التعارض بين طبيعتنا البشرية ومفهوم النجاح الحديث

ما هو الهدف من الحياة؟ هذا السؤال عميق جداً، لكن من الهام جداً التفكير فيه؛ فإذا سألت إنساناً معاصراً عن الهدف من الحياة، فسيقول شيئاً مثل "تحقيق الذات"، أو "أن يصبح مليونيراً"، أو ربما "التطور في مسيرته المهنية"، وقد تبدو هذه الإجابات مألوفة لديك.



لكن إذا كنت قادراً على سؤال علماء وظائف الأعضاء البشرية عن الهدف من الحياة، فستكون الإجابة شيئاً مثل "الإنجاب"، أو "تقليل المخاطر"، أو ربما "طول العمر"، مع أنَّ طول العمر سيحدث من خلال تقليل المخاطر حتى نتمكن من التكاثر وضمان بقاء جنسنا البشري؛ لذلك يُعتقَد أنَّ الهدف من الحياة، وفقاً لطبيعتنا البشرية، هو الأمان والبقاء، وكل الأمور الأخرى تأتي بوصفها نتيجة ثانوية.

لكن بالتأكيد، ليس من الصعب الحفاظ على الحياة في عالم اليوم، وإذا كنت تعيش في دولة متقدمة، فلن يكون تحقيق الأمان أمراً صعباً أيضاً؛ لذلك مع تلبية احتياجاتنا الأساسية، نحن نتطلع إلى أمور أخرى لمنح معنى لحياتنا؛ إذ إنَّ الرواتب الضخمة، والسيارات السريعة، والساعات اللامعة، والأشخاص الجذابين ليسوا سوى عدد قليل من الأمور المادية الشائعة التي نظن أنَّها تعطي هدفاً لحياتنا، وهو تعريفنا الحديث لهدف الحياة.

وإذا كنت أكثر إيثاراً، فقد تكون الأمور التي تعطي معنى لحياتك هي التأثير الاجتماعي، أو التقدم التكنولوجي، أو العلاقات الجيدة، أو التأثير السياسي.

ومع ذلك، إذا كنت فطيناً، فستكتشف أنَّ الأمور التي تعطي معنى لحياتنا في عالم اليوم - من عدة نواح - تتعارض تعارضاً مباشراً مع المعنى الغريزي للحياة لدينا؛ أي لكي نحقِّق النجاح الحديث الذي نريده، يجب علينا أن نضع أنفسنا بقوة في مواقف غير مريحة ومحاطة بالمخاطر، فنحن في الأساس نجبر أنفسنا على الخروج من منطقة الراحة الخاصة بنا، بينما ترغب طبيعتنا البشرية في أن تبقى مرتاحة داخل تلك المنطقة.

إنَّها حرب العقول، رغباتنا مقابل تعريفنا المعاصر للنجاح، ولسوء الحظ، لتحقيق أحدهما، يجب علينا التخلي عن جزء من الآخر.

معركة الطبيعة البشرية:

في أبسط مستوياتنا، دافعنا الوحيد هو نشر جنسنا البشري؛ أي الاستمرار في الإنجاب حتى نضمن بقاءنا، ووفقاً لعلم وظائف الأعضاء لدينا، هذا هو النجاح، وللقيام بذلك، يجب علينا أن نبقى آمنين قدر الإمكان؛ لذا فكِّر في الأمر بهذه الطريقة: لن تخرج أنثى السنجاب دون سبب من الشجرة لمجرد رؤية المدى الذي يمكن أن تصل إليه، فهي ستبقى بأمان في الشجرة في انتظار الإباضة، ثم تتصرف بدافع الإنجاب عندما يحين الوقت.

في نفس الوقت، لن يخاطر ذكر السنجاب بحياته ليجمع أكبر قدر من الجوز من بين جميع أصدقائه حتى يتمكن من التباهي بعدد الجوز الذي لديه، فهو سيبحث عن طعام يكفي فقط للبقاء على قيد الحياة، ثم يبقى في أمان وينتظر فرصة التكاثر والإنجاب.

فكر الآن في تصرفات الأسد، يقضي ذكر الأسد يومه في الخارج ويحافظ على طاقته، حتى يتمكن من الخروج والصيد عندما يكون ذلك ضرورياً وللحفاظ على شموخه، فهو لا يحاول تخزين أكبر قدر ممكن من اللحوم؛ لذلك يظن أصدقاؤه من الأسود أنَّه ناجح؛ إنَّه يتصرف بما يتفق تماماً مع طبيعته؛ الأكل والنوم والحماية والإنجاب.

حسناً، نعود الآن إلى البشر؛ إذ يرغب الناس من الناحية الفيزيولوجية في فعل نفس الأمور مثل الثدييات المذكورة آنفاً: الأكل والنوم والحماية والإنجاب، لكن نحن نمتلك مستوى فريداً من الوعي يجعلنا نتساءل عمَّا إذا كان يوجد مزيد من الأمور؛ إذ نتأمل في لغز الكون اللامتناهي، ونظن أنَّه يوجد معنى أكبر للحياة أكثر من مجرد وجودها، وقد توصلنا إلى فهم هذه الرغبة المتزايدة على أنَّها نجاح.

لقد تحول فهمنا المعاصر للمعنى إلى طريق السعي وراء أمور محددة تجعلنا نشعر بالنجاح، وتعطي حياتنا معنى أكبر كلما اقتربنا من هذا التعريف الفريد للنجاح.

يرغب "عقلنا الأعلى" في أن نتابع الأمور التي تجعلنا ناجحين في الحياة، فهو يدفعنا إلى المخاطرة والعمل الجاد والتفكير في المستقبل، وفي النهاية، مقارنة حياتنا بنجاح الآخرين، لكن كل هذه الأمور الحديثة التي تضعنا في حالة صراع مباشر مع حالة القلق أو الارتباك، تمثل الدوافع التي تخبرنا بتقليل المخاطر، وزيادة طول العمر، والعثور على صديق؛ لذلك كل خطوة نتخذها نحو تعريفنا الحديث للنجاح تأخذنا خطوة أخرى بعيداً عن طبيعتنا البشرية.

إقرأ أيضاً: كيف تكون على طبيعتك؟

تعارُض معاني النجاح:

توجد قصة يرويها "رايان هوليداي" (Ryan Holiday)، مؤلف كتاب "العقبة هي الطريق" (The Obstacle is the Way)، يخبرنا فيها بأنَّه يمتلك مزرعةً صغيرةً في ضواحي "أوستن" (Austin) في "تكساس" (Texas)، وذات يوم كان يشعر بقدر كبير من القلق، فأخذ استراحة من عمله للتفكير.

ولاحظ أنَّ الماعز لديه تقف في حظائرها ولا تفعل شيئاً جيداً؛ لم يكونوا يأكلون ولم يكونوا نائمين؛ بل كانوا يقفون في ذلك المكان فقط، وبعد ذلك، اتضح له فكرة أنَّ ماعزه هي مجرد حيوانات تفعل بالضبط ما كان من المفترض أن تفعله، إنَّها في حالة نقية من الوجود.

لكن إذا ترجمنا ذلك على البشر، فسنحصل على صورة مختلفة تماماً؛ فأيُّ شخص نراه لا يفعل شيئاً في عطلة الأسبوع نعدُّه كسولاً، وليس لديه أيُّ طموح، ونخبر أنفسنا بذلك بينما نذهب على مضض إلى وظيفة نكرهها، ومع ذلك، فإنَّنا نتمنى سراً أن نكون ذلك الشخص، واقفين ولا نفعل شيئاً.

كما تلاحظ، في أعماقنا نعلم أنَّ البشر لديهم كينونة، ونحن موجودون هنا لأنَّ الله خلقنا على هذه الأرض، ومع ذلك، فإنَّ جميع تعريفاتنا الحديثة للنجاح تجبرنا بقوة على الخروج من تلك الحالة، وهذا يجعلنا نشعر بالقلق بشأن المستقبل ومدى نجاح أصدقائنا أكثر منَّا؛ إذاً، ما هو الهدف من الحياة؟ إذا سألت نفسك، فإنَّ معنى الحياة هو أن تكون على قيد الحياة، ولا شيء غير ذلك.

إذاً، ينبغي أن يكون هدفنا الأول هو "البقاء على قيد الحياة"، لكن إلى أين نريد أن نصل؟ هل هذا الأمر هام حتى؟ بالطبع هو كذلك، لن نخبرك أنَّ تعريفك للمعنى والنجاح خاطئ لمجرد أنَّنا كائنات نحتاج إلى التكاثر، ومع ذلك، نحن نحتاج إلى إيجاد توازن بين التقدم في هدفنا، وفي نفس الوقت تغذية عقولنا من خلال استحضار كياننا بصفتنا بشراً.

إقرأ أيضاً: 16 عادة على كل من يريد تحقيق النجاح أن يقلع عنها

الخلاصة:

الفكرة من هذا المقال هي التوازن، فنحن جميعاً نريد تحقيق النجاح في المستقبل، مهما كان ذلك يعني لنا، ونريد أيضاً أن نكون راضين وسعداء في الوقت الحالي؛ فنحن نمتلك شعوراً بالقلق والارتباك وفي نفس الوقت لدينا أفكار مبتكرة في أذهاننا، ولا يمكننا تجاهُل أي منهما.

ولسوء الحظ، غالباً ما يكون هذان الأمران في حالة خلاف، وحتى نتمكَّن من التوفيق بينهما، يجب أن يكون هدفنا الجديد الأول هو "أن نكون على قيد الحياة"، وبعد ذلك، نفكر في جميع الأهداف المادية الأخرى.

لذلك اعمل بجد وتطلَّع إلى المستقبل وحاول تحقيق أسمى أهدافك الحديثة، وافهم أنَّ أيَّاً منها لا يعني أيَّ شيء ما لم تكن راضياً في الوقت الحالي، وبخلاف ذلك، لا تقع في فخ اتباع الطريق الأسهل، فقط لأنَّ فيزيولوجيا الإنسان لديك تطلب منك القيام بذلك.

المصدر




مقالات مرتبطة