التربية القائمة على الارتباط: هل هي رعاية أم إفساد للأطفال؟

يعلم جميع الآباء والأمهات كمَّ المشقة التي تتطلبها تربية الأطفال؛ فهم يحتاجون إلى رعاية على مدار الساعة، ناهيك عن أنَّهم يسيطرون على حياتك كلياً، حيث يمكن لواحد من هذه الكائنات الصغيرة أن يقلب حياتك رأساً على عقب في غمضة عين.



لا يتعلق الأمر بحاجتهم إلى الاهتمام الجسدي المستمر فحسب، ولكن بحاجتهم إلى الاهتمام العاطفي أيضاً؛ فعندما يتعلق الأمر بالاهتمام الجسدي، يبكي الأطفال، ويلوثون أنفسهم، ويحتاجون إلى تغيير مستمر للحفاضات، ناهيك عن أنَّهم يحتاجون إلى الطعام كل ساعتين، حتى في أثناء الليل؛ وهذا في الحالة الطبيعية؛ لكن تخيل لو كان طفلك يعاني ارتجاعاً حمضياً أو مغصاً بطنياً يجعله يبكي ساعات متواصلة دون توقف.

يحتاج الأطفال إلى قدر كبير من العناية الجسدية، حيث تؤثر رعايتهم الجسدية في صحتهم العاطفية مدى الحياة؛ فقد أثبتت مجموعة كاملة من البحوث حول التربية القائمة على الارتباط أنَّ مستوى رعاية الطفل يؤثر في قدراته الاجتماعية والعاطفية والفكرية والنفسية لبقية حياته.

إذا لم يحظَ الطفل الرضيع بالارتباط ضمن خطة رعاية ملائمة، يمكن أن تتأثر حياته إلى الأبد، وهذه مسؤولية كبيرة تقع على عاتق الآباء ومقدمي الرعاية؛ إذ إنَّ التربية القائمة على الارتباط وخلق رابطة بين الطفل والوالدين أو مقدمي الرعاية أمران هامان وضروريان.

يوفر مقدمو الرعاية -الوالدان غالباً- الترابط والجهود لتعميق الارتباط مع الطفل المحتاج إلى الرعاية، والذي لديه حاجة فطرية إلى الارتباط بشخصٍ ما، وعادةً ما يكون هذا الشخص أحد الوالدين اللذين يرعيانه.

يُولَد الأطفال مرتبطين عاطفياً وجسدياً بشخصٍ ما يساعدهم على البقاء على قيد الحياة:

أعاد المُنظِّر والباحث الإنمائي "جون بولبي" (John Bowlby) صياغة "نظرية التعلق" (attachment theory) في الستينيات من القرن الماضي، حيث تقترح هذه النظرية أنَّه يجب ربط الطفل عاطفياً وجسدياً بمقدم رعاية واحد -أحد الوالدين غالباً- على الأقل لكي ينمو بشكل طبيعي، وأشارت النظرية التي دُرِست بشكل كبير ومعمَّق من قبل الآلاف على مر السنين إلى الفوائد العامة لممارسات التربية بالارتباط، حيث تعود هذه الفوائد بالنفع على الطفل المرتبط إلى مرحلة أبعد من الرضاعة والطفولة، لتشمل حياته كلها.

أظهرت أعوام من الأبحاث والدراسات المستفيضة حول التربية القائمة على الارتباط أنَّ الأطفال الذين نشؤوا على الارتباط يكوِّنون علاقات أفضل بالآخرين مع تقدمهم في العمر، ويتمتعون بتقدير أكبر لذاتهم، ويكونون أكثر مرونة وقدرة على الثبات تحت الضغط؛ كما يظهرون أداء أفضل في جميع نواحي الحياة، كالتحصيل العلمي والتفاعل مع أقرانهم.

لا داعي للذعر والقلق إن لم تكن لديك معلومات عن هذه النظرية، أو كنت تخشى أنَّك لم تطبقها على طفلك بالشكل الصحيح؛ ففي الواقع، يستخدم العديد من الآباء مفهوم التربية القائمة على الارتباط جيداً، على الرغم من جهلهم التام به من الناحية العلمية.

ينبغي لنا فهم أنَّ هذه الأساليب ليست مفيدة فحسب، ولكنَّها ضرورية لتربية أطفال وبالغين أسوياء ومندمجين مع المجتمع؛ فالطفولة مرحلة هامة من التطور، ولا يجب الاستخفاف بمستوى رعاية الرضيع مطلقاً.

إقرأ أيضاً: 7 تصرفات تفسد تربية الطفل حاول أن تتجنبها

يعاني الأطفال الذين يفتقرون إلى الارتباط المناسب من مشكلات في التواصل الاجتماعي لاحقاً في حياتهم:

أثبتت الكثير من البحوث فاعلية التربية القائمة على الارتباط في مساعدة الأطفال على التكيف جيداً والاستقرار عاطفياً؛ حيث يتعرض الأطفال الذين لا يحظون بالارتباط بمقدم رعاية إلى كثير من الأضرار، وقد تشتد هذه الحالات؛ فعلى سبيل المثال: إن لم يحظَ الأطفال في دور الأيتام بالعناق في سن الرضاعة، ينتهي بهم الأمر بالعزلة الاجتماعية والاضطراب العاطفي والاجتماعي لاحقاً.

ومع ذلك، يمكن أن يواجه الأطفال في الأسر الطبيعية مشكلات إذا لم يرتبطوا بأحد الوالدين أو مقدمي الرعاية، لكون ممارسات وأنماط التربية القائمة على الارتباط ضرورية للنمو الطبيعي للطفل.

نشرت مجلة "نيويورك" (New York Magazine) مقالاً عن نظرية التربية القائمة على الارتباط، وهذه نبذة عنه: "يعتقد الباحثون أنَّ هذا النمط من الترابط إن قُيِّم في وقتٍ مبكّرٍ من الطفولة (في السنة الأولى من عمر الطفل)، يؤدي دوراً أكثر أهمية في تنمية الشخص من ناحية المزاج ومعدل الذكاء (IQ) والطبقة الاجتماعية وأسلوب التربية.

كما أُثبِت في بحث جديد حول الترابط وجود علاقة بين الخوف من الارتباط عند البالغين ومجموعة من المشكلات، بدءاً من اضطرابات النوم والاكتئاب والقلق، وانتهاء بفقدان الاهتمام بالعدالة والأخلاقيات العامة؛ كما يصبح من يفتقر إلى الارتباط شخصاً غير جدير بالقيادة في المستقبل.

يعود تطبيق التربية القائمة على الارتباط بمنافع جمة يمكن الاعتماد عليها في تنمية جميع البشر، وتقع على عاتق الوالدين ومقدمي الرعاية توفير الرعاية والاهتمام المناسبين للأطفال لضمان هذا الارتباط.

تضمن التربية القائمة على الارتباط حدوث ارتباط وثيق بين الأطفال ومن يرعاهم.

حاول الباحثون تحديد الأساليب الدقيقة لممارسات التربية القائمة على الارتباط، وفيما يأتي ست من أكثر هذه الممارسات المتعلقة بالرضع التي أثبتتها الأبحاث.

أنت لست مضطراً إلى تطبيق جميع هذه الممارسات، حيث أكد الباحثون أنَّ الاكتفاء ببعضها يؤهل الطفل للارتباط بوالديه أو مقدم الرعاية.

لقد أثبتت التجارب أنَّ إفساد تنشئة الطفل غير وارد؛ لذا كلَّما زادت ممارسات الارتباط، كان ذلك أفضل للتطور والنمو العام للطفل؛ فأنت لا تفسد طفلك باستخدام هذه الممارسات، بل تنشئ إنساناً سوياً قادراً على العيش بسعادة؛ وإليك أهمها:

1. نم بالقرب من الطفل:

تعدُّ سلامة الرضيع أولوية قصوى، لكن لا تخشَ على سلامة الطفل الرضيع إن نمت بقربه، حيث هناك طرائق آمنة لفعل ذلك، كشراء غرف نوم مشتركة تتيح للوالدين النوم بالقرب من طفلهما والإحساس به خلال النوم.

يسمح النوم قرب الرضيع للآباء ومقدمي الرعاية بإطعام الطفل الرضيع بسهولة ليلاً، وكذلك تهدئته عندما يبكي.

2. أطعم الطفل عند الحاجة:

كانت النظرية الأساسية المتعلقة بإطعام الأطفال في الخمسينيات من القرن الماضي هي إطعام الطفل وفقاً لجدول زمني صارم، حيث كان يُطعَم الأطفال فقط في أوقات محددة، بغض النظر عن بكاء الأطفال أو علامات الجوع لديهم.

تقترح نظرية التربية القائمة على الارتباط أنَّه يجب على الآباء ومقدمي الرعاية إطعام الأطفال متى ما طلبوا ذلك، كأن يبكوا أو يشيروا إلى أنَّهم جائعون، بغض النظر الجدول الزمني أو التوقيت؛ فالأهم هو تلبية احتياجات الطفل.

تحدد مبادئ التربية القائمة على الارتباط العالمية (Attachment Parenting International) أيضاً أنَّ الرضاعة الطبيعية هي أفضل طريقة لارتباط الأم بالوليد؛ أمَّا في حال كانت الرضاعة الطبيعية غير ممكنة لأسباب تتعلق بالأم، فعليها إنشاء رابطة جسدية مع طفلها، حيث تتمحور التربية القائمة على الارتباط حول الرابطة الجسدية التي تُولِّد اتصالاً عاطفياً بين الأم والطفل.

إقرأ أيضاً: 6 أنواع من الأطعمة تجنّبيها أثناء الرضاعة الطبيعيّة

3. طبِّق الرعاية التعاطفية:

لا يجب توبيخ الأطفال أو معاملتهم بقسوة، فقد ثبت في الحقيقة أنَّ هذه التصرفات تضر بتطورهم، حيث يحتاج الأطفال إلى رعاية رقيقة وحب لينموا نمواً سليماً.

4. احرص على التقارب الجسدي مع الطفل:

إنَّ التقارب الجسدي من خلال لمس الطفل وحمله أمر ضروري لتطبيق التربية القائمة على الارتباط، إذ يحتاج الأطفال إلى الحمل والعناق.

هناك طريقة عملية للأمهات اللواتي لا يجدن وقتاً للقيام بذلك باستمرار، وهي ارتداء حمالة الأطفال القماشية لربطهن بالطفل، حيث تعدُّ طريقة رائعة لخلق تقارب جسدي بين الأم والطفل.

5. لا تغفل احتياجات الطفل:

يجب الانتباه إلى احتياجات الطفل لتطبيق التربية القائمة على الارتباط بشكل جيد؛ فعند بكاء الطفل، يجب أن يكون لدى مقدم الرعاية سرعة البديهة لمعرفة سبب البكاء ومعالجة المشكلة، حيث يتعلق الأمر بتلبية احتياجات الطفل -التي تأتي في المقام الأول- في الوقت المناسب.

كما يجب عدم ترك الأطفال الرضع يبكون كثيراً، لما في ذلك من ضرر عليهم؛ فعندما نتجاهل بكاء الطفل المتكرر، يتغير نشاط الدماغ الحيوي؛ ممَّا قد يؤدي إلى آثار سلبية طويلة الأمد.

6. أظهر الرعاية المستمرة:

يعدُّ هذا أمراً صعباً بالنسبة إلى الكثير من العائلات، خصوصاً عند عمل كلا الوالدين دون وجود من يرعى الطفل؛ ومع ذلك، تعني الرعاية المستمرة أنَّ مقدم الرعاية الأساسي -والذي يكون عادة أحد الوالدين- يقوم بمعظم العناية، ممَّا يمنح الطفل فرصة للارتباط به.

بينما إذا رعى عدد كبير من الأشخاص الطفل باستمرار، يصبح من الصعب على الطفل الارتباط بشخص واحد فقط؛ لذا من الأفضل أن يبقى أحد الوالدين في المنزل ويأخذ إجازة من العمل في حال استطاع ذلك، وذاك لمصلحة الطفل.

إنَّه لمن المرجح تحقيق ارتباط وثيق من خلال وجود مقدم الرعاية الأساسي طوال اليوم، خاصة في مرحلة الرضاعة.

لن تتكرر مرحلة الطفولة مرة أخرى؛ لذا فهي فرصتك الوحيدة:

يمر الوقت بسرعة، وتؤثر الأشهر الأولى من عمر الأطفال في بقية حياتهم، حيث تحدث تطورات عقلية وعاطفية كبيرة في السنة الأولى من عمر الطفل، ويتحمل مقدم الرعاية الأساسي للرضيع مسؤولية كبيرة؛ كما قد تواجه بعض الأمهات العاملات صعوبات في البقاء مع أطفالهن طوال الوقت؛ ولا ضير في ذلك، لكون النقطة الأساسية هي الحفاظ على الترابط مع أطفالهن مهما كانت الظروف.

 

المصدر




مقالات مرتبطة