الصداقة مفتاح السعادة

غالباً ما أوصي مَن ينوي القيام بما حاولت فعله بألا يفعل ذلك؛ فهو أمر خطير للغاية ومجازفة مروِّعة.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذٌ عن الطبيب النفسي "وينفريد سيدهوف" (Winfried Sedhoff)، ويُحدِّثنا فيه عن أهمية الصداقة في إيجاد السعادة.

ليس من الحكمة أن تعزل نفسك اثني عشر شهراً تقضيها في تأمُّل نفسك ومواجهة أسوأ آلامك ومخاوفك، ومحاولة البحث عن تفسيرات لها قد لا تكون موجودة حتَّى، ومع ذلك لو لم أقم بهذه المقامرة لما فهمت اليوم كم أنَّ الصداقة ضرورة حتمية لتحسين جودة حياتنا وبدء تغيير إيجابي قد يشمل العالم بأسره.

بداية القصة:

اسمحوا لي قبل أن أقصَّ حكايتي عليكم لإيضاح أنَّ ما فعلته قد فعلته بدافع الضرورة.

كنت شاباً ساذجاً في الرابعة والعشرين من عمري، وقد دخلت توَّاً برنامج تدريب طبِّيٍّ متخصِّصٍ وأمامي مستقبلٌ واعدٌ، ومع ذلك كنت أخوض حرباً تستنزفني عاطفياً بين قراري دخول هذا المجال ورغبتي الملحة في الابتعاد عنه، وكنت أعلم أنَّني إن قررت البقاء فسوف أعاني سنوات من البؤس، ولم أختر الطب لأنَّني أردت ذلك، ولم أكن أعرف نفسي حقَّ المعرفة، ناهيك عن معرفة ماذا أريد؛ ففكرت حقاً في وضع حدٍّ لمعاناتي هذه.

كانت هذه لحظة الذروة لسنين من الاكتئاب تعرَّضت فيها للنبذ، والتنمر، والأذى النفسي، وكان أشدُّها في سنوات دراستي الثانوية، وفي محاولةٍ للتغلُّب على معاناتي بدأت بقراءة كتبٍ خارجة عن المألوف، وبدأت أؤمن أنَّ المعاناة سبيل للتطهُّر من خطايانا؛ كي لا يتحتم علينا الدخول مجدداً إلى عالم البؤس الخالي من أيِّ روح، وكنت أؤمن أيضاً أنَّ على كلٍّ منَّا معرفة خبايا نفسه كلها وفهمها؛ لنصل جميعاً إلى الحقيقة التي من شأنها تحريرنا من أيَّة قيود.

كانت خياراتي واضحة؛ إمَّا أن أنهي كل شيء أو أن أتابع حياتي بائساً أو أن أتابع رحلتي في النهاية للعثور على ما كنت أعلم غريزيَّاً أنَّه سيمنحني الخلاص، وقد عزمت أن أجد غايتي مهما كلَّف الأمر، وكنت مستعداً لإنهاء كل شيء؛ إذ بكل الأحوال ليس لديَّ ما أخسره؛ لذلك بعد أن استقلت من التدريب الطبي، وعشت على ما ادخرته من نقود جلست على سرير شقتي المستأجرة في سيدني لمدة عام تقريباً، ولم أغامر بالخروج إلا مرتين في الأسبوع للتسوق.

شاهد بالفيديو: صفات الصديق الحقيقي

الخوف من المجهول:

أذكر هطول الأمطار بغزارة خلال تلك الأشهر الأولى، ويوماً بعد يوم أغمضت عينيَّ وأجبرت نفسي على التبحُّر أعمق كل مرة، والإحساس بما هو أبعد من الواقع الملموس، ولكن سرعان ما تعترض طريقي أسوأ مخاوفي وأشد آلامي العاطفية.

بكيت عدة أيامٍ من الحزن الذي وجدته في صدماتي الشخصية وخيبات الأمل التي تعرضت لها، وشعرت أنَّ جميعها أمور غير عادلة على الإطلاق، في نهاية المطاف تخطيت كثيراً من الألم ولكن ليس المخاوف.

لقد نشأت في عائلة متدينة ومؤمناً بكثير من الشرور، وقد قُدِّمت كلها لمواجهتي، وقد كنت أخشى التعرُّض للعنة، والألم، والمعاناة عقاباً على أخطائي، واحتمال أنَّني قد لا أموت فحسب؛ بل إنَّ روحي لن ترقد بسلام، ولن يكون لي وجودٌ بعد ذلك.

حسناً، فليكن ذلك قلت لهذه المخاوف: "افعلي أفضل ما بوسعك لإخافتي"، وتركت الخوف يحيطني بالكامل بأسوأ ما يحمل من احتمالات واردة، عندئذٍ وبصورة لا تُصدَّق بدلاً من الانهيار أو أن أتعذب بشدة، تلاشت مخاوفي، والأفضل من ذلك استطعت أن أرى من أين تشكلت تلك المخاوف؛ إذ تمكَّنت حينها من استكشاف أعماق المشاعر، وما هي المخاوف والأسباب الأخرى خلفها، والطبقات والأعماق التي تكمن خلفها.

في حين كنت في رحلة استكشافي أدركت أيضاً أنَّ الشر ليس شراً على الإطلاق؛ بل فكرة نتلقَّنها؛ إذ إنَّه اسم أطلقناه تعبيراً عن المخاوف والتعاسة الناجمة عن الأحداث التي تهدد إنسانيتنا، ومن ثمَّ فإنَّ الأشرار أو قوى الشر هم فقط الذين يقتلون أو يعذبون عمداً دون سبب واضح.

أيَّاً كان ما قد يهدد جوهر هويَّتنا فإنَّنا نُعِدُّه "شريراً"، في حين يكون في نهاية المطاف أقرب إلى نتيجة يمكن التنبؤ بها ناجمة عن أحداث وأسباب نستطيع تحديدها.

تابعت رحلتي، وكانت تغمرني سعادة كبيرة في بعض الأحيان، وشعورٌ بمزيد من الوعي والبصيرة؛ لكنَّني تعلَّمت في وقت باكر أنَّ المشاعر الجميلة ما هي إلا خداع لا يجب التوقف عند الوصول إليه؛ فهذه ليست الغاية من وجودنا؛ لذلك واصلت الغوص أعمق من ذلك.

إدراك الحقيقة:

في نهاية المطاف استطعت التمسك بشعوري بشيءٍ من الوعي حيال كلِّ شيء من حولي، وبانعدام كلِّ شيء أيضاً، ويبدو أنَّ الاثنين مترابطان، وبدا لي أنَّ العيش في غمرة من الشعور طوال الوقت أمر مشابه لعدم الشعور بأيِّ شيء على الإطلاق؛ لذا حاولت معرفة ما إذا كان بإمكاني تفادي الإحساس بأيِّ شيء، وأن أكون نكرةً بدافع الفضول، وعندما بدأت بالغوص إلى ما هو أبعد من الشعور، وحتى الأفكار لاحت لي فكرة فجأة؛ حسناً، لنفترض أنَّني أصبحت نكرةً، حينها لن أكون موجوداً، وإن كان هذا صحيحاً فما هي الفائدة من القيام بأي من هذا؟

عندها بدأت أعي خطوات تشكُّل الوعي، وكيف أنَّ الوعي بطبيعته ما هو إلا إبصار الأمور من منظور مشوَّه، ومن دون وجهة نظر مشوَّهة لا نلحظ أيَّ شيء، ثمَّ بدأت أرى تشوهات وجهة النظر الإنسانية الاستثنائية، وكيف نعلِّق المشاعر والمعنى على كل الأشياء، وكيف أنَّ حواسنا مضبوطة لتلاحظ فقط ما هو ذو صلة بنا في الطبيعة؛ على سبيل المثال نرى الضوء المرئي بدلاً من الأشعة تحت الحمراء (كما تفعل القطط)؛ لأنَّه كل ما نحتاجه للبقاء على قيد الحياة في الطبيعة، ونحن نسمع ونشم ونلمس ونتذوق بالطريقة التي نفعل؛ لأنَّها تناسب مَن نحن في هذا العالم، ونختلق تأويلات وتفسيرات بناءً على ما هو ذو صلة بنا، وقد يؤثر فينا.

لماذا نحاول فهم النجوم؟ ليس لأنَّها جميلة فحسب؛ بل لاحتمال أن يكون هناك شيء قد يؤذينا، شيء نحتاج إلى الانتباه إليه حيالها.

حينها تشكَّل لدي نوع جديد من التقدير للمعجزة المميزة في كوني إنساناً، واستمررت بالاستكشاف وطرح الأسئلة ومحاولة أن أفهم عملياً ماذا يعني أن نكون بشراً، وطوال رحلتي تساءلت عما إذا كان لدينا بعض المشاعر الأعمق التي تشكِّل حجر الأساس لتفسير كل ما نشعر به، مثل الألوان الأساسية الأحمر والأزرق والأصفر التي عند مزجها بكميات مختلفة تشكِّل كل لون نراه.

ظننت أنَّ قدرتنا على فهم مشاعرنا ستمكننا من العثور على ما نحتاج إليه لنخوض أعظم التجارب وأكثرها إرضاءً.

الخوف مقابل الرغبة:

سرعان ما تمكنت من عزل مجموعتين من المشاعر؛ وهما الخوف والرغبة، لقد رأيت في البداية أنَّ مهمة المخاوف في كثير من الأحيان هي منعنا من إلحاق الضرر، وهو حالة من "التجنُّب" في معظم الأحيان؛ أي إن كنت أخاف العناكب فسوف أتجنبها؛ لكنَّ هذا لم يحفزنا على القيام بما هو ضروري للبقاء على قيد الحياة، أو بمعنى آخر لنكون بشراً.

هنا يأتي دور الرغبات؛ فالرغبات هي وسائل تدفعنا إلى تناول الطعام والشراب والنوم والحب وما إلى ذلك، وهي مرتبطة بالدوافع التي تضمن قيامنا بالحد الأدنى من الأشياء اللازمة للبقاء على قيد الحياة.

بعد سنوات عدة من عودتي إلى الطب بصفتي طبيباً عاماً كنت أصقل هذه المفهومات وأضع برامج علاجية عملية لمساعدة المرضى على التغلب على الاكتئاب والوقاية منه، وإتقان معاملة اضطراباتهم ومخاوفهم بطريقة أفضل؛ كانت هذه هي لحظة ظهور الرغبات الاجتماعية العشر التي قدَّمت لي مفهوماً جديداً كلياً عما تمثله الصداقة وعن عواقب إهمالها، وكشفت لي في الوقت نفسه عن حقدٍ لم يكن لدي أدنى فكرة عن وجوده.

إنَّ رؤية أفعالنا من حيث الرغبات خلفها ساعدتني على الكشف عن سوء تكيفنا مع اكتشافنا الزراعة بطرائق مأساوية ومدمِّرة.

لآلاف السنين كان البشر يجوبون العالم في جماعات تصطاد وتجمع الثمار، فقد وجدنا السلامة والأمن في التجمعات؛ إذ إنَّ وجودنا ضمن مجموعة من أبناء جنسنا يمكِّننا من حماية بعضنا والشعور بالأمان، واكتشفنا أيضاً الأمان في وجود ما يكفي من الطعام للجميع؛ إذ نستطيع جمع المزيد منه بسهولة أكبر حين نكون في مجموعة.

كانت الصداقة هي ما أبقانا معاً آمنين ومأمونين، أو على نحو أكثر تحديداً تلبية رغبات بعضنا بعضاً في تكوين الصداقات، وهي الرغبات التي أدركتُ لاحقاً أنَّ ثمَّة عشراً منها، وهي عملية وسهلة الاستخدام.

كما قال الفيلسوف اليوناني أبيقور (Epicurus) يوماً : "من بين كل الأشياء التي تمدُّنا الحكمة بها لنكون سعداء تماماً يبقى الشيء الأهم على الإطلاق هو امتلاك الصداقة".

شاهد بالفيديو: 12 أمراً يساعدك في التغلب على الخوف

الزراعة وتضاؤل دور الصديق:

عندما اكتشفنا الزراعة وأصبحنا مزارعين بدأت ثلاث رغبات جديدة بالترسُّخ إلى جانب رغبات الصداقة، فنحن نحقق بصفتنا مزارعين الأمن الغذائي من خلال زراعة ما يفيض عن حاجتنا الحالية؛ كي نضمن وجود الطعام في حال أتت مواسم سيئة، ومن حيث الرغبات تُعدُّ هذه رغبةً في الثروة، رغبة بالكاد كنا نعرفها عندما اعتدنا الصيد وجمع الثمار؛ فمن سيحمل طعاماً يستمر لموسم كامل إن كنا نستطيع العثور عليه في الطريق؟

مع الرغبة في الثروة تأتي الرغبة في المكانة والسلطة، فلا نمانع حصول الأشخاص ذوي المكانة الهامة لمجتمعنا على المزيد من الطعام؛ ما يساعد على ضمان بقائهم على قيد الحياة، وإن لم يكن لدينا مكانة هامة فيمكننا دائماً شراء النفوذ، أو ابتكاره بالتهديد وفرض السلطة.

كوَّن اكتشاف الزراعة لدينا رغباتٍ شديدة بالثروة والسلطة والمكانة، وغالباً ما اتسمت هذه الرغبات بالجشع، وتقمع رغباتٌ كهذه رغبات الصداقة، فكلما عَظُمت رغباتنا في الثروة والسلطة قلَّت رغبتنا في الحصول على أصدقاء حقيقيين؛ إذ إنَّ الأصدقاء يتشاركون، والمشاركة من شأنها أن تهدد ثروتنا وقوتنا؛ لذا من الأفضل أن يكون لدينا مواطنون أو حلفاء نستطيع التخلي عنهم عندما يعجزون عن مساعدتنا في بناء ثروتنا وقوتنا، ويمكننا أن نسميهم أصدقاء؛ لكنَّهم ليسوا كذلك حقاً، وليس بالمعنى الذي كان يعنيه البشر الصيادون وجامعو الثمار.

بعد تعلمي هذا كله قررت مشاركة هذه الأفكار في كتاب؛ لأساعد الآخرين على ملاحظة الضرر الجسيم الذي تتسبب به قراراتنا الصغيرة اليومية بالسعي خلف رغباتنا بالثروة والسلطة والمكانة أكثر من رغباتنا في الصداقة، وكم من الخراب يجلب إلى عالمنا وحياتنا، وكيف كانت هذه الأولوية تدمِّر المجتمعات والأُسر والعلاقات، وتؤدي إلى الحروب، والأضرار البيئية، والظلم الرهيب الذي تولده هيمنة الجشع، ولتقديم خطوات بسيطة يمكن لكل منا اتخاذها كل يوم لتغيير هذا الواقع والإنصات لنداء الطبيعة بأن نكون أصدقاء.

إقرأ أيضاً: أهمية الصداقة وأهم الوسائل لتكوين صداقات ناجحة

خلاصة التفكير:

البشر ليسوا كائنات بيولوجية تتصرف بغريزة عشوائية، نحن لا نفعل الأشياء دون سبب؛ بل نتفاعل بطرائق يمكن التنبؤ بها، كما أنَّنا لسنا عبيداً لأهواء كائنات أخرى متفوقة، نحن نمتلك رغبات نعرفها ونفهمها تسوقنا ونسعى إلى تلبيتها يومياً، وبتلبيتها نجد القدرة على عيش حياة مسالمة وهانئة وذات معنى.

لقد نشأت على الإيمان بأنَّ الدراسة والحياة المهنية تأخذ الأولوية دائماً، لم أتعلم كيف أكتسب الأصدقاء ومدى أهمية ذلك، وهذا ما حرضني على الانطلاق في رحلتي تلك التي لا أوصي أحداً آخر بالقيام بها، إنَّها ليست فقط الصدمة العاطفية التي لا أتمناها لأي شخص؛ بل أيضاً خطر القيام برحلة داخل أذهاننا؛ إذ يمكن لهذا أن يودي بنا إلى فقدان بوصلتنا وصعوبة تمييز حقيقة الأشياء من عدمها، وهذه بالتأكيد مخاطر كبيرة.

لقد مرَّ أكثر من ثلاثين عاماً منذ أن قررت الغوص في خبايا نفسي، فلم أعد أعاني الاكتئاب، ومنذ استكشافي للصداقة ودورها في حياتنا وكيف لها أن تؤثر في الصعيد العالمي، أصبحت أؤمن بوجود أملٍ جديدٍ للبشرية والعالم أجمع.

مع هيمنة الجشع وعدم المساواة والوحدة والحزن العام وعدم الرضى على حياتنا أصبح من السهل الشعور بأنَّه ما من مخرجٍ لهذا الواقع المزري، ولا يوجد ما يمكننا القيام به لإحداث فرق حقيقي، لقد علمتني دراسة مفهوم الصداقة أنَّ لكل منا قدرة على إلهام العالم نحو إحداث تغيير إيجابي أكبر ممَّا قد نتخيل.

إقرأ أيضاً: ما هي فلسفة السعادة البسيطة عند أبيقور؟

في الختام:

أنا لا أدعي معرفة كل شيء، ما أود القيام به هو مساعدة الأشخاص التوَّاقين لاكتشاف وعيٍ أكبر عن الصلة بين مشاعرنا وتأثيرها في أفعالنا والعكس في محاولة لتحمُّل مسؤولية سعادتنا وحال عالمنا، علَّ ما كاد يقتلني يقدر على مساعدة الآخرين في عيش حياة أفضل ولو بقدر صغير.




مقالات مرتبطة