الذاكرة الجمعية للموسيقيين

تخضع الموسيقى للمجتمع، كما نخضع نحن له؛ لكنَّ خضوع الموسيقى يكون مختلفاً، وتحديداً من خلال الذاكرة، فلا تنفك الموسيقى عن المجتمع؛ بل ترتبط به ارتباطاً وثيقاً، ويشكِّل هذا الارتباط الأرضية الخصبة التي يستنبط منها الموسيقيون مقطوعاتهم الموسيقية، فحتى لو أصاب بعض الموسيقيين ضررٌ في حاسة السمع، فإنَّ الموسيقيَّ من خلال الذاكرة يستطيع تأليف الأعمال الموسيقية، ومثال ذلك بيتهوفن، الذي أنتج أعماله الأجمل وهو مصاب بالصمم.



لقد أثار ذلك الجدل الكثير حول طبيعة المنهَل الذي تُستقى منه الموسيقى، هل هو عالم خارجي عنا نحن البشر، عالم بعيد عما تسمع الأذن، أم أنَّ الموسيقى موجودة في عالم داخلي يوجد في كل منا، وما إن نصل إلى المجموعات الصوتية الساكنة داخلنا حتى نبدع في التأليف الموسيقي؟

بتهوفن أثار جدلاً كبيراً، وطُرحت أسئلة كثيرة حوله بالتحديد، فهل كان يعيش على ذاكرته الموسيقية أم أنَّه كان رهين عالمه الداخلي؟ يجاوب موريس هالبواش في كتابه الذاكرة الجمعية أنَّ "بتهوفن كان يحتفظ بالرموز الموسيقية؛ أي المدونات التي تجمع الأصوات الموسيقية على شكل إشارات ورموز يتقنها جيداً معشر الموسيقيين؛ لكنَّه لم يكن هو من اخترعها بنفسه؛ بل كانت هذه المجموعات والرموز هي لغة الجماعة؛ أي بتعبير آخر هي الذاكرة الجمعية للموسيقيين.

بعيداً عن العظماء في الموسيقى، لنذهب إلى أيِّ فرد عادي في المجتمع، فإنَّه لن يستطيع أن يستخلص من نفسه موضوعاً موسيقياً جديداً أو غير مسموع من قبل، أو ترتيباً موسيقياً من التقطيعات الموسيقية والتناغمات اللحنية لم يسمعها من الخارج؛ أي أن يكتشف أصواتاً من العدم؛ لذلك لا بدَّ من وجود ذاكرة جماعية موسيقية لكي يستطيع الفرد أن يأخذ منها المجموعات الصوتية، وإنَّ هذه المجموعات الصوتية التي تشكل الذاكرة لا يكتشفها، ولا يكون معيناً بتوضيح ملامحها وثباتها، إلا معشر الموسيقيين الذين يملكون المدونات والقدرة على السماع المركز.

كيف نفهم الصوت؟

في أثناء القيام بأيِّ عمل أو حتى في أثناء الجلوس والتركيز، فإنَّنا عندما نسمع  أي كلمة مهما كانت تركيبتها الصوتية أو اللغوية، فإنَّنا نميزها عن أيِّ صوت آخر سمعناه في السابق، سواء أكان هذا الصوت طبيعياً؛ أي عندما نتلقاه بوصفه مفردة لغوية لا تحمل تقطيعاً لحنياً موسيقياً، أم إن كانت جملة موسيقية صرفة لا تحمل حروفاً لغوية متفق عليها من قبل الجماعة، وهنا ندرك أنَّ الصوت الطبيعي الذي نسمعه الآن يرتبط دائماً بنموذج خارجي خارج أنفسنا وعالمنا الداخلي، أمَّا عندما نسمع صوتاً موسيقياً صرفاً؛ أي عندما لا يكون كلمة لغوية مفهومة، فإنَّنا غالباً ما نستطيع تحديد نموذج خاص موجود في داخلنا عن طريق الذاكرة الجمعية الموسيقية التي نمتلكها لكي نفهمه.

على سبيل المثال عندما أسمع أصوات الضجيج من الخارج، فإنَّني أستطيع معرفة هذه الأصوات إن كانت صراخ طفل أو صوت وقع حوافر الخيول عندما تجري أو صوت مطرقة على صنبور مياه، فهذه الأصوات الطبيعية لا ترتبط بنموذج سمعي صرف؛ أي موسيقي يحمل مدونة موسيقية من العلامات والمجموعات الصوتية اللحنية،  كما أنَّني لن أبذل جهداً لمعرفتها وتحديد هويتها، فبمجرد أن أقوم بربطها بموضوعات أو أفكار مجردة عن المادة، أو بمجرد ربطها بالمناخ المجتمعي العام الذي أعرفه سابقاً، والذي يصدر من خلال مكوناته وأدواته أصوات تشبه هذه الأصوات التي سمعتها للتو، فإنَّني أحفظها وأحلِّل ماهيتها؛ أي أن أعود إلى مفاهيم ليست ذات طابع صوتي موسيقي صرف؛ فالصوت هو من يجعلنا نفكر بالموضوع؛ ومن ثَمَّ الموضوع نفسه هو من نعرف من خلاله الأصوات.

كما أنَّ الموضوع نادراً ما يكون واحداً؛ أي نادراً ما يكون ملخصاً في جزئية واحدة، ومثال ذلك: عندما أسمع صوت حوافر خيول أو تضارب سيوف، فإنَّني أستحضر من ذاكرتي الشيء المادي الذي هو السيف والخيل، وأربط الصوت بهما؛ ومن ثَمَّ أستحضر في ذاكرتي مشهداً من معركة تجري فيها الخيول ويتقاتل فيها الفرسان بالسيوف.

هذا الأمر أيضاً ينطبق على الأصوات البشرية، فنحن نستطيع أن نركز في صوت أحد من أقربائنا، وإن لم نكن نراه؛ لأنَّنا نستحضر ذكريات قديمة تتعلق بوجوده المادي، ومتلازماته الحركية والصوتية؛ ومن ثَمَّ نكون قد سمعنا الصوت من خلال الأذن، لكن تعرفنا على هويته من خلال الذاكرة، وأخيراً نحن نعرف الأصوات من خلال المفاهيم والأشياء والهيئات التي في داخلنا؛ أي نعرفها من خلال تصوراتنا عنها.

إقرأ أيضاً: كيف يحدث استرجاع الذاكرة طويلة الأمد؟

كيف نحفظ الأصوات الموسيقية؟

الاعتماد فقط على سماع الموسيقى دون القيام بربطها بمفاهيم وأشياء مادية ومعنوية مثل الأفكار والتخيلات والأشخاص بحد ذاتهم والمواقف، فإنَّ معظم العلامات الموسيقية والمجموعات الصوتية اللحنية التي نسمعها ستتلاشى بمجرد انتهاء المقطوعة أو الصوت الموسيقي الذي نسمعه.

يروي برليوز وهو مؤلف وناقد موسيقي فرنسي مشهور، بأنَّه في إحدى الليالي استطاع تأليف سيمفونية كاملة ووصفها بدايةً بأنَّها عمل موسيقي رائع بمجرد أن تخيلها في ذهنه، وبمجرد أن فكَّر بالقيام ببدء تدوينها على الورق لتصبح عملاً فنياً كاملاً؛ أي صوت وتدوين، بدأ التفكير بالصعوبات التي ستواجهه في بذل الوقت الذي يلزمه لعملية التدوين وصعوبات التسجيل فيما بعد، ولا سيما المال اللازم للعازفين.

بعد كل هذه الهواجس والصعوبات لم يستطع تذكُّر السيمفونية، لقد تلاشت العلامات الموسيقية الرائعة التي ألفها في ذهنه بمجرد أنَّه فكَّر في شيء آخر، وبمجرد أنَّه لم يربط الموسيقى خاصته بشيء يحفز ذاكرته على التذكر، مثل الأفكار والمفاهيم والموضوعات أو المدونات الموسيقية الجاهزة، فما بالك بالذين لم يتعلموا تدوين الموسيقى.

إذاً لا تسكن الأصوات الموسيقية في ذاكرتنا على شكل ذكريات سمعية؛ فهي بذلك تتلاشى بمجرد انتهائنا من السماع؛ لكنَّنا نكون قد تعلمنا ترديد مجموعة من الحركات الصوتية باستمرار، وبهذه الطريقة نتعرف إلى اللحن عندما نرجع إلى واحدة من تلك الترسيمات الفعالة، وإن كانت هذه المجموعات الصوتية موجودة في دماغنا؛ فهي تكون خارج وعينا؛ لذلك لا نكون قادرين على ترديد مجموعة الأصوات هذه إلا عندما يؤديها غيرنا تأدية متكاملة في لحظة بعينها.

شاهد بالفديو: 10 حقائق قد لاتعرفها عن العقل البشري

على الرَّغم من أنَّنا نعرف الأصوات عندما تكون في دماغنا، وفي الفضاء الصوتي أيضاً، لكن لا بدَّ من معرفة بعض التكنيكات التي تؤهلنا لكي نجعل من الموسيقى؛ أي الصوت الذي نسمعه صورةً وشكلاً بصرياً، وهنا نجد أنَّ بعض الناس يتذكر الموسيقى من خلال المفاهيم والتكرار، وبعضهم يتذكرها عن طريق المدونة الموسيقية المليئة بالرموز والترسيمات النموذجية السمعية.

من زاوية أخرى، وكمثال على إبحار الجميع في الذاكرة الجمعية، فإنَّ مجموعة العازفين الذين يؤدون مقطوعة موسيقية ضمن فرقة، تكون أعينهم تتابع مدوناتهم الموسيقية وأفكارهم وحركاتهم تتوافق مع بعضهم؛ لأنَّها نسخ متعددة للنموذج نفسه، لنفرض أنَّ لكل منهم ما يكفي من الذاكرة ليتمكن من العزف دون النظر في الصفحات المغطاة في الإشارات أو أنَّه يكفي النظر نظرة سريعة بين الفينة والأخرى، وإن لم تكن المدونات الموسيقية متاحة، فلن يغيِّر في الأمر شيئاً لأنَّ دور المدونات ستقتصر على القيام بدور تمثيلي فقط لاتفاق أفكارهم.

العازفون ومدوناتهم يشكلون مجموعاً، ويجب التأمل في هذا المجموع لتفسير حفظ الذكريات، والذكرى تتشكل قبل المدونات، وما على المدونات إلا التذكير  لأنَّ الموضوع الخارجي (المدونات) تختفي بمجرد بدء الذكرى، ومن هنا نستطيع القول إنَّ الدماغ يكفي للقيام بعملية استدعاء هذه الذكريات وتمييزها.

كيف نستذكر لحناً عندما لا نكون موسيقيين؟

قد يخطر في بالك أن تسأل هل لدينا ذاكرة جمعية كما الذاكرة الجمعية للموسيقيين، وإلا كيف نستذكر لحناً؟ للإجابة عن هذا السؤال دعونا نفكر في الحالة الأسهل والأكثر تكراراً بلا شك، فعندما نسمع لحناً يرافق الكلمات، نميز الأجزاء فيه على مقدار ما هناك من مقاطع للكلام أو من عناصر الجمل، ذلك لأنَّ الأصوات تبدو مرتبطة بالكلام التي تشكل موضوعات منفصلة، تؤدي الكلمات هنا دوراً نشيطاً وفعالاً، وفي الواقع نستطيع ترديد لحن غنائي دون الاهتمام بالكلمات؛ فاللحن الغنائي لا يذكرنا بالكلمات؛ ومن ثَمَّ يصعب علينا إعادة الكلمات التي ترافق اهتمامنا، لكن تكرار اللحن مع الكلمات يشكِّل نموذجاً، وينتج هذا النموذج عن العرف الاجتماعي الذي يعين لها معنى ودور، النموذج الذي يوجد دائماً خارجنا.

يؤدي الإيقاع دوراً هاماً في الحفظ فهو يقطِّع اللحن إلى مقاطع، وهو يذكرنا بالأصوات وبالكلمات في كثير من الأحيان على الرَّغم من أنَّه نقر ثابت المسافات، والإيقاع موجود في الطبيعة، ويستطيع شخص ما أن يكتشف وحده التقطيع الإيقاعي في الفضاء الصوتي؛ لكنَّ الإيقاع هو منتجٌ مجتمعيٌّ لا يمكن لشخص أن يخترعه؛ لذا نجد أنَّ أغاني العمل تتولَّد نتيجة تكرار منتظم للحركات نفسها.

إقرأ أيضاً: هل تزيد الموسيقى من إنتاجيتنا؟

في الختام:

الموسيقى في كل مكان، وإن اختلفت أشكالها في الحياة الاجتماعية وفي الطقوس المختلفة التي تمثل المناجاة أو الحزن أو الفرح، وأمثلتها كثيرة؛ فالأم تهدهد للطفل منذ نعومة أظفاره بالأغاني، ويعيد الطفل فيما بعد اللوازم الغنائية التي تُدندن أمامه، وتوجد أغانٍ للعب وأغانٍ للعمل؛ ومن ثَمَّ تدور الأغاني الشعبية في شوارع المدن الكبرى من لسان إلى لسان، أناشيد الباعة المتجولين، وغيرها ما يكون مفعماً بالألحان التي ترافق الرقصات.

من هنا نجد أنَّه ليس من الضروري أن يتعلم المرء الموسيقى ليكون قادراً على الاحتفاظ بذكرى الألحان والأغاني، ونجد أنَّ لا فرق بين الذي يمتلك ذاكرة من الأغاني، وبين عازف الموسيقى الذي يستطيع قراءتها، إلا القدرة على قراءة المدونة الموسيقية، ولو أنَّ الإنسان يستطيع حفظ الأغاني حفظاً مركزاً ويستطيع امتلاك ذاكرة مفعمة بالألحان والأغاني لقلنا إنَّه موسيقيٌّ صرف أو لسهُل عليه أن يكون موسيقياً إن أراد امتلاك مهارة التدوين وقراءة النوتة الموسيقية.




مقالات مرتبطة