العناد عند الأطفال: تعريفه، وأسبابه، وطرائق علاجه

"لا يسمع كلامي مطلقاً"، و"أنا عاجزةٌ أمامه"، "يتصرَّف وفقاً لأهوائه، ولا يكترث بنوبات جنوني؛ فكلَّما ازداد انفعالي، ازداد عناده".

"لقد كرهت التربية، فأنا متعبةٌ بالفعل"، و"ابني عنيدٌ وشقيٌّ جداً".

لطالما كانت مثل هذه الجمل -وغيرها الكثير- محور تفكير وحديث الكثير من الأهالي، حيث تجد نفسك مُنجذباً إلى حديثهم، ومُتعاطفاً معهم؛ لتُقرِّر بعد ذلك مشاركتهم معاناتهم، وتقول لهم عباراتٍ إيجابيةً تُهدِّئ من مقدار غضبهم، مُلقياً اللوم على هذا الجيل وعلى ما يتَّصف به من طيشٍ وتهوُّرٍ عام، وعلى التكنولوجيا والانفتاح الكبير الحاصل في العالم، والذي من شأنه أن يعبث بأخلاق جيلٍ بأكمله.



لكن بمجرَّد أن تعود إلى منزلك، وتبدأ إعادة تفاصيل الحوار الجاري بينك وبين الأهالي؛ يتبادر إلى ذهنك سؤالٌ خطير: إن كان التوسع الحضاري في مجال التكنولوجيا، والتغيرات الفيزيولوجية والنفسية الحاصلة من جيلٍ إلى جيل السببَ في ضعف سيطرة الأهل على أولادهم، فلماذا إذاً نجد أطفال مُسالمين وهادئين وآخرين مشاكسين ومشاغبين وعنيدين؟ ألا يجب أن يكون تأثير المستجدات الحاصلة في العالم قد طال جميع الأطفال بالقدر ذاته؟

يقودنا هذا التَّساؤل في الحقيقة إلى تساؤلٍ آخر، وهو: ماذا لو أنَّ الأمر يتعلَّق بالتربية وطريقة تعامل الأهل مع الطفل؟ وماذا لو أنَّ التربية هي مَن تخلق الاختلاف بين الأطفال؟

يستحقُّ طفلك العنيد منك عمليةً صادقةً تهدف إلى إعادة النظر في تصرُّفاتك معه. نعم، يستحقُّ ابنك منكَ محاولةً حقيقيةً لمعرفة الأسباب الكامنة وراء سلوكه المزعج؛ فأولادنا أمانةٌ في أعناقنا، ومن واجبنا أن نحافظ على هذه الأمانة بكلِّ ما أوتينا من قوةٍ وحلمٍ ووعيٍ وصبر.

سنغوص سوياً في موضوع العِناد عند الأطفال، مُحلِّلين أسبابه العميقة، ساعين إلى إيجاد الحلول لمعالجته.

ما هو العِنَاد عند الأطفال؟

نصف الطفل بأنَّه "عنيد" عندما يصرُّ على القيام بأمرٍ لا يتماشى مع رغبة الأهل، أو عندما يصرُّ على عدم القيام بأمرٍ ما يرغب به الأهل؛ وهي حالةٌ سلبيةٌ تُشعِر الأهل بالعجز وانعدام السيطرة.

لكن، ماذا لو أنَّ هذا التعريف يحمل في طياته الظلم للطفل، ويمثِّل قلَّة احتواءٍ واحترامٍ له؟

عندما نَصِف الطفل بأنَّه "عنيد"، فيعني هذا -باللاوعي- أنَّنا قد أخلينا المسؤولية عن كاهلنا وأسقطناها على كاهل الطفل، وجعلنا الخطأ فيه؛ علماً أنَّ الطّفل يُولَد كقطعة العجين، ونحن نشكِّلها بأيدينا كما نريد.

هل حقاً تكمن البداية في الاعتراف؟

لكي نبدأ التكلُّم عن موضوع العِنَاد عند الأطفال، على الأهالي بدايةً الوعي إلى جزئيةٍ هامَّةٍ جداً، وهي أنَّهم "السبب في عناد أطفالهم"؛ إذ سيُبادرون في اللحظة التي يُدرِكون فيها هذه الحقيقة، إلى اكتشاف الأفعال التي قاموا بها، والتي جعلت سلوك ابنهم هكذا.

يؤكِّد قانونٌ كونيٌّ على أنَّ الإنسان الذي يحسُّ بمشاعر غضبٍ وضيقٍ نفسي في حياته تقع على عاتقه مسؤولية التغيير، فعلى الأهل المضغوطين نفسياً من سلوكات ابنهم أن يبدؤوا التغيير من أنفسهم أولاً، في حال أرادوا تحسين حياتهم؛ إذاً فالخطوة الأولى التي يجب على الأهل تبنِّيها هي الاعتراف بأنَّهم السبب في سلوكات أطفالهم.

لماذا يعاند الأطفال؟

1. التعدِّي على حرية الطفل:

من أهمِّ أسباب لجوء الأطفال إلى حالة العناد: التعدي على مساحتهم وحرِّيتهم؛ إذ إنَّنا مفطورون على الحرية.

لا يَعِي معظم الأهالي خطورة هذه الجزئية، فتجدهم محترفين في إجبار وإكراه أولادهم على فعل الأمور التي يريدونها، دون أدنى مراعاةٍ لرغباتهم وشخصيَّتهم المستقلة.

تخلق حالة الإجبار ردَّة فعلٍ عكسيةً لدى الطفل، لكونه مفطوراً على الحرية، فعندما يُمنَع من القيام بأشياء معينةٍ بأسلوبٍ قاسٍ دون توضيح الأسباب المُقنعة؛ سيتولَّد لديه -مع تكرار حالة المنع- رغبةٌ دفينةٌ لتجريب هذا الأمر. من هنا يبدأ الممنوع بالتحوُّل إلى مرغوبٍ يستمتع به الطفل؛ لأنَّه يُشعِره بالحرية المفقودة المفطور عليها، وبذلك تختلط المعايير لديه، ويتحوَّل ما هو "ذنبٌ وخطأ" في الأصل إلى "متعةٍ وحرية".

يجعل اتباع الأهالي أسلوب الفرض والأوامر من أولادهم أطفالاً عنيدين، ويُؤثِّر في إدراكهم العقلي؛ إذ يتحوَّل الطفل الذي ينشأ على سياسة "افعل كذا، ولا تفعل كذا"، إلى إنسانٍ تابعٍ وضعيفٍ وعديم الثقة بنفسه، وغير قادرٍ على اتخاذ قراراته بنفسه.

إقرأ أيضاً: ضعف الثقة بالنفس عند الكبار والصغار وطرق التخلص منها

2. القصور في التبيان:

لا يَعِي معظم الأهالي مسؤوليَّاتهم في التربية، فتجدهم دائمي الخوف على أولادهم؛ ممَّا يجعلهم في حالة مراقبةٍ دائمةٍ لهم، وتحكُّمٍ بأفعالهم، وسيطرةٍ على قراراتهم؛ بحجَّة الخوف عليهم وعلى مصالحهم. في حين يتبنَّى بعضهم الآخر سياسة الدلال المبالغ فيه، فتراهم يبالغون في محبَّة أطفالهم، بحيث يكسرون كلَّ القواعد ويتركون الأمور دون قوانين.

وتولِّد كلتا الحالتين طفلاً عنيداً متشبثاً برأيه لا يتنازل عنه.

3. قلَّة الصبر لدى الأهل وعنادهم:

يستسهل الأهالي أسلوب التلقين بدل أسلوب الإقناع في التربية، ولا يتفنَّنون في إيصال المعلومة إلى طفلهم، ممَّا يخلق طفلاً رافضاً وعنيداً.

على سبيل المثال: قد يشعر طفلك بالملل من الدراسة، وهذه مشاعر طبيعيةٌ في البداية، إلَّا أنَّك تنهره وتجبره عليها، وتقول له: "ستدرس وإلَّا سأبرحك ضرباً". لقد اتبعت في هذه الحالة أفشل الطرائق على الإطلاق، وحوَّلت ابنك إلى مخلوقٍ كارهٍ للدراسة إلى الأبد؛ وقد كان عليك بدلاً من ذلك زرع "القيم" لدى ابنك بطريقةٍ ذكيةٍ وجميلةٍ ومُحبَّبة إليه، عن طريق توضيح الغاية من المدرسة والدِّراسة، ولماذا تعدُّ هامَّة، وربط قيمة العلم باللَّه، حيث إنَّ أوّل أمرٍ إلهي كان "اقرأ".

إقرأ أيضاً: 5 أساليب تربوية خاطئة يُمارسها الأهل تجاه أطفالهم

هل لعناد الطفل حلّ؟

نعم، وذلك من خلال:

1. احترام قيمة الحرية لدى الطفل:

عندما يَعِي الأبوان أهميَّة الحرية للطفل، ويعاملانه كأنَّه شخصٌ مستقلٌّ وكبير، وله شخصيَّته ورغباته وأفكاره، وليس منفِّذاً للأوامر فحسب؛ سيتلاشى سلوك العناد.

على سبيل المثال: جعله يختار طريقة لبسه، أو يختار الصنف الذي يفضِّله من الأغذية الصحية، بحيث يُشبِعان لديه حبَّ الحرية والاستقلالية. وعليهما أن يعاملاه بالإقناع، أي أن يحاوراه في كلِّ أمر، ويشرحا له الإيجابيات والمساوئ مع تبيان رأيهما، ثمَّ يقولا له: "حبيبي، أنت حرُّ التصرُّف والاختيار، وأنت مَن تتحمَّل نتيجة قرارك". فإن قام الطفل بالتصرُّف الخاطئ وتحمَّل نتيجة خطئه دون مساعدة الأهل، فإنَّ هذا الخطأ سيرفَع من إدراكه؛ لأنَّه سيتعلَّم أنَّ عليه التفكير مليّاً قبل القيام بأيِّ خطوة، وعليه أخذ كلام أبويه في عين الاعتبار، فهما يريدان الخير له، وسيتعلَّم أنَّه حرٌّ ومسؤولٌ عن أفعاله.

2. التربية هي التوضيح:

تكمن مسؤولية الأهل في التوضيح والحماية والتذكير والتبيان، وليس في المراقبة وفرض الأوامر وكسر الحريَّة.

على الأهالي إذاً تبيان الأمور لأطفالهم، مع ترك حرية القرار لهم؛ فعلى سبيل المثال: إن كان الطفل يريد لمس كأسٍ من الماء الساخن قليلاً، فعلى الأهل شرح سلبيات الأمر للطفل، ولماذا عليه أن يبتعد عنه؛ فإن لم يسمع النصيحة ولمس الكأس، فعلى الأهل عدم مساعدته، وتركه يتحمَّل مسؤوليَّة قراره؛ وذلك طبعاً بعد أن يُوفِّروا له وسط الحماية، بحيث لا يكون الكأس بتلك الخطورة.

يجعل تبنِّي إسلوب الإكراه كلَّاً من الأهل والطفل في حالة تعبٍ وضيقٍ نفسي؛ لذلك على الأهالي إعادة النظر في مسؤوليَّاتهم في التربية.

3. الصبر والحوار:

على الأهالي أن يعلموا أنَّ معالجة عناد الطفل يلزمها الكثير من الصبر؛ لأنّهم قد اعتمدوا على آلية تربيةٍ معينةٍ معه، ويتطلَّب تغيير هذه الآلية الكثير من الوقت حُكماً؛ كما عليهم أن يستمروا في تشجيع الطفل خلال فترة العلاج، لكي يتجاوز سلوك العناد.

من أهمِّ السلوكات العلاجية: أسلوب الحوار، مع ترك حرية القرار للطفل، كأن يجلس الأبوان مع طفلهما ويتحاورا بخصوص الأمور التي يعاند فيها الطفل، ويُحدِّدا مع الطفل الهدف الذي يريدون الوصول إليه، ويسمعا وجهة نظر الطفل للوصول إلى الهدف، ومن ثمَّ يوضِّحا له الأخطاء في حال كانت وجهة نظره يشوبها الأخطاء؛ ثمَّ يقترحا عليه بعد ذلك العديد من النقاط لتلافي الأمر والوصول إلى الهدف، وله حريَّة القرار، وعليه تحمُّل النتائج.

يجب ألَّا ننسى المكافأة، فإن أبدى الطفل حُسن التصرُّف، فسيكون إذاً مستحقاً لمكافأة جميلة.

على سبيل المثال: كأن يكون للطفل لوحٌ في غرفته، مدوَّنٌ عليه النقاط التي اتفق مع أهله على العمل عليها، وأن يكون لكلِّ نقطةٍ درجات، فإن كان يُحرِز تقدُّماً في الدرجات في كلِّ مرة، فإنَّه يستحقُّ مكافأةً أفضل في كلِّ مرَّة. وبالمقابل، إن أهمل نقطةً معينةً مثل نقطة "وضع الملابس المتسخة في مكانها المخصَّص لها"، فعندها على الأم تجاهل الملابس تماماً، وعدم غسلها إطلاقاً، ريثما ينتبه الطفل إلى سلوكه ويُعدّلِه؛ لأنَّهم اتفقوا معه على أنَّ عليه تحمُّل مسؤولية قراره؛ لذلك لا يجوز التهاون بالأمر من قبل الأهل مطلقاً، على أن يحدث ذلك بحبٍّ واحتواء، كأن تقول الأم لطفلها: "حبيبي، اعذرني، فأنا ملتزمةٌ معك على قواعد معيَّنة، ولا يجوز الإخلال بهذا الالتزام".

الخلاصة:

أطفالنا هبةٌ حقيقيةٌ من اللَّه، وعلينا تقديرها وصونها، دون المبالغة في الاهتمام؛ لكي لا نخسرها.

علينا إغداق الحبِّ على أطفالنا مع تحميلهم مسؤولية قراراتهم، وعلينا الوقوف أمام أنفسنا والاعتراف أنَّ سلوكات أطفالنا انعكاسٌ لسلوكاتنا؛ لذلك علينا أن نسعى ونُطوِّر من قدراتنا ومهاراتنا، لتكون النتيجة برَّاقة.

 

المصادر: 1، 2، 3، 4




مقالات مرتبطة