التميز: "اعمل المطلوب، وهذا يكفي"
يعمل علي ومنى في المكتب نفسه، لكن بعقليتين مختلفتين.
يفتح علي حاسوبه كل صباح، ويراجع الوصف الوظيفي بدقة، وينجز ما طُلب منه خطوة بخطوة، ثم يغلق ملفاته مطمئناً: "لقد فعلت المطلوب وهذا يكفي"، وبالنسبة له، تجاوزَ حدود المهام ليس من واجباته.
ترى منى أنَّ إنهاء المهام هو البداية فقط، وبعد إتمام المطلوب، تبحث عن طرائق لتبسيط العمليات، وتشارك أفكاراً جديدة في الاجتماعات، وتقترح حلولاً لمشكلات متكررة. حصلت خلال عام واحد فقط على ترقية وعُدَّت من العناصر القيادية، بينما ظلَّ علي في مكانه ينتظر فرصة لم تأتِ.
هكذا يُصنع الفارق بين مَن يكتفي، ومَن يضيف.
الاعتقاد السلبي: "إذا أنجزت المطلوب كما هو مكتوب، فقد أديت دوري كاملاً"
"الالتزام بالحد الأدنى يشبه السير في خط مستقيم ضيِّق، صحيح أنَّه آمن، لكنَّه لا يقودك أبداً إلى آفاق جديدة."
يعتقد كثير من الموظفين أنَّ أداء المهام بالضبط كما وردت في الوصف الوظيفي هو قمة الانضباط والاحترافية، فالمنطق الظاهري هنا بسيط: إذا التزمت بالحرف الواحد، لن تُلام على الأخطاء، وستبدو أمام المدير موظفاً يُعتمد عليه. تمنح هذه النظرة شعوراً مؤقتاً بالأمان، لكنَّها في الواقع تخلق وهم النجاح؛ لأنَّ السوق لا يكافئ من ينجز المطلوب فقط؛ بل مَن يضيف قيمة استثنائية.
التفسير الصادم أنَّ الاكتفاء بالحد الأدنى يجعلك في خانة "القابل للاستبدال"، فالشركات الكبرى في أوروبا مثلاً جرَّبت هذا النمط مع موظفين طبَّقوا التعليمات بدقة، لكنَّ النتيجة كانت واضحة، ومع أول فرصة لتقليل التكاليف أو إدخال أنظمة مؤتمتة، هؤلاء كانوا أول من يغادر. لماذا؟ لأنَّ وجودهم لا يضيف سوى ما يمكن لأي برنامج أو موظف آخر القيام به.
يصبح الموظف الذي يتجاوز المطلوب، ويطرح أفكاراً جديدة أو يبحث عن تحسينات جزءاً من مستقبل الشركة لا من ماضيها، وهنا يكمن الفارق: المطلوب يحافظ على موقعك، لكنَّه لا يفتح لك أبواب الترقية ولا يضعك في دائرة الاهتمام.
إذن، الاعتقاد بأنَّ "أداء المهام كما كُتبت يكفي" هو اعتقاد يُبطئ مسارك الوظيفي، ويتركك واقفاً في نقطة البداية، بينما الآخرون يتقدمون، والتميز يبدأ من لحظة إدراك أنَّ الدور الحقيقي، ليس مجرد إنجاز المطلوب؛ بل تجاوز سقفه وصنع قيمة لا يمكن استبدالك بها.
المعتقد البديل النموذجي: "المطلوب ينجزك، ولكنَّ التميز يرفعك"
"تبدأ الوظيفة حين تنهي المطلوب، لكنَّها لا تتطور إلَّا عندما تقدِّم ما لم يُطلب منك."
إنجاز المهام الموكلة إليك هو الحد الأدنى الذي يضمن بقاءك في موقعك، وهو أشبه بتذكرة دخول تُبقيك على مقعدك داخل المؤسسة، ولكن إذا أردت أن تتحرك للأمام، وأن تُرى بوصفك عنصراً مؤثراً، وأن تُفتح أمامك أبواب الترقية والفرص، لا يكفي أن تُنجز المطلوب؛ بل عليك أن تميز نفسك بما تضيفه من قيمة حقيقية.
لم يعد الأمان الوظيفي في أسواق العمل الحديثة مرهوناً بالالتزام الحرفي بالتعليمات؛ بل بالقدرة على الابتكار وإيجاد حلول تتجاوز الروتين، مثال ذلك شركات التكنولوجيا في الولايات المتحدة، مثل (Netflix)، فيُشجَّع الموظفون على التفكير المستقل وتقديم مقترحات خارج إطار المهام التقليدية، ما ساعدَ الشركة على الاستمرار في الصدارة رغم المنافسة الشرسة.
المعادلة هنا واضحة: التطوير + الإبداع + المبادرة = قيادة مستقبلية، فالتطوير يعني البحث المستمر عن طرائق لتحسين عملك أو عمل فريقك، والإبداع هو ابتكار أفكار جديدة تُحدث فرقاً ملموساً، والمبادرة تعني عدم انتظار التعليمات؛ بل التحرك استباقياً لمواجهة التحديات، وهذه الثلاثية هي ما يضعك على خريطة القادة لا المنفذين فقط.
ستغيِّر منظورك للعمل حين تدرك أنَّ المطلوب وحده ينجزك، لكنَّ التميز هو ما يرفعك، فعندها لن تسأل: "هل أنهيت ما طُلب مني؟"؛ بل ستسأل: "ما القيمة الإضافية التي أضفتها اليوم؟". هذه النقلة الذهنية هي الخطوة الأولى لتصبح من الأشخاص الذين لا يمكن الاستغناء عنهم؛ بل يُعتمد عليهم لبناء مستقبل المؤسسة.
شاهد بالفيديو: 8 أسرار تحقق لك النجاح الوظيفي
الدليل الداعم
"الاستثمار في الناس لا يُنقذ فقط؛ بل يرتقي بمؤسستك إلى المستويات الأعلى."
تُظهر دراسات شركة "ماكينزي" (McKinsey) أنَّه عندما تستثمر المؤسسات بمنهجية في تطوير رأس المال البشري والقيادي، فإنَّها تحقق عوائد مالية أكبر وأكثر استدامة من منافسيها، إضافة إلى معدلات احتفاظ أعلى بالكوادر المبدعة.
أجري في تقرير "(Performance through people" (2023) تحليل بيانات قرابة 1,800 شركة من 15 دولة من خلال قطاعات متنوعة، وقُسِّمت الشركات إلى أربع فئات تبعاً لأدائها المالي وقدرتها على تطوير موظفيها، فالفئة الأبرز، وهي "الفائزون بالأداء والشخص" (People + Performance Winners)، حققت أرباحاً تنظيمية أعلى بقرابة 30% مقارنة بنظرائها، كما تميزت بثقافة مؤسسية قوية وولاء مرتفع من الموظفين.
لا يعد هذا الدليل رقماً جافاً؛ بل دافعاً قوياً؛ لأنَّه يؤكد أنَّ المؤسسات لا تحتاج فقط لأداء مهمة الموظف المطلوب؛ بل إلى بناء بيئة تشجِّع على التطوير والإبداع المستمر، فالتميز لا يبدأ بتعليمات واضحة وحسب؛ بل بمبادراتٍ يرتضيها الموظف، فتترجم إلى تحسينات ملموسة في الأداء والنتائج.
يؤكد التقرير: المطلوب يضمن البقاء، لكنَّ الاستثمار في تمكين الموظف وقيادته هو ما يدفع بالمؤسسة تجاه الريادة.
دليل عملي (مع أمثلة عالمية)
"الفرق بين الموظف العادي والمتميز هو العادة اليومية لإضافة قيمة لا تُطلب منه."
يكمن الفرق في عدة نقاط أساسية:
1. إضافة قيمة إضافية يومياً
لا يعني التميز إنجاز أعمال ضخمة دفعة واحدة؛ بل يبدأ من خطوات صغيرة متكررة، وبعد أن تُكمل مهامك الأساسية، خصِّص وقتاً للبحث عن تحسين بسيط: هل يمكن تبسيط إجراء؟ هل هناك فكرة تجعل الفريق أسرع أو أكثر دقة؟ هذه الإضافات الصغيرة تُراكم أثراً كبيراً بمرور الوقت.
نذكر من الأمثلة العالمية الملهمة شركة "تويوتا" (Toyota) التي طبَّقت مبدأ (Kaizen) أو "التحسين المستمر". الفلسفة واضحة: يقدِّم كل موظف، مهما كان موقعه مقترحات تطويرية يومية، وبفضل هذا النهج، لم تصبح (Toyota) فقط رائدة في صناعة السيارات؛ بل وضعت معياراً عالمياً للجودة والكفاءة التشغيلية.
2. بناء عقلية المبادرة
يضع الاعتماد على التعليمات وحدها سقفاً منخفضاً لطموحك؛ إذ تعني عقلية المبادرة أن ترى المشكلة وتتحرك لحلها قبل أن يطلب منك أحد ذلك، فالمبادرة لا تبرهن فقط على وعيك؛ بل تضعك في خانة "الشخص الذي يُعتمد عليه". نموذج عالمي لذلك هو ما فعله "ساتيا ناديلا" (Satya Nadella) مع شركة "مايكروسوفت" (Microsoft).
حين تُولَّى القيادة، غيِّر ثقافة الشركة من "اعمل المطلوب" إلى "أطلِق أفكاراً"، وفتح المجال للتجريب، ودعم فرق الابتكار، وأعاد (Microsoft) إلى صدارة الشركات التقنية، فهذا التحول لم يكن نتاج استراتيجيات معقدة؛ بل نتيجة تشجيع عقلية المبادرة على مستوى الأفراد.
شاهد بالفيديو: كيف غيرت ريبوك ونايكي قواعد اللعبة وصنعتا علامتين تجاريتين عالميتين؟
3. مشاركة المعرفة مع الآخرين
لا تكمن القيمة الحقيقية في امتلاك المعرفة فقط؛ بل في مشاركتها لتوسيع أثرها، وعندما تشارك فكرة أو حلاً مع فريقك، فإنَّك تخلق بيئة يتضاعف فيها التأثير، وهنا يكمن سر المؤسسات التي تبني ثقافة إبداع جماعي.
نذكر مثالاً عالمياً بارزاً آخر شركة (Pixar) التي أسست اجتماعات (Braintrust Meetings)، وفي هذه الجلسات، يطرح المبدعون أفكارهم بلا قيود أو أحكام مسبقة، ما أتاح إنتاج أفلام رائدة أصبحت علامات فارقة في عالم السينما، فمشاركة المعرفة لا تجعل فريقك أقوى فقط؛ بل ترفع قيمتك الشخصية بوصفها عنصراً محورياً في نجاح الجماعة.
4. قياس نفسك بالنتائج لا بالمهام
لا يُقاس التميز بعدد المهام التي أنجزتها؛ بل بالقيمة التي أضفتها. السؤال اليومي الأهم هو: "ما الأثر الذي حققته اليوم؟". يغيِّر هذا التحول الذهني طريقة عملك بالكامل.
تبرز "غوغل" (Google) التي تعتمد نظام (OKRs - Objectives and Key Results) كمثال يحتذى به، ففي هذا النظام لا تُقاس إنتاجية الموظفين بعدد المهام المنجزة؛ بل بالأثر الملموس الناتج عن تلك المهام، والنتيجة أنَّ الموظفين، يحققون تأثيراً استثنائياً بدلاً من الاكتفاء بتنفيذ لائحة أعمال، وهنا يظهر الفارق بين "إنجاز المطلوب" و"صناعة نتائج تصنع الفارق".
ختاماً
"المطلوب يبقيك في مكانك، أمَّا التميز فيأخذك إلى حيث لم تصل من قبل."
يعني الاكتفاء بالحد الأدنى في بيئة عمل تتسارع فيها التغييرات البقاء على الهامش، فما يرفعك فعلاً هو قدرتك على الإضافة، والمبادرة، والإبداع. أثبتت الأمثلة العالمية أنَّ المؤسسات التي تحتضن التميز، تصنع قادة لا يُستبدلون؛ لذا تذكَّر دائماً: التميُّز يصنعك والمطلوب وحده لا يكفي أبداً.
اختر أن تكون جزءاً من الحل، لا مجرد منفِّذ للتعليمات.