الحياة ومقوماتها من القرآن الكريم

هل "المال" من صُنع البشر؟ وما هي صلته بالحياة؟ وكيف يجب أن تكون علاقتنا به؟

ورد "المال" في القرآن الكريم 86 مرة، وهو اسم جامع لما يملكه الإنسان، ولقد استخدمه القرآن الكريم اسماً مفرداً، وجمعاً، ومضافاً: "خُذْ من أموالهم صَدَقة"، وجَاءَ مَجازاً: "تأكلوا أموالكم"، كما دخلت عبارة القرآن الكريم "رؤوس أموالكم" مُعجم التجارة.



1. المال:

نُسِبَ "المال" إلى الله تعالى "وجَعَلتُ له مالاً ممدوداً"، كما نُسِبَ إلى البَشَر "أموالهم"، و"أموال اقترفتموها"، وقد ارتبط ذكره بإشارات إلى الفَخر: "أنا أكثر منك مَالاً"، والنفي: "ولا تُعْجِبك أموالهم وأولادهم"، والفِتنة: "ما أغنى عنه ماله وما كَسَب"، والجِهَاد: "تجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم"، والحُب: "وآتى المَالَ على حُبِّه".

لقد نَافَسَ "المال" في (الحُب) الأنفس، والأولاد، والأهلون، والآباء، والإخوان، والأزواج، والعَشيرة، والشهوات، والنساء، وتكرر منها الأولاد على اختلاف في الصيغة: الأولاد، والأبناء، والبَنين، مثل: "لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم"، و"ما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقرِّبكم عندنا"؛ إشارة لكونهم السبب الرئيس في كل علاقات المال بين الناس، فالأب يهتم بتوفير المال إلى أولاده، وقد لا ينظر في مصدر هذا المال، ولا طريقة اكتسابه.

صنَّفَ القرآن الكريم حال الناس مع "المال" إلى صِنفين: ناس في "سَعَة من المال"، وآخرون أصابهم "نقصاً من الأموال"، وفي العموم لقد فُطِرَ الإنسان على حبِّ المال: "وتُحبُّون المال حبَّاً جمَّاً" بأصنافه كلِّها: دينار، ودراهم، وذهب، وفضة، ووَرَق، والخَيل، والأنْعام، والحَرْث، وفي تعدد الأصناف إشارة إلى بعض علاقتنا بالمال كونه المنظِّم لحياتنا ومعاملاتنا من الجِزية، والإنْفاق، والدِّية، والخَرَاج، والرَّهن، والأجْر، والدَّين، والرِّبا، والقَرْض، كما ذكرها القرآن الكريم كلها.

المال له دورة حياة تبدأ بالإعْجَاب: "أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتيَّن مالاً وولداً"، ثمَّ الفَنَاء: "ربَّنا اطمِسْ على أموالهم"، ثمَّ التَّجْدِيد: "أنَّما نُمدُّهم به من مالٍ وبنين"، فلا خُلود لأيِّ مال، وما هو الآن معك كان مع غيرك، وسيؤول إلى غيرك أيضاً.

شاهد بالفيديو: فضل قراءة القرآن الكريم

2. الخَيْر:

الخير من الألفاظ المركزية في القرآن، ومن أكثر الألفاظ التي تحمل دلالات أخرى؛ حسب معنى الآية الكريمة، وقد ورد الخير 180 مرة، وكلها اسماً بالطبع مفرداً، واستُخدِم مع (ألـ): "وإنَّه لحُب الخير لشديد"، ودون (ألـ): "ذلكم خيرٌ لكم"، ولا علاقة للمعنى بذلك، وقد غلب على استخدامه معنى الأفضليَّة خصوصاً إذا التصق بالله تعالى: "وهو خير الرَّازقين"، وكذلك في: "وتزوَّدوا فإنَّ خير الزَّاد التَّقوى".

معنى الخير لغةً المَيل، وكذلك معنى الشر الذي يميل إليه الناس بطبعهم أكثر، ومعنى الخير ضد مَعنى الشر، وهما اسمان جامعان لعِدة معانٍ، ومتناقضان في المعنى، وغلَّب القرآن الكريم الخير على الشر: "فمن يعمل مثقال ذرَّة خيراً يَرَه".

إنَّ ما ستراه من الخير سأراه أنا كذلك، وما ستراه من الشر سأراه أنا كذلك، ولا يجوز أن يحمل أيُّ عمل دلالة الخير والشر معاً، إلا أن يكون مِن عمل المنافقين.

قِيل (خيرات) جمع (خير): "فيهنَّ خَيرات حِسان"، و"أولئك يسارعون في الخيرات" وتعددت دلالاتها، وقد لا تُحدِّد الآية معنى الخير: "وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ"؛ فهل تستطيع تعداد الخير هنا؟ الجواب: لا، وقد تحدده: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ"؛ فمعنى الخير مُحدد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله.

خرج الخير إلى مَعَانٍ عَديدة، ومن أكثرها المَال: "إنْ ترك خيراً"، و"لاستكثرتُ من الخير"، وخرج أيضاً إلى معنى:

1. الإيمان:

"ولو علم فيهم خيراً لأسمعهم".

2. الطعام:

"ربِّ إنِّي لما أنزلت إليَّ من خيرٍ فقير".

3. القوة:

"أهُمْ خير أم قوم تُبَّع".

4. الغنيمة:

"لم ينالوا خيراً".

5. العِبادة:

"أوحينا إليهم فعل الخيرات".

6. العافية:

"وإن يمسسك بخير".

7. حُسْن الحالة:

"إنِّي أراكم بخير".

8. التَّفضيل:

"أولئك هم خيرُ البرية".

9. القرآن:

"قيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيراً".

10. الخيل:

"إنِّي أحببت حبَّ الخير".

وغير ذلك فهو اسم جامع لكلِّ معنى تميل إليه النفس، ويستخدم في اللهجات العربيَّة كلِّها، وبهذا الإفراط من المعان، ولقد حاول المفسرون حصر معاني الخير، ولكن دون جدوى، فالخير اسم لأيِّ معنى يُفيدك ويحافظ عليك وعلى دينك وهَيبتك ومما يَرغب فيه النَاس ويرغِّبون إليه: "لا يسأم الإنسان من دعاء الخير"، ولك أن تُرجِّح ما تريد من هذا الخير.

شاهد بالفيديو: أحاديث الرسول محمد ﷺ عن الأخلاق

3. الإِرْث:

هل أدَّيت حقَّ الله تعالى في الإرث كما أدَّيته في الصَّلاة والصَّوم؟ هل فكَّرت بتوريث أبنائك لغير المال؟

إنَّ الإرث مصدر من الفعل (ورث) بمعنى أن يكون الشيء لقوم، ثم يصير إلى آخرين: "إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ"، ومن أسماء الله تعالى (الوارث): "وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ"، وسيوِّرثنا سبحانه الجنَّة: "تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا"، وهي فقط لـ "مَنْ كَانَ تَقِيَّاً" منهم.

الإرث له معنى واسع خرج عن المألوف من إرث المال إلى توريث الجاه: "وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا"، والعِلم والمهنة والعادات، فقد: "وَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ" في "مَنطِق الطَّيْرِ"، وتميل فطرة الإنسان إلى سرقة إرث المال: "وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَمَّاً"، وغريب أنَّها لا تسرق نوعاً آخر!

الإرث من وصايا الله تعالى: "يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ"، وأولادكم لا تعني الذكور؛ لأنَّ تكملة الآية: "لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ".

لقد وردت كلمة الإرث في القرآن الكريم 23 مرة، أكثرها في سورة النساء، وقلَّ ورودها لفظاً مباشراً: "وورثه أبواه"، و"أن ترثوا النساء"، عن غير المباشر: "ما ترك أزواجكم"، "ترك الوالدان"، و"القسمة"، و"حضر أحدكم الموت"، كما قلَّ ورودها لصالح حُكْم التَّوريث، عن معناها الأوسع "ورثوا"، و"يرثون"، و"أورثنا"، و"يورثها"، "أورثتموها"، وأكثر ورودها بصيغة الفعل؛ وذلك لأنَّه المقصود منها.

لقد كثرت الإشارات لتوريث فئات: "النساء"، و"أُولُو الْقُرْبَىٰ"، و"الْيَتَامَىٰ"، و"الْمَسَاكِينُ"، وعبَّر القرآن الكريم عن الإرث بالرزق: " فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ".

من أين جاءت فكرة الإرث؟ إنَّها ضد الاحتكار والحرمان وتشجِّع التَّشارك وتزيد الرَّحمة، ومن أين جاءت فكرة أنَّ (الإرث يفتِّت الثَّروات)؛ إنَّها وليدة تاريخ من عصر عبادة المال، وظنٌّ سيئ بالله تعالى، وأنَّ المال عصب الحياة، وأساس حركة الحياة، وغيرها من المصطلحات التي صنعناها بأنفسنا وصدَّقناها، وهي كذب.

لقد بدأ تاريخ الإرث بفكرة توريث الذَّكر - فقط - دون الأنثى؛ لأنَّه مَن يدافع عن القبيلة، وقد شمل الإرث كلَّ أملاك المُتوفَّى حتى امرأته وبناته، وهي حالة تشبه حالة حرمان توريث الأنثى الحديث.

لقد أنصف التَّشريع الأنثى؛ فورَّثها إن كانت أُمَّاً أو زوجةً أو بنتاً أو أختاً: "آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً"، وسمَّى إرث المرأة ومهرها: "مَا كُتِبَ لَهُنَّ"، وأمرنا بالمحافظة عليه: "لَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ"، وربط ذلك بالإيمان: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً".

إقرأ أيضاً: 6 آداب لقراءة وتلاوة القرآن الكريم

يرث الأزواج بعضهما، وقد سبق ذِكر إرث الزَّوج من زوجه: "وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ"، و"لَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ"، كما سبق إرث الرَّجل (الكلالة = دون ولد) على المرأة: "رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ "، وسبق إرث الرِّجال على النساء: "للرِّجَالِ نَصِيبٌ"، و"لِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ"، وسبق إرث الزوجة على إرث الأبوين: "فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ"، وسبق ذكر إرث الزوجات على الزوج الفرد: " فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ۖ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً".

إقرأ أيضاً: الإيمان بالله منبع السعادة والنجاح

لقد أُغلق باب الاجتهاد في توزيع إرث المال؛ لأنَّه مكان للظلم، ويتعدى ظلمه إلى أجيالٍ متتابعة، وتُقَطَّع لأجلِه الأرحام، وتُرتكَب بدافعه الجرائم، مهما أقنعتَ نفسك غير ذلك، وظننت أنَّ الورثة لا يعلمون؛ ولذلك خُتِمَت آيات الإرث كلها بـ: "إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً".

بقلم: د.عماد علي الخطيب




مقالات مرتبطة