الصحافة الاستقصائية: مفهومها وتاريخها وخصائصها وعناصرها

تمنح السلطة المسؤولين حصانة واسعة، الأمر الذي يجعل ضعاف النفوس منهم يعيثون فساداً في مواقعهم، فيخفون ما لا يجب أن يخفى، ومن أجل معرفة كل ما هو خفي بقصد أو بغير قصد، كانت الصحافة الاستقصائية التي تولت مهمة رفع النقاب وكشف المستور عن كل ما من حق الشعب أن يعرفه، وكل ما يجب للشعب أن يعرفه عن صنائع كل متنفذ في موقع السلطة.



الصحافة الاستقصائية جزء من منظومة الإعلام - ولو أنَّها اتخذت خطاً منفصلاً - إلا أنَّ أهدافهما واحدة في تعرية الحقائق وتحليلها في جو من حرية التعبير، وعلى الرغم من حداثة هذا المفهوم، إلا أنَّه شائع في الغرب، بينما ما تزال محاولات نبوغه خجولة في وطننا العربي، ومن أجل التعريف بهذه النقلة النوعية في الإعلام، نفرد هذا المقال للحديث عن الصحافة الاستقصائية ومفهومها وتاريخها، والتعريف بخصائصها وعناصرها.

مفهوم الصحافة الاستقصائية (Investigative Journalism):

عرَّفت اليونيسكو مفهوم الصحافة الاستقصائية (Investigative Journalism) أو صحافة الاستقصاء أو العمق على أنَّها كشف المستور من الأمور التي يخفيها من هم في مواقع السلطة خلف جدار عالٍ من الظروف والحقائق، سواء كانت عملية الإخفاء مقصودة أم غير مقصودة، وتفنيد الحقائق المخفية وتحليلها، ومن ثم تقديمها للجمهور لتلبي بذلك أهداف الدور الإعلامي والصحفي السامي في تطوير الإعلام والتعبير بحرية.

Press concept

تاريخ الصحافة الاستقصائية:

في الحديث عن تاريخ الصحافة الاستقصائية يُنسب ابتكارها إلى الأمريكيين؛ إذ ظهرت أولى بوادرها عام 1690 في "بوسطن" من قِبل المحرر الأمريكي "بنيامين هاريس" الذي أصدر صحيفة (Public Occurrences)، والذي اشتهر بإيمانه بفصل الكنيسة عن الدولة وعدائه للعائلة المالكة البريطانية المتحالفة مع الكنيسة، والتي سجنته ليفرَّ بعدها إلى المستعمرات الأمريكية ويعيد إصدار الصحفية، وتغلق بعد أربعة أيام فقط من إصدار عددها الأول والأخير الذي فضح فيه مذبحة "شينيكتادي" التي قامت فيها قبائل "الهورون" الهندوأمريكية بتنفيذ أوامر الحلفاء الفرنسيين باجتياح البلدة الإنجليزية وذبح سكانها.

نذكر أنَّ في أربعينيات القرن التاسع عشر عرف هذا النوع في الصحافة البريطانية، وتصاعد اهتمام الصحفيين البريطانيين في نشر الموضوعات التي تجتذب اهتمام الجمهور وتستقطب متابعتهم من فضائح جنسية وعمليات اغتصاب، وكان إقبال الجمهور عظيماً في تلك الحقبة، كون الصحافة كانت هي المنبر الوحيد للأخبار والمصدر الأساسي لها، ثم ظهرت الصفحة الاستقصائية في الولايات المتحدة الأمريكية التي تطلبت تعقيدات المجتمع فيها وإشكالياته الكثيرة ظهور هذا النوع من الإعلام.

انتعشت الصحافة الاستقصائية في أمريكا انتعاشاً ملحوظاً في سبعينيات القرن العشرين، ويُرد ذلك إلى مجموعة من الأسباب أهمها الدعم المالي لقطاعات الصحافة في السبعينيات؛ إذ تم تخصيص صندوق مستقل نجح في تمويل أكثر من 60 مشروع تغطية استقصائية ما بين عامي 1971 و1973، وكانت النتيجة الكشف عن نشاطات مريبة مرتبطة بالنشاط السياسي والاقتصادي وفساد الحكومة.

في عام 1976 أُسِّس ما يسمى اتحاد المندوبين والمحررين الاستقصائيين (Investigative Reporters and Editors) واختصاراً (IRE)، وهو عبارة عن جماعة صحفية غير ربحية، هدفها تنمية الصحافة الاستقصائية والتشجيع عليها، ولا بد من الإشارة إلى أنَّ ملفات الصحافة الاستقصائية وما فيها من اطلاع على ما جهد المتنفذون في إخفائه من ملفات فضائحية وفساد من شأنه أن يعرِّض الصحفيين للخطر.

سُجِّل اغتيال 15 صحفياً بسبب أعمال الاستقصاء حتى عام 2001، وهذا يشرح خطورة هذا النوع من الصحافة، على الرغم من تصارع كبرى المؤسسات الإعلامية من أجل تجييش فريق مميز من المحررين الاستقصائيين.

إقرأ أيضاً: أهمية وسائل الإعلام وأنواعها

أهمية الصحافة الاستقصائية:

تظهر أهمية الصحافة الاستقصائية من خلال النقاط الآتية:

  1. الكشف عن المستور من الحقائق والمعلومات التي تسعى جهات نافذة في المجتمع إلى إخفائها وتمويهها عن الرأي العام.
  2. توجيه الأنظار نحو مواطن الخلل في الأنظمة المجتمعية، أو الفشل في بنيوية النظام العام، والكشف عن الحقائق والقضايا التي ترتبط بشكل أو بآخر بأنظمة المجتمع.
  3. البحث الأصيل والمتعمق في القضايا والمبني على المبادرة الفردية والجهد الذاتي المقدم من قِبل المحرر، بعيداً عن الملفات التي تمنحها الحكومات في إنجاز ملفات العمل الاستقصائي وتحليل بياناته.
  4. تقديم قواعد وأسس علمية ومهنية في منهجيات البحث والتحري والتحقق من المعلومات، والتركيز على سبر واختبار كل فرضية من الفرضيات المقدمة.
  5. التركيز على المعالجة العميقة لجميع المعلومات الواردة، وسبر ارتباطاتها وأبعادها التاريخية والاجتماعية والنفسية والثقافية.
  6. أداء دور الرقابة على جميع المؤسسات العامة، وتسليط الضوء على أداء الشخصيات العامة والمسؤولين في مواقع السلطة.
  7. خدمة المصلحة العامة عن طريق فرض المساءلة النقدية، وتحديد المسؤول عن السلوكات غير السليمة وغير القانونية.
  8. تحفيز السلطات على القيام بعمليات التغيير والإصلاح، ونشر المعلومات التي تم الوصول إليها بالاستقصاء على الملأ من أجل إثارة الرأي العام، وتشكيل أوراق ضغط على الحكومات في حال حاولت تجاهل الحقائق.

خصائص الصحافة الاستقصائية:

فيما يأتي مجموعة من خصائص الصحافة الاستقصائية:

1. مواكبة التطور التكنولوجي:

من خصائص الصحافة الاستقصائية التي تخدم دورها في الوصول إلى الحقائق بدقة وتحليلها نذكر ملاحقتها للتطور التكنولوجي؛ وذلك لما لهذا التطور من تأثيرات إيجابية في عملية جمع المعلومات واللقاءات وإجراء الاستبيانات والتقاط الصور الاحترافية والدقيقة، إضافة إلى التسجيلات الصوتية.

شاهد بالفديو: 6 طرق للتواصل الذكي على السوشيال ميديا

2. المنافسة الشديدة بين القنوات الإخبارية:

من خصائص الصحافة الاستقصائية وجود جو سائد من المنافسة بين القنوات الإخبارية الذي يفرض على الصحفيين الاستقصائيين تنويعاً في طرائق إخراج المضامين الصحفية عن طريق استخدام القوالب السردية المختلفة والأكثر تداولاً وجذباً، كالتقرير الإخباري الذي يختلف شكله تبعاً لاختلاف القناة، والخبر.

3. التميز عن الإعلام الجديد:

في عصرنا هذا عصر وسائل التواصل الاجتماعي أصبح كل من يحمل هاتفاً ذكياً حديثاً يقوم بدور الصحفي ويضخ الأخبار والصور على الصفحات، وهذا ما يسمى بالإعلام الجديد الذي يقدم إعلام ما وراء الخبر، ولكنَّ خصائص الصحافة الاستقصائية تكمن في تميزها عن هذا النوع من الإعلام بتحقيقاتها الصحفية المهنية والأخلاقية.

4. الضخ المعلوماتي الكبير:

من خصائص الصحافة الاستقصائية أنَّها ترفد المتلقي بكميات هائلة من المعلومات التي يجب أن تكون منطقية ومترابطة ومثيرة للفضول وقابلة للفهم من قِبل القراء، إضافة إلى وجوب كونها مواكبة للظروف والأحداث.

5. الاتجاه نحو الجمهور العريض:

في الوقت الذي بدأت فيه القنوات التلفزيونية بالتوجه في برامجها نحو نخبة كل جمهور - المقصود بالنخبة أي الفئة التي تملك أساساً معرفياً في مجال المادة الإعلامية - سواء كانت المادة اقتصادية أم سياسية أم علمية، تخدم خصائص الصحافة الاستقصائية وصول موادها إلى أوسع شريحة ممكنة عن طريق تبسيط المعلومات والحقائق التي تطرحها وإرفاقها بكل ما يسهل فهمها من قِبل الجمهور ويلفت أنظارهم من تقنيات مرئية ومسموعة ومقروءة.

مقومات وعناصر الصحافة الاستقصائية:

ترتكز الصحافة الاستقصائية على مجموعة من المقومات، التي تشكل في تآلفها عناصر الصحافة الاستقصائية، وهي:

1. إعداد التقارير الصحفية الاستقصائية بمهنية وعمق:

التقارير الصحفية هي من أهم عناصر الصحافة الاستقصائية، ولكنَّ هذا النوع من الإعلام يتوخى الحرفية والمهنية والمصداقية والتعمق، فالصحفي لا يعتمد على موارد سطحية يكتب منها تقريره؛ بل يتتبع خيوط الحقائق ليعرف جذورها، ويستطلع الآراء ويُجري الاستبيانات ويأخذ الإفادات ويصور الإحداثيات ويوضح المسببات، وهذا ما يجعل إنجاز تقرير واحد يستغرق وقتاً طويلاً، ليخرج مبتكراً وأصيلاً كما هو واجب وضروري.

2. وضع نظرية فرضية:

من أهم عناصر الصحافة الاستقصائية، الفرضية التي يضعها الصحفي نصب عينيه ويبدأ برحلة البحث عن المعلومات والحقائق التي تثبت صحتها وتدعمها، ويُعَدُّ هذا الجزء من أصعب جزئيات الصحافة الاستقصائية؛ وذلك لأنَّه في حال اكتشاف معلومة تدحض الفرضية، يجب على الصحفي وضع فرضية جديدة والبدء بالاستقصاء عن صحتها، تماماً كما يفعل المحققون البوليسيون.

إقرأ أيضاً: الآثار الإيجابية لوسائل الإعلام في المجتمع

3. تحليل الوثائق والمستندات والبيانات العامة:

تُعَدُّ عملية التحليل من أهم مقومات وعناصر الصحافة الاستقصائية، كون الصحفي الاستقصائي يطلع على الكثير من الوثائق والمستندات التي تتعلق بالأشخاص أو طرائق تمويل المؤسسات، وهذا يجعل التفكير التحليلي في حالة استخدام دائم لديه، ليتمكن من تفنيد العقود والاتفاقيات وتتبع المسارات التي تؤدي إليها كل وثيقة أو كل معلومة في الوثيقة.

4. كشف المعلومات التي تخص المصلحة العامة سواء كانت سرية أم مخفية:

من أهم عناصر الصحافة الاستقصائية الالتزام بكشف ما هو غامض من المعلومات التي تتعلق بالمصلحة العامة، حتى لو كانت مخفية أو سرية، كون الهدف من الصحافة الاستقصائية هو إظهار الحقيقة وكشفها للعامة، وخاصةً ما يتعلق باستغلال المسؤولين لسلطتهم في المجتمع وموقعهم وحصاناتهم، وغيره مما يحاول المسؤولون إخفاءه.

5. صب الجهود في مصلحة العدالة والمسؤولية الاجتماعية:

من عناصر الصحافة الاستقصائية جعل مصلحة الجماعة والمسؤولية الاجتماعية في قائمة أولوياتها؛ لذا فإنَّ الصحفيين الاستقصائيين لا يترددون في نبش الملفات المتعلقة بفساد الشركات والمؤسسات والأفراد من أجل تصحيح أخطائهم أو محاسبتهم من قِبل المتخصصين وعرض قضاياهم على الرأي العام.

في الختام:

الصحافة الاستقصائية هي خط خطر من خطوط الإعلام يوجه جهوده إلى القضايا الحساسة التي تمس المجتمع وخاصةً ملفات الفساد المرتبطة بالمسؤولين ومن هم في موقع سلطة ويستغلون مناصبهم من أجل مصالحهم وتمرير صفقاتهم، وإنَّ الجرأة والصراحة والسعي وراء الحقيقة في هذه الملفات الشائكة هي من أهم مبادئ الصحافة الاستقصائية، وهذا الأمر يجعل مهنة الصحفي الاستقصائي مهنة خطرة تهدد حياته ويمكن أن تنهيها.




مقالات مرتبطة