العطاء والأخذ: تطرف مجتمعي بحاجة إلى التوازن

"يا لكَ من شخصٍ عاشقٍ للاستغلال، عاشقٍ للأخذ دون العطاء، لقد جعلتني أمقتُ هذه العلاقة"، "لا أحصل منه على ما أريده، مع أنِّي أقدِّم إليه كلَّ ما باستطاعتي"، "أنا دائماً في حالة قلقٍ واضطراب، فلطالما أُستَغَّلُ من قبل الآخرين، إلى أن أصبحتُ إنساناً مهزوزاً يعاني من أزمة ثقةٍ بالآخر"، "لماذا تنظر إليَّ على أنَّني شخصٌ أنانيٌّ وبلا مشاعر لمجرَّد أنِّيَ قد اعتذرتُ عن تقديم المساعدة إليكَ في الوقت الحالي، نظراً لارتباطي مع مسؤولياتٍ شخصية"، "يا لها من إنسانةٍ ماصَّةٍ للطاقة، فهي تأخذ كلَّ شيءٍ منكَ ولا تعطيك شيئاً".



تمثِّلُ هذه الحوارات وغيرها الكثير، الصراعَ الحاصل على مفهومي العطاء والأخذ، حتَّى غدونا أمام سؤال هامٍ جداً، هو: هل هناك آليةٌ للعطاء دون أن يتحوَّل الإنسان إلى مُضحٍّ، وآليةٌ للأخذ دون أن يتحوَّل الإنسان إلى أنانيٍّ واستغلالي؟ هذا ما سنجيب عنه من خلال هذا المقال.

جدليَّة العطاء والأخذ:

تتخبَّط أفكار أغلب الناس حول مفهومي العطاء والأخذ، ففي حين يتبنَّى فريقٌ ما ثقافة العطاء، ويتعمَّق فيها حتَّى يصل إلى احترافِ دور الضحية؛ ينحاز الفريق الآخر إلى ثقافة الأخذ، معتبراً إيَّاها قمة الذكاء والحنكة، فهل يوجد ما هو أجمل من أخذ كلِّ ما لدى الآخرين من أشياء ومشاعر دون إعطائهم أيَّ شيء (في نظره طبعاً)؟ هكذا حتَّى نصبح في ثقافةٍ مجتمعيةٍ مشوَّهةٍ يغيبُ عنها التوازن، ويُسيطر عليها التطرُّف في العطاء والأخذ، ليبقى السؤال الأهمُّ: "تُرى مَن يحتلُّ الأولويَّة، العطاء أم الأخذ؟ ومن أين نبدأ؟".

وسطَ كلِّ هذا اللغط الحاصل حول قضية العطاء والأخذ، حيث يتبنَّى فريقٌ مسار "الأخذ أولاً" بحجَّة أنَّه "لا يوجد إنسانٌ يستحقّ العطاء بلا مقابل، فأنا آخذ ومن ثمَّ أُعطِي"، ويتبنَّى الآخر ثقافة "العطاء أولاً" بحجَّة أنَّ "الحياة عبارةٌ عن ترابطاتٍ مُتناغمة، وحتَّى يكون تدفُّق الحياة انسيابياً وحيوياً، عليَّ البدء بالعطاء، وسيعود ما أُعطِيه إليَّ لا محالة"؛ يأتي كتاب اللّه لينسِفَ هذا اللغط الحاصل، ويُجِيب عن هذا السؤال، إذ يقول تعالى في سورة آل عمران (الآية 92): {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}، كما يقول أيضاً في سورة سبأ (الآية 39): {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}، مؤكِّداً على أنَّ العطاء يحتلُّ الصدارة، فالأصل هو الإنفاق، وعلى الإنسان أن يُنفِق لكي يحصل على ما يُريد، وسيعود عليه إنفاقه يُسراً وسعادةً في كلِّ تفاصيل حياته وبعد مماته.

تعريف العطاء:

العطاء هو سلوك الإنسان المُتَّحِد مع قناعاته وأفكاره، والمُزيَّن بمشاعره؛ وهنا يأتي السؤال: "هل العطاء إيجابي الصِّبغَة دوماً؟ أم أنَّ الصِّبغَة السلبية قد تشوبه؟".

يترتَّب ذلك على الأفكار والقناعات المُصاحِبة للعطاء، وكذلك المشاعر المُرافقة له، فعندما تكون المشاعر المُصاحبة لسلوك العطاء سلبية، حينها لن يُؤتِي العطاء ثماره، ولن يُخلِفه اللّه للإنسان نعمةً وبركة.

على سبيل المثال: لن تجد ثمار عطاءاتها، ولن يُقدِّر أحد إنجازاتها؛ تلك التي تعيش دور الضحية، وتقضي يومها في حالةٍ من الشكوى والتذمر من طلبات زوجها وأولادها، فهي تُعطِي وتُنفِق من وقتها وصحتها، ولكن بمشاعر سلبيةٍ وضيقٍ نفسي؛ ممَّا يجعلها بعيدةً كُلَّ البُعدِ عن النتائج الإيجابية.

العطاء المتوازن:

"كيف أصل إلى حالةٍ من العطاء المتوازن دون أن أكون أسيراً للتضحية والضعف؟"، تكمن الإجابة عن هذا السؤال في النقاط التالية:

1. تقدير الذات:

يعني "تقدير الذات" أن تُولِيها الأولويَّة القصوى، فلا يوجد شيءٌ في العالم أهمُّ من أهدافك ومسؤولياتك، فعندما يُطلَب منك مساعدةٌ وأنتَ غيرُ قادرٍ على تنفيذها لارتباطك بمهام شخصية، تستطيع عندها الاعتذار بمنتهى الرقي، وتأجيل المساعدة إلى وقتٍ لاحق، فأنت تملك النيَّة للمساعدة والعطاء، لكنَّك حالياً غير قادرٍ على تنفيذها؛ لذا لا يجوز أن يُسبِّب لكَ العطاء إرهاقاً نفسياً.

مَن يميل إلى تقديم المساعدة إلى الآخرين على حساب صحته ووقته ومسؤوليَّاته وطاقته، فغالباً ما يأخذ قيمته من الآخرين، حيث يكتسب ثقته بنفسه ومشاعره الإيجابيَّة من كلام الآخرين عنه ومجاملتهم له. ويكون الحلُّ بالتعمق في ذاته أكثر، واكتشاف نقاط قوته، والبحث عن الأشياء الإيجابية في شخصيته، لكي يستطيع بناء ثقته بنفسه من جديدٍ من الداخل وليس من الآخرين.

إقرأ أيضاً: 8 صفات يتميّز بها أصحاب تقدير الذات المنخفض

2. النية السليمة للعطاء:

عندما تُعطِي وأنتَ تستشعر مشاعرَ إيجابيَّة، تصلُ طاقة العطاء إلى الطرف المُقابل حكماً؛ لكنَّك عندما تُنفِق ومشاعرك سلبية، تصلُ هذه الطاقة السلبية إلى الطرف الآخر وسيستشعرها. ومن جهةٍ أخرى، يجب توخِّي الفائدة من العطاء، كأن يكون عطاءً يخدم الطرف المقابل ويُقدِّم إليه اليُسر الحقيقي في حياته.

3. العطاء في المكان المناسب:

يكون العطاء سلبياً في الكثير من الحالات، كما في حالة الابن المُهمِل والمُتسيِّب الذي تحتوي والدتُهُ أخطاءَه، وتعفو عن هفواته المتكرِّرة، فهي تُعطِي عطاءً سلبياً في هذه الحالة؛ فيتحوَّل الابن إلى إنسانٍ اتِّكاليٍّ مُستَهترٍ ولا يتحمَّل مسؤوليَّة أفعاله.

إذاً، هناك عطاءٌ يدمِّر الآخر، كما في حالة وجود إنسانٍ سلبيٍّ ومُتذمِّرٍ وعاشقٍ للراحة، ويُعلِّق فشله على الظروف والآخرين؛ سيزيد عطاء هذا الإنسان  من لامبالاته، ويُبعِده عن اكتشاف الهدف الحقيقي من وجودنا على الأرض، بحيث يبتعد عن السعي والحركة والبركة.

إقرأ أيضاً: ثقافة العطاء سرٌّ من أسرار بناء المجتمعات السليمة

ما بين توازن الأخذ وعدمه:

الأخذ هو النتيجة الطبيعية للعطاء المتوازن؛ لكنَّ السؤال هنا: "متى يكون الأخذ متوازناً؟ ومتى يكون غير متوازنٍ؟".

يُضفِي العطاء المتوازن حالةً من السكينة والهدوء والسلام والإنجاز، مع الشعور بالثقة المطلقة بأنَّ اللَّه سيردُّ هذا العطاء أضعافاً مُضاعفةً في بابٍ من أبواب الرزق الكثيرة مثل: باب الصحة، والراحة النفسية، والأولاد، والعمل، والعلاقات، والمال، وغيرها؛ أي أنَّ حالة الأخذ المتوازن تُمثِّل حالة السماحية للاستقبال، حيث يُعطِي الإنسان المُتّزِن بصدقٍ وحبٍّ ويعيش حالةً من السلام والرضا، فاتحاً قلبه لاستقبال أيِّ نوعٍ من أنواع الأخذ التي ستتجلَّى في حياته.

من جهةٍ أخرى، يُسيطر الانتظار على حالة "الأخذ غير المتوازن"، فيميل الإنسان في هذه الحالة إلى انتظار المُقابل من الطرف الآخر، ويتوقع الكثير من السلوكات والتصرفات، ويَعقِد الآمال والأماني، ويُصاب بالإحباط والحزن في حال عدم تحقُّق توقعاته.

ينتظر الإنسان في حالة "الأخذ غير المتوازن" الرِّزقَ من الباب نفسه الذي بَذل له العطاء، في حين يتجلَّى الرزق (الأخذ) في أوجهٍ كثيرةٍ جداً، فعندما يُركِّز الإنسان على بابٍ واحدٍ للأخذ، يغفلُ عن باقي الأبواب اللامتناهية المُهيَّئة لكي تُفتَح له.

إقرأ أيضاً: الرزق المالي: محصلة حتمية لقناعاتك المتطورة

قرِّر ما تريد:

السؤال الأكثر أهميَّةً هو: "كيف تريد أن يكون مسار حياتك؟" وهنا القرار قرارك، هل تريد أن تعيش العطاء الصادق وغير المشروط والراقي والواثق بعدل اللَّه وإنصافه، وبأنَّه سيُعيِد الإنفاق يُسراً وهناءً على حياتك وبعد مماتك، والمصحوب بمشاعر سلامٍ وحبٍّ واحتواء، وبقلبٍ مُنفتِحٍ على استقبال كلِّ فرص الحياة؟

أم أنَّك راغبٌ بعيش حالة الأخذ غير المتوازن، مُنتظِراً سلوكات وتصرُّفات الآخرين، ومُعوِّلاً على ما ترسمه من توقعات خياليَّة، ومُكتئِباً من حجم الخيبات التي تعيشها؟

كُن واثقاً أنَّ حالة انتظار الرَّد من الآخرين حالة ضعف، وتشبه حالة "التَّسوُّل العاطفي"؛ وتأكَّد أنَّه عندما تُرسِل إلى الكون طاقة "احتياجٍ وفقر"، فستُردُّ إليك أحداثٌ من نوع الطاقة المُرسَلة نفسها.

يكمن الحلّ في تلبية حاجاتك النفسية من الداخل؛ لذلك عليك الغُوص في ذاتك الحقيقية، وتأمُّل محاسنها، واكتشاف مخاوفها، وإغداقها حبَّاً واحتراماً واحتواءً، هكذا إلى أن تتحرَّر من التعلُّق بالأمور الخارجية من: شخصٍ، أو فرصة عملٍ؛ ولِتَنعم بالسلام بوجود هذه الأشياء الخارجية أو غيابها، فأنتَ غنيٌّ من الدَّاخل، ومُكتمِلٌ بذاتك وروحك وقيمك وقوَّتك.

تنقلنا حالة العطاء المتوازن إلى مستوى وعيٍ أعلى في رحلة وعينا، وإلى حالةٍ إنسانيةٍ أرقى، بحيث نترفَّع عن انتظار القيمة من الآخرين، ونعيش الاكتمال الحقيقي في أنفسنا، ونعيش السلام بدءاً من دواخلنا، ومن شأن هذا أن يدعم مساراتنا في الحياة وتوجهاتنا.

الخلاصة:

من أجل تحديد مساراتنا في الحياة، والقيم التي سنتبنَّاها، والسلوكات التي ستمثِّلنا؛ علينا الإجابة عن السؤال التالي: "بماذا سنُغذِّي عقولنا وروحنا؟".

فهل تريد أن تُغذِّي عقلك بالحب والصدق والوضوح والسعي الدؤوب إلى تنفيذ رسالتك في الحياة، وإضفاء القيمة والمُتعة والسعادة على كلِّ من حولك؟ أم أنَّك تريد أن تكون إنساناً عادياً يعيش بلا رسالة، ويُغذِّي عقله بعشق الماديات، وأكثر ما يهمُّه هو نظرة الآخرين إليه، واكتساب قيمته من الخارج، وإلقاء أحكامه السلبية على الظروف والأشخاص من أجل تعليل سبب إخفاقاته؟

لكَ حرية القرار في هذا.

 

المصادر: 1، 2، 3




مقالات مرتبطة