التنويم الإيحائي: صورة ذهنية مُركّزة لحياتك المنشودة

يخضع الكثير منَّا لصدماتٍ نفسيةٍ قويةٍ أو لاضطراباتٍ نفسيةٍ قاسية، يُحسِن بعضنا التعامل والتكيُّف معها، وينجح في استنباط الرسائل الإيجابية الكامنة فيها، ومن ثمَّ يمضي قُدُماً في حياته بمنتهى القوة والعزيمة.



في حين يستسلم بعضنا الآخر لتلك الصدمات، سامحاً لها بالاستحواذ عليه وإرباكه وتشويشه؛ ممَّا يجعله فاقداً للسيطرة على حياته، وخاسراً لتوازنه الداخلي، وضعيف الثقة بنفسه والآخرين. وقد يصل به الحال إلى اللجوء إلى مستشارٍ نفسيٍّ علَّه يستطيع إعادة بعضٍ من القيمة والروح إلى حياته وسط عدم قدرته على التصدي للعقبات وحيداً. في هذه المرحلة، قد يستخدم المعالج النفسي الكثير من الوسائل العلاجية، ومن ضمنها تقنية التنويم الإيحائي -تُعرَف أيضاً بالتنويم المغناطيسي- التي تساعد المريض في التحكُّم بزمام أمور حياته من جديد.

فما هي تقنية التنويم الإيحائي؟ وما علاقتها بالعقل الباطني؟ وفي أيِّ الحالات تُستخدَم؟ هذا ما سنتعرَّف عليه من خلال هذا المقال.

ما هي تقنية التنويم الإيحائي؟

دعونا نتفق بدايةً على أنَّه يوجد لدينا عقلٌ واعٍ (ظاهري)، وعقلٌ لا واعٍ (باطني).

التنويم الإيحائي: شكلٌ من أشكال العلاج، يستخدم قوة الاقتراح لتشجيع التغيير الإيجابي في حياة الشخص، ويستخدم أخصائي العلاج بالتنويم الإيحائي تقنيات الاسترخاء لمساعدة الشخص في الوصول إلى حالةٍ يكون فيها الجزء الواعي من العقل مرتاحاً، ويكون الجزء اللا واعي أكثر انفتاحاً على الاقتراح؛ ومن ثمَّ يستخدم تقنية "الاقتراحات" أو "الرسائل"، بحيث يتحدَّث إلى اللا وعي الخاص بالشخص من أجل مساعدته في إحداث التغيير المرغوب.

ما الفارق بين العقل الواعي واللا واعي؟

أثبت العلماء والباحثون في دراسةٍ أعدَّها معهد (Max Black) لعلوم الدماغ، أنَّ قراراتنا تُصنَع في عقلنا اللا واعي قبل 7 ثوانٍ من إدراكنا لها في عقلنا الواعي.

أُعطِي المشاركون في الدراسة الحرية التامَّة في استخدام اليد اليسرى أو اليمنى، وذلك للضغط على زرٍ أمامهم، وعليهم أن يُخبِروا الباحثين في الثانية التي قرَّروا فيها أيَّ يدٍ سيختارون.

استطاع الباحثون وبدقةٍ تحديد أيِّ يدٍ سيستخدم كلُّ من شارك في الدراسة، وذلك بمساعدة أشعة الرنين المغناطيسي الوظيفية، واكتشفوا أنَّ المشاركين اتَّخدوا قرارهم قبل 7 ثوانٍ من إدراكهم الواعي لأيِّ يدٍ سيختارون.

فكيف حدث ذلك؟

يشرح عالم الأحياء البيولوجية في ستانفورد، البروفيسور بروس ليبتون، عمل العقل اللاوعي بأنَّه أشبه ما يكون بكمبيوترٍ عظيمٍ مُحمَّلٍ ببنك معلوماتٍ من التصرُّفات والسلوكات المُبرمَجة، اكتُسبَت معظمها في السنوات الأولى من حياة الإنسان. ويتحدَّث عن عقلين منفصلين؛ العقل الواعي والعقل اللا واعي.

  • العقل الواعي: المسؤول عن العمليات التي تتطلَّب المنطق والحساب، ويملك قدرات معالجةٍ محدودةٍ مقارنةً مع العقل اللا واعي، كما يهتمُّ بالجانب اللغوي، وبالقدرة على معالجة النصوص والكلمات وفهم معنى النص، فالعقل الواعي متسلسلٌ وخطيٌّ ومنطقي، ويكون لديه معنىً لكلِّ شيء، ويعمل بسرعة 40 بت في الثانية. البت: أصغر وحدة قياسٍ للمعلومات الرقمية في الحاسوب والاتصالات.
  • العقل اللاواعي: يملك المعرفة الكاملة عن الشخص، ولديه قدرات معالجةٍ مذهلةٍ بالمقارنة مع العقل الواعي، ويعمل بسرعة 40 مليون بتٍ في الثانية، فهو أسرع وأقوى بكثيرٍ من العقل الواعي. ومن الناحية الجسدية، فهو يتحكَّم بكلّ الوظائف اللا إرادية في أجسامنا مثل: تنظيم دقَّات القلب، سرعة التنفس، عملية الهضم؛ ويُقاوم أيَّ أجسامٍ مُضادةٍ تدخل إلى الجسم، ويشفي أيَّ جروح، ويُطهِّر الخلايا اللمفاوية. إنَّه نتاج تجاربنا السَّابقة، حيث يُختزَن فيه كلُّ ما نختبره من مشاعر، ومواقف، وسلوكات، ومعتقدات، وعادات، وطباع؛ ولغة تعبيره هي المشاعر، والعادات، والصور الذهنية؛ ولديه قدرةٌ هائلةٌ على الاستجابة للمثيرات بطريقةٍ تلقائيةٍ أوتوماتيكيةٍ مبنيَّةٍ على ردود الأفعال المخزَّنة سابقاً لديه. وهو مَن يُنظِّم حياتنا ويشكِّلها، ففيه تتشكَّل قراراتنا، وانفعالاتنا، وتصرفاتنا، وسلوكاتنا، ومشاعرنا.

أفضل تمثيلٍ لدور العقل الواعي واللا واعي هو ما يحدث في أثناء تعلُّم شيءٍ ما لأوَّل مرَّة، مثل: تعلُّم قيادة السيارة. ففي الأيام الأولى من التعلُّم، يستحيل أن يقوم الشخص بعمل شيءٍ ما في أثناء القيادة مثل: التحدُّث إلى صديقه في موضوعٍ يتطلَّب التركيز؛ ولكن بعد بضع أسابيع تصبح القيادة عادة، ويصبح من السهل على الشخص القيادة والتحدُّث إلى صديقه؛ وذلك لأنَّ القيادة انتقلت من العقل الواعي إلى العقل اللا واعي، وأصبح العقل الواعي حرَّاً في القيام بمهام أخرى، مثل: التحدُّث إلى شخصٍ ما.

إقرأ أيضاً: 6 معلومات مهمة عن العقل الباطن عند الإنسان

كيف يُبرمَجُ العقل الباطن؟

تقودنا معرفة القدرات الهائلة لعقلنا اللا واعي إلى التأكيد على فكرة أنَّنا المسؤولون عن كلِّ ما في حياتنا، فاستجابة عقلنا اللاواعي للظرف تختلف بين شخصٍ وآخر، علماً أنَّ المثير ذاته؛ وبالتالي نحن مَن نتحكَّم بالظروف.

فقد ينظر شخصٌ ما إلى فشله في اختبارٍ معيَّنٍ على أنَّه دافعٌ له لكي يدرس أكثر، وبأنَّ هناك خللاً ما في أسلوب دراسته، وعليه معالجته؛ بينما قد يدفع الظرف نفسه شخصاً آخر إلى الاستسلام والإحساس بالعجز.

في الحقيقة، نحن نقذف بالملايين من الأفكار والمعتقدات والعادات الخاطئة إلى عقلنا اللا واعي، وبعد ذلك نأتي ونقول "حياتنا بائسة".

كيف نُعيِد برمجة عقلنا الباطني؟

فلنتَّفق بدايةً أنَّ العقل يُقاد بالمحاولة؛ ففي حال كانت استجابتك لموقفٍ ما سلبيةً وتكرَّرت لأكثر من سبع مرات، عندها سيُسجِّل عقلك الباطني هذه الاستجابة، وفي كلِّ مرةٍ تتعرَّض فيها إلى الموقف نفسه، يُبادِر عقلك إلى الاستجابة السلبية نفسها، ويوصلك إلى مرحلةٍ تعلم مسبقاً أنَّها سلبيةٌ إلَّا أنَّك غير قادرٍ على إيقافها.

وهنا يجب إعادة تدريب العقل على أنَّك المُتحكِّم بمشاعرك، وبأنَّك أقوى من الظروف، وعندها ستبدأ بإعادة ضبط سلوكاتك، بحيث أنَّك ستكون قادراً على التعامل بمنتهى الهدوء مع الموقف نفسه والذي كان يزعجك ويثير حفيظتك. وذلك يكون بأن تعيش ذات الموقف 7 أو 19 مرة، لكن هذه المرة باستجابةٍ إيجابيةٍ من قبلك، وبعد ذلك سيخلق عقلك الباطن استجابةً إيجابيةً جديدةً بدلاً من القديمة السلبية.

من جهةٍ أخرى، أهمُّ فكرةٍ في برمجة العقل الباطن أن تُركِّز على ما تريد، وليس على ما لا تريد؛ فإن كنت تريد الغنى المالي، فعليكَ أن تقول "أريد أن أكون غنياً"، لا أن تقول "لا أريد أن أكون فقيراً"، فأنتَ تجذب ما تركِّز عليه.

إقرأ أيضاً: أسرار العقل الباطن: ما هو؟ كيف يعمل؟ وكيف تبرمجه وتسيطر عليه؟

ما هي مجالات استخدام تقنية التنويم الإيحائي؟

تحل تقنية التنويم الإيحائي الكثير من المشكلات التي يعاني منها مدمنو الكحول والمخدِّرات والتدخين، أو مَن يعانون من مشكلاتٍ في الوزن الزائد والقولون العصبي، أو مَن يخضعون لضغوطاتٍ وتوتراتٍ كبيرةٍ لا يستطيعون التكيُّف معها، أو أولئك الذين يعانون من ضعف الثقة بأنفسهم.

لكنَّ النتيجة نسبية، فقد يستفيد شخصٌ ما على العلاج بتقنية التنويم الإيحائي، في حين لا يستفيد الآخر، بالرغم من تشابه الأعراض بينهما؛ وذلك يعود لعامل الثقة، إذ يتطلَّب نجاح التقنية ثقة المريض بالشخص المعالِج، إضافةً إلى ثقته بنظرية العقل الباطن وآلية عمله، ومدى تأثيره في حياتنا.

ما هي آلية عمل تقنية التنويم الإيحائي؟

يعدُّ وجود التوكيدات والاقتراحات أساس عملية التنويم الإيحائي، بحيث يقوم المعالج بصنعها بطريقةٍ معيَّنةٍ ليتبنَّاها العقل الباطن، وليجري بعدها توجيه السلوك في اتجاهٍ إيجابيٍّ معين، وذلك من خلال التأثير في الأفكار والمشاعر.

ما هي التوكيدات، وما هي معاييرها للحصول على البرمجة المطلوبة؟

التوكيد: جملةٌ مكوَّنةٌ بطريقةٍ محدَّدة، هدفها الوصول إلى العقل بسهولة، بحيث يتبنَّاها ويُعيِد برمجة ذاته بناءً عليها.

يتطلَّب الوصول السريع إلى العقل تجاوز العنصر المقاوم (الناقد) الموجود فيه، والمسؤول عن حماية العقل من الاقتراحات الآتية من الخارج، والتي قد تكون مُدمِّرةً للإنسان. فنحن نحتاج إلى توكيدٍ مصنوعٍ بطريقةٍ معينة، بحيث يُخفِّف من حدَّة المقاومة لدى الشخص، فيسمح العقل للاقتراح بالدخول إلى العقل الباطن وإعادة برمجة الملفَّات المطلوبة.

ما هي معايير صنع التوكيدات المناسبة؟

1. الزمن الخاص بالتوكيد:

لنفترض أنَّ هناك شخصاً يعاني من ضعف الثقة بنفسه، ويرغب المعالِجُ بمعالجة هذه المشكلة لديه بتقنية التنويم الإيحائي؛ سيعمل بدايةً على صوغ التوكيد في زمن المضارع المستمر، كأن يكون: "يوماً بعد يوم، وساعةً بعد ساعة، تزداد ثقتي بنفسي". ففي حال صياغته لها بصيغة المضارع، لن يصل إلى النتيجة المرجوة؛ لأنَّ جملة: "أنا واثقٌ بنفسي"، تُعطِي مدلولاً للعقل الباطن أنَّ الأمر موجود، وأنَّ ليس عليه الإتيان بأيِّ فعلٍ أو مجهود.

2. التكرار:

عند تكرار الشخص للتوكيد أكثر من مرة، فسيُخلَق رابطٌ عصبيٌ يساعده في الوصول إلى الهدف، بحيث يصبح هذا التوكيد جزءاً من عاداته اليومية وسلوكاته.

3. الكثافة الحسيَّة:

يجب على الشخص أن يربط التوكيد بكثافةٍ حسيَّةٍ قوية، أي: أن يُعطِي الجملة إحساساً ومشاعر. ففي مثالنا: على الشخص أن يستشعر الثقة بالنفس، ويحسَّ بالسعادة والامتنان لامتلاكه هذه الصفة.

4. الصورة الذهنية:

يعرف عقلك الباطن كلُّ الاستراتيجيات والطرائق والسبل التي تجعلك تصل إلى هدفك، لكنَّه يحتاج إلى صورةٍ ذهنيةٍ لكي يُحفَّز على العمل، فلغة العقل اللا واعي هي الصور والمشاعر.

يقول ستيفن كوفي في كتابه العادات السبع: "ابدأ والنهاية في ذهنك"، فعقلك لن يوصلك إلى شيءٍ إن لم يكن لديك تصوُّرٌ ذهنيٌّ للهدف.

ففي مثالنا: يجب أن يكون في خيال الشخص صورته بهيئة الواثق من نفسه.

إقرأ أيضاً: أمراض نجح التنويم الإيحائي في علاجها

5. الربط مع الإنجاز:

يجب على الشخص ربط التوكيد بإنجازٍ له، كأن يتذكَّر آخر إنجازٍ قام به ويربطه مع الجملة التوكيدية. في مثالنا: كأن يقول: "لأنِّي تجاوزت ذلك الامتحان بنجاح؛ فيوماً بعد يوم، وساعةً بعد ساعة، ستزداد ثقتي بنفسي".

بعد صياغتك للتوكيد المناسب لك، بحيث يكون مُشبعاً بالإنجاز والكثافة الحسية، وأن يكون مكرَّراً، وفي الزمن الصحيح والصورة الذهنية المناسبة؛ عندها يبقى عليك الخطوة الأخيرة وهي: تلقين الاقتراحات (التوكيدات).

فإن كنتَ خاضعاً للعلاج عند أخصائي تنويمٍ إيحائي، فسيضعك في مناخٍ مناسبٍ للاسترخاء، ويبدأ بإرسال التوكيدات المناسبة إلى عقلك الباطن، مُلقِّناً إيَّاكَ كلَّ الملاحظات المطلوبة. أمَّا في حال كنتَ خاضعاً للتنويم الإيحائي الذاتي، فعندها يجب أن تختار مكاناً تكون فيه لوحدك؛ وفي هذه المرحلة، استمع إلى شيءٍ يجلب السعادة والطرب إلى ذاتك مثل: أغنيةٍ أو موسيقى؛ وعند دخولك في الحالة الإيجابية ابدأ بترديد التوكيدات بصوتٍ أقرب ما يكون إلى الهمس، ولكن بقوة؛ ولا تنسَ أن تُغنِيَ توكيدك بالإحساس والصورة الصحيحة والتكرار.

الخلاصة:

يطمح جميعنا في القيمة والإنجاز، ويبدأ الإنجاز من نفسك، فسعيكَ إلى إحداث التوازن بين عقلك الواعي واللا واعي، والاستفادة من ثروات كلٍّ منهما، ورغبتك بتطوير ذاتك وإنسانيَّتك يومياً؛ سيجعل من السعادة نصيبك في الحياة.

 

المصادر: 1، 2




مقالات مرتبطة