التكتلات الاقتصادية العالمية وتأثيرها في الاقتصاد

تمثِّل التحالفات والتكتلات على مر التاريخ أداة أساسية في تحقيق التوازن ضمن نظام الدول المتعددة، وتبدو هذه التكتلات في أحد أوجهها أداة لفرض السيطرة على العالم، وفرض هيمنتها بشتى الوسائل ويمثِّل الاقتصاد إحداها، فمن المعروف أنَّ الدول تتعاون من وقت إلى آخر أو تتعاهد على التعاون ضمن شروط محددة، ومثل هذا التعاون يمكن أن يأخذ أشكالاً متعددة، فقد تميز القرن العشرون لا سيَّما الجزء الثاني منه بوجود ميل واضح إلى ظاهرة التكامل الاقتصادي بمختلف صوره؛ وذلك لأسباب مختلفة سياسية واقتصادية؛ إذ باتت أغلب دول العالم سواء المتقدمة أم النامية تتجه نحو الدخول والانضمام إلى التجمعات والتكتلات الإقليمية والعالمية بعدما أدركت أنَّ هذا هو السبيل لمواجهة عالم اليوم، وتحقيق مستويات جيدة من التنمية الاقتصادية وزيادة رفاهية الشعوب.



يُرجع أغلبية الباحثين في الاقتصاد جذور ظاهرة التكتلات الاقتصادية إلى انهيار اتفاقية (بريتون ودز) المتعلقة بأسعار الصرف الثابتة، والانتقال إلى العمل بنظام سعر الصرف العائم، وما رافق ذلك من ارتفاع أسعار الطاقة وتقلبات حادة في أسعار العملات وبلوغ أزمة المديونية الخارجية ذروتها، كل ذلك دفع بالدول الصناعية الكبرى إلى اتباع سياسات حمائية أثرت سلباً في حرية التجارة وانتقال السلع لا سيما بالنسبة إلى الدول النامية وصادراتها إلى الدول المتقدمة، ويضاف إلى ذلك انهيار الدول الاشتراكية، وتزايد الدول المطبقة لنظام الاقتصاد الحر، فكان الحل الأمثل هو تكوين تكتلات اقتصادية على نطاق واسع.

إنَّ تنامي ظاهرة التكتلات الاقتصادية في القرن العشرين جعل منها سمة أساسية من سمات النظام العالمي الجديد؛ إذ حولت ميدان الصراع بين الدول الكبرى من الحروب الطاحنة إلى الميدان الاقتصادي، ومهما تعددت أسباب نشأتها واختلفت في بروزها على الساحة العالمية تؤكد قوة العوامل التي دفعت إلى إنشائها.

أولاً: ماذا نقصد بالتكتلات الاقتصادية؟

إنَّ كلمة تكتل أو حلف هي عبارة عن تجمُّع يضم دولتين أو أكثر، ويفرض هذا التكتل وجود مصلحة مشتركة ومتساوية وخطاً استراتيجياً محدداً، والفرق بين مصطلحي التكتل والحلف هو أنَّه من الممكن أن يكون التكتل هو بداية للوصول إلى الحلف؛ إذ إنَّ الحلف يشير في مضمونه إلى وجود تجمع ذي أغراض سياسية عسكرية، ويستدعي وجود معاهدة بالضرورة بين الأطراف المتحالفة، بينما يشير التكتل إلى وجود تعاون اقتصادي أو سياسي في المقام الأول، ولا يشترط وجود أي معاهدة تجمع بين الأطراف.

يشير مصطلح (التكتل الاقتصادي) إلى وجود (تكامل اقتصادي)، الذي يُعدُّ أكبر درجة وأشد تماسكاً من (التعاون الاقتصادي)، وأعلى درجة من التكامل الاقتصادي هي تحقيق (الاندماج الاقتصادي).

يقصد بالتكامل ربط الأجزاء مع بعضها لتؤلف كلاً واحداً؛ فالتكامل الاقتصادي بحسب تعبير بيتر روبسون يعني "مجموعة الدول المترابطة في المصالح الاقتصادية أو المتجاورة جغرافياً على إلغاء القيود على حركة السلع والأشخاص ورؤوس الأموال فيما بينها، مع العمل على تنسيق السياسات الاقتصادية بينها للقضاء على التمييز الناتج عن الاختلاف في هذه السياسات".

كما يرى ميردال أنَّ التكتل الاقتصادي يتضمن العمل على زيادة الكفاءة الإنتاجية ضمن الكتلة الاقتصادية؛ وذلك مع إعطاء الفرص الاقتصادية المتساوية للأعضاء في هذا التكتل بصرف النظر عن سيادتهم.

التكتل الاقتصادي يعني أن تقوم دولتان أو أكثر بعملية إدارية تقوم على أساس إلغاء الحواجز والعوائق كافة أمام المعاملات التجارية وانتقال عوامل الإنتاج فيما بينها، كما يتضمن تنسيق السياسات الاقتصادية وإيجاد نوع من تقسيم العمل بين الدول الأعضاء لغرض تحقيق أهداف محددة اقتصادية واجتماعية.

إذاً فالتكتل الاقتصادي هو مشروع متعدد الأطراف جماعي، يقوم على إدارة مجموعة من الدول المتقاربة جغرافياً لتحقيق التنسيق بين العناصر الاقتصادية جزئياً أو كلياً ضمن هذا التكتل.

شاهد بالفيديو: أكبر 5 تحديات في الاقتصاد العالمي الجديد وطرق مواجهتها

ثانياً: أشكال التكتلات الاقتصادية العالمية

1. التحرير الجزئي للتجارة:

 يتضمن الاتفاق بين دولتين أو أكثر على تسهيل التجارة البينية عن طريق إجراء بعض الإجراءات مثل تخفيض الرسوم الجمركية أو إلغاؤها لكن ليس كاملاً، مع الأخذ في الحسبان العوائق غير الجمركية الأخرى، وتحتاج هذه المرحلة إلى المتابعة والتعديلات المستمرة بسبب تغير الظروف لكل دولة، وتُعدُّ هذه الخطوة تجربة تمهيدية لبيان إمكانية الاستمرار باتجاه تحقيق التكامل الاقتصادي.

2. منطقة التجارة الحرة:

تقوم على اتفاق بين الدول الأعضاء على إلغاء الرسوم الجمركية إلغاء كاملاً، وإزالة ما يرتبط بها من قيود وعوائق بشرط أن تحتفظ كل دولة منهم بسياستها الجمركية تجاه الدول الأخرى من غير الأعضاء.

3. الاتحاد الجمركي:

يتم بالاتحاد الجمركي إضافة إلى إلغاء الرسوم الجمركية وتسهيل التجارة البينية بناء جدار جمركي مع الدول غير الأعضاء في الاتحاد.

4. السوق المشتركة:

تُزال كل القيود التي تعوق انتقال جميع عناصر الإنتاج  داخل الاتحاد عبر توفير الضمانات اللازمة لحماية رؤوس الأموال واليد العاملة وتنسيق السياسات الاقتصادية، لا سيما النظام الضريبي وتحرير المبادلات التجارية البينية مع استبقاء الجدار الجمركي مع الدول غير الأعضاء. 

5. الاتحاد الاقتصادي:

يعمل الاقتصاد كأنَّه كتلة واحدة؛ إذ يُنسِّق السياسات الاقتصادية والاجتماعية.

6. الاندماج الاقتصادي الكامل:

توحد السياسات الاقتصادية والاجتماعية والخضوع لسلطة فوق قومية؛ ومن ثَمَّ تحقيق الوحدة السياسية.

ثالثاً: أسباب توجه الدول نحو بناء التكتلات الاقتصادية

1. أسباب اقتصادية:

من الدوافع الاقتصادية للدول تحقيق التنمية الاقتصادية الجماعية، وكذلك النمو الاقتصادي، وتوسيع السوق وحجمه واستيعابه لمزيد من الإنتاج، وزيادة الاستثمارات بحسب أنَّ التكامل الاقتصادي يتيح الفضاء الحر لانتقال رؤوس الأموال، إضافة إلى تعزيز الكفاءة الاقتصادية لا سيما في القطاع الصناعي وتحقيق مركز تنافسي مهم.

2. أسباب سياسية واجتماعية:

من الأسباب الاقتصادية الهامة التكتل من أجل درع المخاطر الخارجية؛ إذ يسمح التكتل الاقتصادي بتشكيل قوة دفاعية تجاه العالم، وقد تتحول إلى قوة عسكرية، يضاف إلى ذلك مواجهة المخاطر الأمنية ومحاربة الشبكات الدولية للتهريب والتنسيق الأمني الجماعي والمحافظة على الكيانات القومية.

رابعاً: أبرز التكتلات الاقتصادية العالمية

1. الاتحاد الأوروبي:

يُعدُّ الاتحاد الأوروبي أكبر التكتلات الاقتصادية في العالم؛ إذ تجاوز مرحلة التجارة الحرة والاتحاد الجمركي والسوق المشتركة ووصل إلى مرحلة الاتحاد، ويضم ثمانية وعشرين دولة حالياً، ويقدَّر سكانها نحو 513 مليون نسمة، ومن المرتقب انضمام دول أخرى، ويحقق هذا الاتحاد سنوياً نحو 1400 مليار دولار؛ أي ما يقارب ثلث التجارة العالمية؛ وهو صاحب أكبر دخل قومي في العالم؛ إذ يصل إلى 7000 دولار.

من أشكال التعاون التي طبقتها دول الاتحاد: 

معاهدة ماستريخت:

سارعت الدول إلى توقيع اتفاقية ماستريخت في عام 1992 وإنشاء اتحاد نقدي اقتصادي، بعد الاضطرابات الكبيرة التي شهدها سعر الصرف في أوروبا، وتتضمن هذه المعاهدة، إضافة إلى معايير سعر الصرف، ضرورة احترام دول الاتحاد الأوروبي لمؤشرات التقارب في الأداء الاقتصادي، ومنها بقاء سعر الصرف مدة سنتين ضمن المدى 2.25%، ويجب أن يكون عجز الميزانية تحت 3% من الناتج المحلي الخام، وأن يكون الدين العام أقل من 60% من الناتج المحلي الخام.

إنشاء العملة الواحدة:

بدأت أوروبا تتعامل بنظام العملة الواحدة في عام 1999، وقد حلَّت العملة الجديدة (اليورو) مكان العملات الوطنية بالنسبة إلى إحدى عشرة دولة؛ وهم بلجيكا وإسبانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإيرلندا ولوكسمبورغ وهولندا والنمسا والبرتغال وفنلندا، وفي عام 2001 انضمت اليونان إلى التعامل باليورو وكونت هذه الدول مجتمعة ما يسمى (منطقة اليورو)، وبقيت ثلاث دول تنتمي إلى هذا الاتحاد، لكن حافظت على عملتها وهي بريطانيا والسويد والدنمارك.

الأهداف التي سعى الاتحاد الأوروبي إلى تحقيقها:

  1. إيجاد سوق تجارية موحدة بقدرة إنتاجية أعلى وطاقة استيعابية ضخمة دون حواجز حدودية، وإلغاء القيود التعريفية والكمية والتميزية بين دول الاتحاد.
  2. تعميق الاقتصاد الحر القائم على تفاعل كل من قوى العرض والطلب.
  3. الانتقال بدول التكتل إلى مرحلة الاندماج الاقتصادي.
  4. تحقيق الوحدة النقدية لدول الاتحاد وإقامة البنك المركزي الأوروبي.
  5. خفض معدلات التضخم ومعدلات الفائدة ونسب البطالة والزيادة في معدلات النمو.

لقد عملت دول الاتحاد الأوروبي على تحقيق تلك الأهداف من خلال منظومة متكاملة من المؤسسات هي: الجماعة الأوروبية والمجلس الوزاري والمجلس الأوروبي والمفوضية الأوروبية والبرلمان الأوروبي ومحكمة العدل الأوروبية، ولكل من تلك المؤسسات اختصاصها.

شاهد بالفيديو: أنواع النقود وتاريخها

2. منظمة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (النافتا NAFTA):

هذا التكتل لم يتجاوز مرحلة إقامة منطقة تجارة حرة؛ أي لم يصل إلى مرحلة إقامة اتحاد جمركي أو سوق مشتركة، ويتألف هذا التكتل من ثلاث دول هي الولايات المتحدة الأمريكية وكندا والمكسيك، ويتميز هذا التكتل بأنَّه مفتوح؛ أي يمكن لدول أمريكا الشمالية الانضمام إليه عندما ترغب في ذلك.

3. رابطة جنوب شرق آسيا (ASEAN):

تضم هذه الرابطة عشرة دول، وقد تأسست في عام 1967 بوصفها نوعاً من الحلف السياسي في مواجهة الشيوعية التي كانت منتشرة في دول جنوب شرق آسيا لا سيما في فيتنام وبورما، وتضم كلاً من أندونيسيا وماليزيا والفلبين وسنغافورة وتايلند وبروناي وفيتنام ولاوس وبورما وكمبوديا.

4. السوق المشتركة لدولة أمريكا الجنوبية(MERCOSUR):

نشأت هذه السوق في عام 1991، وبدأت بإنشاء اتحاد جمركي بين الأرجنتين والبرازيل والباراجواي والأوروغواي؛ ومن ثَمَّ انضمت في 1996 كل من بوليفيا وتشيلي.

5. اتحاد المغرب العربي(UMA):

تأسس في 1989 من خلال توقيع اتفاقية مراكش، والتي ضمت الدول المغربية الخمسة: المغرب والجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا، وقد سعى الاتحاد إلى تحقيق أهداف عدة، منها:

  1. إقامة منطقة تبادل حر في
  2. إقامة اتحاد جمركي 1995.
  3. إنشاء سوق مشتركة مغاربية 2000.

6. منطقة التجارة الحرة لدول البلطيق (BAFTA):

هي اتفاقية تجارة حرة جمعت بين كل من إستونيا ولاتفيا وليتوانيا.

7. كومنلوث الدول المستقلة (CIS):

هي اتفاقية تجارة حرة تمت بين كل من الدول الآتية: أذربيجان وأرمينيا وبيلاروسيا وجورجيا وملدوفيا وكزاخستان وروسيا وأوكرانيا وأزباكستان وطاجاكستان وجمهورية الكركيز.

8. المجموعة الأوروبية للتجارة الحرة (EFTA):

هي اتفاقية تجارة حرة جمعت بين دول أيسلندا وليشنتاين والنرويج وسويسرا.

إقرأ أيضاً: الاقتصاد الموجه: مفهومه ومزاياه وعيوبه

9. الجماعة الاقتصادية الأوروآسيوية (EAEC):

هو اتحاد جمركي جمع بين بيلاروسيا وكازاخستان وكيركيز وروسيا طاجاكستان.

إقرأ أيضاً: الاقتصاد التشاركي: مفهومه وميزاته وعيوبه

في الختام:

يشهد عالم اليوم تغيرات متسارعة، وعلى قدر عالٍ من الأهمية، وبشكل يتطلب من كل الدول مراجعة مسارها الاقتصادي؛ إذ أصبح من المستحيل تحقيق متطلبات رفاهية شعوبها بجهدها المنفرد دون أن تقوم بالتعاون مع غيرها من الدول، وتلجأ إلى تبادل المنافع معها، إضافة إلى ذلك لا يمكن إنكار المخاطر التي لا تستطيع دولة وحدها تحملها، وهذا من الأسباب الأساسية التي تدفع بالدول إلى بناء تكتلات لتحقيق التكامل وتحقيق العيش الرغيد لشعوبها.




مقالات مرتبطة