الابتلاء: ثقافة مجتمعية ينقصها الكثير من التدبر والتعمق

نناقش في هذا الموضوع الفهم الخاطئ لموضوع الابتلاء، والذي سبَّب تقاعس الكثيرين عن السعي والتَّدَبُّر والتطور في حياتهم، وجعلهم عبيد الظروف والمشكلات، دون إدراكٍ لحجم طاقاتهم وقدراتهم التي أودعها اللَّه فيهم.



الابتلاء ما بين النص وتفسيره:

نقع كمجتمعٍ إسلاميٍّ في فخ تفسيرات النصوص القرآنية، مُتبنِّين آراء أصحابها "الغير مختصين" دون البحث في المراجع والمصادر، مُسلِّمين بأفكارٍ معيَّنةٍ دون إعمال عقلنا، ودون وعيٍ لحجم النتائج الكارثية التي خلقها بعضها في حياتنا ومساراتنا.

لم نتعلَّم الفصل بين النص القرآني وتفسيره، وأصبحنا نأخذ كلام الله تعالى بناءً على ما نسمع، وليس بناءً على ما نقرأ ونتدبَّر من أبحاث العلماء الأتقياء المفسرين لكلام الله وحديث رسوله.

هل الدنيا دار شقاء؟ أم دار اختبارٍ ومتعة؟

  • يقول تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [سورة البقرة: الآية 185]، كما يقول تعالى: {يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا} [سورة النساء: الآية 28]، وفي هاتين الآيتين تأكيدٌ على رغبة الله بأن تكون حياة عباده مُيسرةً وسلسة.
  • كلُّ مَن تعمَّق وتبحَّر في فهم الآيات القرآنية من علماء الدين والنفس يقول أنَّ: "المؤمن الفَطن هو مَن يعيش سعيداً في الدنيا وسعيداً في الآخرة".
  • قال تعالى: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [سورة آل عمران: الآيتين 196-197]، إشارةً إلى الناس المُخطِئين الكافرين في الدنيا، حيث سيتمتَّعون بالقليل منها ثمَّ سيكون مثواهم جهنم في الحياة الآخرة؛ بينما للذين آمنوا والمُتقين البركات وجنَّة الدنيا، فقد قال تعالى: {ولو أنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [سورة الأعراف: الآية 196].

هل يبتلي الله عبده المؤمن؟

يقول الحديث النبوي: "إنَّ الله إذا أحبَّ عبداً ابتلاه"، وقد فُسِّرت كلمة ابتلاء على أنَّها إغراق المؤمن بالمشكلات والهموم والمآسي؛ وهنا علينا التوقُّف كثيراً عند هذه الكلمة.

قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [سورة الأنبياء: الآية 35]، كما يقول تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا ۖ مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَٰلِكَ ۖ وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الأعراف: الآية 168]، وهذا دليلٌ على أنَّ هناك ابتلاءٌ إيجابيٌّ وآخر سلبي، حيث يُعدُّ كلٌّ من الصحة والمرض ابتلاء، وكلٌّ من الفقر والغنى ابتلاء؛ فلماذا إذاً نُفسِّر الحديث النبوي على أنَّه دلالةٌ على الابتلاء السلبي؟

يقول الله تعالى في حديثه القدسي: "وَمَا يَزالُ عَبْدِي يتقرَّبُ إِلى بالنَّوافِل حَتَّى أُحِبَّه، فَإِذا أَحبَبْتُه كُنْتُ سمعهُ الَّذي يسْمعُ بِهِ، وبَصره الَّذِي يُبصِرُ بِهِ، ويدَهُ الَّتي يَبْطِش بِهَا، ورِجلَهُ الَّتِي يمْشِي بِهَا، وَإِنْ سأَلنِي لأُعطِيَنّه، ولَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَّنه".

لذا نجد أنَّ الحديث الأول "إنَّ الله إذا أحبَّ عبداً ابتلاه"، دلالةٌ على الابتلاء الإيجابي.

قد يسـأل سائل: "وماذا عن ابتلاء الأنبياء؟"، في الحقيقة إنَّ الأنبياء كانوا بشراً اختارهم الله لتأدية رسالته، ولم يكن وعيهم قد بلغ أوجه منذ البداية؛ لذلك فقد واجهوا الكثير من المشكلات خلال مسيرة نبوَّتهم، وبعد كلِّ مشكلةٍ كان يُنزِّل اللّه آياته لكي يزداد وعيهم وتكتمل الصورة لديهم تدريجياً. قال تعالى محدِّثاً رسوله: {مآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍۢ فَمِنَ ٱللَّهِ ۖ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍۢ فَمِن نَّفْسِكَ ۚ وَأَرْسَلْنَٰكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا ۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدًا} [سورة النساء: الآية 79].

إقرأ أيضاً: دعاء لمن ابتليت بزوج ظالم

هل المصائب من عند الله تعالى؟

  • يقول اللّه تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [سورة الشورى: الآية 30]، والمصيبة هنا بدءاً من الجرح الصغير إلى الكارثة، وهنا يؤكِّد الله أنَّ المصائب هي بما كسبت أيدي الناس من السيئات ومخالفة أمر الله.
  • يقول تعالى: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [سورة الأنفال: الآية 53]، في هذه الآية دلالةٌ على أنَّ الإنسان هو المسؤول عن تغيير أحواله من الوضع الإيجابي إلى الوضع السلبي؛ لذلك على الإنسان أن يكون قوياً ويعترف بخطئه أمام الله.
  • قال تعالى: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [سورة التوبة: الآية 51]، وهنا استخدم الله كلمة "لنا" وليس "علينا"، أي نحن تحت مشيئة الله وقدره، وكل شيءٍ قُدّر لنا أن يصبنا فهو بمشيئة الله بما فيه فائدتنا، فإذا ارتكبنا الأخطاء، فسيُعاقبنا الله في الدنيا، وعذاب الدنيا أرحم من عذاب الآخرة؛ فكلَّما سرَّع الله عقابنا في الدنيا، كان أرحم لنا من عذاب الآخرة.

هل يُفقِر الله عبده المؤمن؟

يقول تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ ۖ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [سورة البقرة: الآية 268]، أي يأمركم الشيطان بألا تؤدوا الزكاة الواجبة عليكم، وألا تدفعوا الصدقات، بحجة أنّها ستفقركم. أمّا الله عز وجل يعدكم أيّها المؤمنون، أن يستر عليكم فحشاءكم، بصفحه لكم عن عقوبتكم عليها، فيغفر لكم ذنوبكم بالصدقة التي تتصدقون، ويعدكم أن يخلف عليكم من صدقتكم، فيتفضل عليكم من عطاياه ويسبغ عليكم في أرزاقكم.

ويقول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكُفْرِ، وَالْفَقْرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ"، لاحظ كيف وضع رسول الله الفقر بعد الكفر. ويقول الخليفة الراشدي علي كرَّم الله وجهه: "لو كان الفقر رجلاً لقتلته".

ثق بنفسك:

  • تدبَّر في كتاب الله تعالى، واستعن بمصادر وآراء مختلفة فكتاب الله يصلح لجميع الناس، حيث بإمكان كلٍّ من الطبيب وعالم النفس وعالم الأحياء وغيرهم استنباط الكنوز منه، كلٌّ حسب اختصاصه.
  • تأكَّد من مراقبة أفعالك. عندما يحصل لك مكروه، انفرد بذاتك، وتذكَّر ما الذي فعلته لتستحقَّ هذا، وتضرَّع إلى الله بالاستغفار والتوبة، فهو غفورٌ رحيم؛ ولا تنسَ الدعاء، فالدعاء أعظم أداةٍ للوصول إلى الأهداف، والله قريبٌ يُجِيب دعوة الداعي؛ واشكر نعمة الله تعالى.
  • تبدأ السعادة الحقيقيَّة من استمتاعك بما تملك وشكر الله عليه، ومن ثمَّ سيزيد لك الله نِعمه أضعافاً مُضاعفة.
إقرأ أيضاً: فضل وأهمية الدعاء في العقيدة الإسلامية

الخلاصة:

اعلم أنَّ الأصل في الحياة هو السعادة، فإن كنتَ سعيداً وبكامل الصحة وتمام الرزق المالي، فأنتَ تسير وفقَ المسار الصحيح الذي حدَّده الله؛ لكن إن لم تكن كذلك، فعليك إعادة النظر في فهمك للدين ولآيات الله، والتبحُّر أكثر في قوانين الحياة.

المصادر: 1، 2، 3، 4، 5




مقالات مرتبطة