وبناء الدولة الناجحة.
  • يرى ميكافيلي أنَّ القائد الناجح لا بدَّ أن يكون محتالاً بارعاً، بحيث يبرع في فنون التلاعب والتجسس والنفاق، ويشجع ميكافيلي على ضرورة الفصل ما بين السياسة والأخلاق، فيرى أنَّ الأخلاق عبارة عن أمر شخصي للإنسان (حرية شخصية)، ولا يجوز الربط بينها وبين السياسة؛ فالسياسة لا تستطيع العمل بوجود الأخلاق.
  • نشر ميكافيلي فكرة "الغاية تُبرِّر الوسيلة" كمحاولة منه لإنشاء مقاربة للواقع، والبعد عن المثالية والكمال، فعدَّ أنَّه في إمكانه اتباع أي طريقة في سبيل الوصول إلى هدفه، متجاهلاً القيم والأخلاق، وقواعد الصح والخطأ، والحلال والحرام، ومن جهة أخرى أكَّد ميكافيلي على ضرورة تجنيد الدين في خدمة النظام الحاكم وليس لخدمة الإنسان والقيم الإنسانية.
  • كان الهدف الأساسي هو إعمار الدولة والحكم والسلطة وليس الإنسان لدى ميكافيلي، وبدلاً من نشر رسالة الأخلاق؛ نشرَ رسالة حب البقاء والسعي إلى الرفاهية.
إقرأ أيضاً: 10 قواعد مهمة لبناء علاقات إجتماعيّة ناجحة

هل تُطبِّق "الغاية تُبرِّر الوسيلة" في حياتك؟

  • هل تقول جمل مثل: "أفعل أيَّ شيء من أجل إسعاد ولدي"، "أنتَ عزيز جداً عندي، وسأفعل كل شيء لكي ألبي لك طلبك"، "سأصلي وأصوم وأعمل صالحاً لكي أفوز برضا الله عز وجل"، "أريد أن أكون ثرياً، لذلك سأسرق"، "مصدر أموال كل الأغنياء حرام؛ لذلك لا حرج عليَّ إن قمت بسرقة أحدهم".
  • يستخدم معظمنا ثقافة "الغاية تُبرِّر الوسيلة" في الكثير من المواقف في حياتنا بدون وعي منا؛ بعضنا مَن يستخدمها لضرورات خاصة جداً وطارئة جداً، بينما يستخدمها الآخر من أجل النفاق واستغلال الآخرين وكسر الارتباط مع الأخلاق.
  • هناك مَن يستخدم ثقافة "الغاية تُبرِّر الوسيلة" على الرغم من إدراكهم أهمية الأخلاق والقيم في الحياة، إلَّا أنَّهم قد يميلون إلى استخدام تلك الثقافة في حالات طارئة، على سبيل المثال: كأن يكون لشخص ما صديق مقرب للغاية، قد يرتكب هذا الصديق جريمة ما بدافع ما، ثمَّ يلجأ إليه طلباً للأمان؛ سيقع هنا الشخص في حيرة من أمره، فعلى الرغم من تمسُّكه بالأخلاق والفضيلة إلَّا أنَّه قد يرأف لحال صديقه الهارب من العدالة، وتحديداً بعد أن يقص عليه دوافعه المنطقية (من وجهة نظره) لارتكاب الجريمة، فقد تطغى المشاعر في هذه الحالة على المنطق والعقل.
  • يربط بعض الناس ما بين الأخلاق ومصلحتهم الشخصية، فيكونون أخلاقيين طالما أنَّ الأمر لا يتضارب مع مصلحتهم الشخصية، في حين يتحولون إلى وحوش في حال المساس بمصلحتهم الشخصية، الأمر الذي يجعلهم متذبذبي المواقف وردود الأفعال.
  • ينظر الكثير من الناس إلى النتيجة فحسب، فيتعامون عن الفعل المؤدي لها، وينزعون إلى الوصول إلى النتيجة بأية طريقة كانت، دون أن يعلموا أنَّ السعادة تكمن في الطريق الصحيح وفي المحافظة على القيم والأخلاق، فأي طعم للسعادة وقد خسرت نفسك؟
  • إنَّهم المتعلِّقون بالنتائج والذين يربطون ما بين قيمتهم الشخصية والنتائج، فيبقون في حالة من التوتر والأرق إلى حين الوصول إلى النتائج المرغوبة، ويفقدون المتعة والإحساس بأي شيء إذا لم يصلوا إليها.
  • يحمل الكثير من الناس نظرة سلبية عن الآخرين، بحيث يتعاملون مع الحياة على أنَّها غابة مليئة بالذئاب، الأمر الذي يجرِّدهم من قيمهم الإنسانية، بحيث يتحولون إلى أشخاص انتهازيين ووصوليين ولا يتردَّدون في انتهاج أي وسيلة للوصول إلى مبتغاهم.

المرونة في الثبات أحياناً:

  • يتكوَّن كل إنسان من نفس وروح وعقل وجسد، ويعتمد غذاء النفس على القيم، فلا تبخس نفسك حقها، ووفِّها كامل حقها من خلال إغناء قيمك والالتزام بها.
  • عندما تشحن نفسك من المصدر الأساسي للكون (الله) فهذا يعني أنَّك تُغذِّي قيمك تغذيةً صحيحةً، وتركز على ما فيه صلاحك، ولن تعاني من تشوُّه الرؤية والوجهة، ولن تسوِّغ لك نفسك اللجوء إلى طرائق ملتوية لتحقيق هدفك.
  • ولكن عندما تشحن نفسك من نظرة الناس عنك ومن كمية أموالك وممتلكاتك؛ عندها ستتشوَّه لديك الرؤية، وستتضخَّم القيم السلبية لديك كالطمع والجشع والوصولية، وستطغى مصلحتك الشخصية على كل قراراتك وخياراتك في الحياة، ولن تبالي بمصالح الآخرين وحياتهم، ولن تسعى إلى صنع قيمة مضافة في المجتمع؛ بل ستعدُّ نفسك غير مسؤول عن ذلك، أي أنَّك ستتبنَّى عبارة "أنا ومن بعدي الطوفان"، وستُقاد من قِبل جانبك المظلم واللَّإنساني، وعندها ستميل إلى استخدام أي وسيلة للوصول إلى غايتك. 
  • لا تدع مفاهميك عن الأخلاق والقيم تتشوَّه بفعل المجتمع، بحيث يقنعونك أنَّ المرونة تقتضي التخلي عن التمسك المفرط بالقيم والأخلاق، والسماح لإطار قيمك بالتمدد والتكيف مع الظروف المحيطة به، فالعالم كلَّه آخذ بالتغير السريع، ولم يعد ينفع التزامك القيم ذاتها؛ بل عليك تجديدها وإلغاء بعضها.

اعلم أنَّه فيما يتعلَّق بمسألة القيم؛ مرونتك الحقيقية هي في ثباتك المنطقي والصادق والراقي مع قيمك؛ وذلك لأنَّها هي مَن تصنع مصيرك، وتحمي إنسانيتك.

إقرأ أيضاً: استغلال الآخرين لنا: ما هو؟ وما أسبابه؟ وما هي طرائق علاجه؟

الخلاصة:

التزم بغاية إيجابيَّة في حياتك والتزم بالنية السليمة والصادقة واحفظ حقوق الآخرين ومساحتهم الخاصة، ومن ثمَّ سلِّم طريقة وصولك للهدف إلى الله تعالى، فهو الأقدر على صنع الوسيلة المناسبة لك، كن أميناً مع الآخرين، فما أتعس السعادة القائمة على تعاسة الآخرين.

 

المصادر: 1، 2، 3، 4، 5




مقالات مرتبطة