الإعاقة الذهنية: درجاتها، أسبابها، وطرق التعامل معها

يرن جرس المنزل فجأة، فتُسرِع الأم وتُدخِل ابنتها المختلفة عن باقي أولادها إلى الغرفة لكيلا يراها الزُّوار، فهي لا تستطيع احتمال نظرات شفقتهم والغمزات المنتشرة فيما بينهم، ولا تكون قادرة على سماع النَّصائح المستهلكة الَّتي ملَّت منها.



تفتح الأم باب الغرفة على ابنتها بعد انتهاء موعد الزِّيارة، وهي خجلة من ذاتها، لترى ابنتها المسكينة قد نامت والدُّموع تملأ خدودها اللَّطيفة.

توقِظ هذه الحادثة ضمير الأم وإنسانيَّتها الحقيقيَّة، فتسأل نفسها السَّؤال الأكثر أهميَّة: كيف لها أن تطلب من الزُّوار احترام ابنتها وحبَّها، إن كانت هي ذاتها غير متقبِّلة لوجودها في حياتها؟ وكيف لها أن تطلب من الآخر احتضان ابنتها واللَّعب معها، وهي تتبرَّأ منها ولا تعترف بوجودها، ولا تعترف بحقّها في اللَّعب، والتعلُّم، والحياة؟

يرزح ملايين الأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصَّة تحت رحمة مجتمع لا يحترمهم ولا يقدِّر إنسانيَّتهم، ويتعامل مع اختلافهم على أنَّه عار وكارثة. ولا يدرك أغلب البشر أنَّ الشَّخص الأعمى والآخر المُبصِر متشابهان في الإنسانيَّة والحقوق والواجبات، وأنَّ الفارق الوحيد بينهما هو القدرة على الرُّؤية؛ أي أنَّهما مختلفان في هذه الجزئيَّة فحسب.

علينا أن نعي أنَّ الشَّخص ذو الإعاقة الذِّهنيَّة لم يختر أن يُصاب بهذه الإعاقة، وأنَّه بشر مثلنا، ويستحقُّ كل الحبِّ والاهتمام، وعلينا أن نفرِّق بين درجات الإعاقة الذِّهنيَّة؛ فمنهم مَن يتطوَّرون من خلال التعليم والتدريب ويصبحون في وضع أفضل بكثير، وأيَّاً كانت درجة الإعاقة فإنَّ اهتمام المدرسة والأسرة سيخلق فرقاً كبيراً في الحالة.

يحتاج الشَّخص ذو الإعاقة الذِّهنيَّة إلى الكثير من الحب، فهو يستشعر كل شيء من حوله، ويعلم إن كان مرغوباً فيه أم أنَّه مصدر عار وإزعاج، ويراقب لغة جسد الطَّرف المقابل له، ويشعر بذبذباته الإيجابيَّة أو السَّلبيَّة؛ لذلك لن يستطيع أن يتطوَّر ويصبح أفضل إلَّا من خلال استشعاره القبول والرِّضا في محيطه.

يوجد زوجان من كل شيء في الحياة، أوَّلهما إيجابي والآخر سلبي، وكذلك في الإعاقة الذِّهنيَّة؛ فقد يتَّعظ بعض الناس من وجود فرد ذي إعاقة ذهنيَّة في عائلته، ويعد وجوده تحديَّاً كبيراً لقدرته على تجسيد قيمة العطاء والصَّبر، فيتحمَّس لكي يفوز في هذا التحدي الرَّاقي.

ومن جهة أخرى قد يشعر بعضهم الآخر بمنتهى اليأس والتشاؤم لوجود حالة من ذوي الاحتياجات الخاصَّة في منزله، ويجد أنَّ هذا من الظُّلم واللَّاعدل.

الإعاقة الذِّهنيَّة؛ تعريفها، وأسبابها، وأنواعها، والتعامل معها؛ مدار حديثنا خلال هذا المقال.

ما هي الإعاقة الذهنية؟

هي حالة من تأخر النُّمو العقلي في أثناء فترة نمو الطِّفل، بدءاً من المرحلة الجنينيَّة وحتى سنوات الطُّفولة الأولى؛ الأمر الَّذي يؤدِّي إلى الإعاقة عن ممارسة النَّشاطات اليوميَّة، كما تضطرب الوظائف الأساسيَّة للطِّفل؛ من إدراك وفهم ونطق ولغة، أي أنَّها قصور في واحدة أو أكثر من قدرات الطِّفل، مثل القدرة على الاستماع والكتابة والتهجئة، وإجراء العمليات الحسابيَّة، والتفكير.

ما هو تصنيف الإعاقات الذِّهنيَّة (درجاتها)؟

يكون هناك اختلاف بين العمر العقلي للطِّفل ذي الإعاقة الذِّهنيَّة وبين العمر الحقيقي له؛ أي لا يقوم الطِّفل بالنَّشاطات الَّتي يستطيع أقرانه القيام بها، فهو غير قادر على العيش مستقلاً كمن في مثل عمره.

تنقسم الإعاقات الذِّهنيَّة إلى ثلاث درجات، وهي:

1. الإعاقة الذِّهنيَّة البسيطة:

تشمل 80% من الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة، ويكون فيها الطِّفل مستعداً للتعلم والتدريب وصولاً إلى القيام بالأعمال وتحقيق الاستقلال الاقتصادي، ولديه القدرة على تحقيق نسبة جيدة من التفاعل الاجتماعي، كما قد يعاني من تأخر بسيط في النمو الحركي، ومن بطء خفيف في نمو اللغة والنُّطق؛ علماً أنَّ العمر العقلي للطِّفل في مرحلة النُّضج يكون مساوياً لعمر 8 إلى 10 سنوات، أي أنَّه في عمر الثامنة عشر عاماً إلَّا أنَّ عمر عقله 8 سنوات.

2. الإعاقة الذِّهنيَّة المتوسطة:

تمثِّل حوالي 12% من الأطفال ذوي الاحتياجات الخَّاصة، ويكون لديهم قابلية للتدريب وليس للتعلُّم، ويعانون من تأخُّر ملحوظ في المهارات الحركية وعدم تناسق العضلات، كما يتأثَّر نموَّهم اللُّغوي بحيث لا يستطيعون التواصل الاجتماعي، ويكون العمر العقلي لهذا الطِّفل في مرحلة النُّضج بين عمر الخامسة والسابعة.

3. الإعاقة الذِّهنيَّة الشَّديدة:

يُظهِر هنا الأطفال تأخراً كبيراً في النمو الحركي والاجتماعي والفكري واللُّغوي، ويحتاجون إلى قدر كبير من المساعدة، ويكونون قابلين للتدريب واكتساب سلوكات جيدة؛ بحيث يكونون قادرين على القيام بحاجاتهم الشَّخصيَّة الأكثر ضروريَّة؛ كالأكل وارتداء الملابس، والاستحمام؛ ويتراوح العمر العقلي للطِّفل في عمر النُّضوج بين 4 إلى 5 سنوات.

شاهد بالفيديو: كيف تشجّع طفلك على النطق

ما هي سمات الأطفال ذوي الإعاقة الذِّهنيَّة؟

1. فيما يخص الجانب الجسماني:

يكون الأطفال ذوي الإعاقة الذِّهنيَّة أقصر بالقامة وأصغر في الحجم من الآخرين، ولديهم ضعف في المناعة، واضطراب في النمو العام، كما يعانون من تشوُّه في الجمجمة والفم واللِّسان والأذنين، إضافة إلى صعوبات في السَّمع والبصر والكلام والإدراك.

2. فيما يخص الجانب الاجتماعي:

يعاني الأطفال ذوي الإعاقة الذِّهنيَّة من اضطرابات في التفاعل الاجتماعي، ولا يستطيعون تحمُّل المسؤوليَّة، ولا تتناسب تصرُّفاتهم مع عمرهم الفعلي، ويميلون إلى الانزواء والوحدة، ولا يملكون السيطرة على مزاجهم وردات أفعالهم السَّلبيَّة.

3. فيما يخص الجانب العقلي:

يعاني الأطفال ذوي الإعاقة الذِّهنيَّة من نمو عقلي بطيء، ومن انخفاض الذَّكاء عن غيرهم من الأطفال، ومن صعوبات في التركيز والانتباه والمحاكمة المنطقيَّة، وفي التذكر السمعي والبصري، وفي النُّطق وتكوين المصطلحات، وفي الفهم والتعلُّم والاستفادة من الخبرات.

4. فيما يخص الجانب اللُّغوي:

يعاني الأطفال ذوي الإعاقة الذِّهنيَّة من تأخر الكلام والنطق، وضعف الحصيلة اللغوية، والتأخر في اكتساب مهارات وقواعد اللُّغة.

5. فيما يخص الجانب التعليمي:

يحتاج الأطفال ذوي الإعاقة الذِّهنيَّة إلى الكثير من التكرار من أجل استيعاب المعلومة، وإلى اعتماد وسائل ترفيهيَّة لجذب الانتباه باستمرار، وإلى تنمية حس الملاحظة لديهم، لأنّهم يفتقدون مهارة الملاحظة التلقائيَّة.

إقرأ أيضاً: أهم النصائح لعلاج التأخر اللغوي لدى الأطفال

الفرق بين الإعاقة الذِّهنيَّة وبين المرض العقلي:

تعدُّ الإعاقة الذِّهنيَّة حالة عامة لازمة تصيب الطِّفل من فترة الحمل وحتى عمر 18 سنة، في حين أنَّ المرض العقلي عبارة عن مرض يصيب أشخاصاً كانوا طبيعيِّن، ويبدأ في سن 18 عام.

لا تحتاج الإعاقة الذِّهنيَّة إلى طبيب ودواء من أجل الشِّفاء منها؛ بل تحتاج إلى تدريب وجلسات من تعديل السُّلوك، في حين يحتاج المرض العقلي إلى طبيب مختص وطبيب نفسي ودواء من أجل الشِّفاء منه.

تنخفض نسبة الذَّكاء لدى الأشخاص ذوي الإعاقة الذِّهنيَّة في حين تبقى نسبة الذَّكاء عادية لدى مصابي المرض العقلي، ولكنَّهم ينفصلون عن الواقع.

ويعاني الأشخاص ذوي الإعاقة الذِّهنيَّة من تأخر لغوي في حين يعاني مصابو المرض العقلي من هذيان وليس تأخر لغوي.

أسباب الإعاقة الذِّهنيَّة:

1. الالتهاب والتسمم:

كإصابة الأم الحامل بالحصبة الألمانيَّة خلال الشهور الثلاثة الأولى من الحمل، أو بالأمراض الجنسيَّة مثل الزهري والأمراض الجلديَّة، كما قد يصاب الطِّفل بإعاقة ذهنيَّة نتيجة إصابته بالتهاب السَّحايا بعد الولادة، وقد تصاب الأم في أثناء الحمل بالتسمم نتيجة تناول العقاقير الطبيَّة والتدخين والكحول.

2. الرُّضوض والعوامل الجسميَّة:

مثل تعرُّض الأم الحامل إلى الأشعَّة السينيَّة، أو المشكلات المرتبطة بعملية الولادة والَّتي ينجم عنها تلف دماغي، أو نقص الأوكسجين عن الدِّماغ، أو الإصابات المباشرة على الدِّماغ، مثل السُّقوط من طوابق عالية.

3. اضطرابات عملية الأيض (التمثيل الغذائي):

مثل اضطراب باسم "الفينيل كيتون يوريا" و"الجلاكتوسيميا"، حيث لا يستطيع الجسم في حالة "الفينيل كيتون يوريا" تحويل مادة الفينيل ألانين إلى مادة التايروسين، ممَّا يؤدي إلى اضطراب في دماغ الطِّفل؛ حيث تتجزَّأ البروتينات داخل الجسم إلى أجزاء صغيرة تسمى "أحماض أمينيَّة"، ويكون لكل حمض أميني إنزيماً يساعده في مساره ليساهم في بناء أنسجة الجسم، أحد هذه الأحماض تسمَّى "فينيل ألانين".

يتراكم هذا الحمض الأميني داخل الجسم في حالة المصابين بالبيلة الفينيوليَّة؛ لأنَّ عمل الأنزيم الخاص به معطَّل بسبب خلل وراثي في الجين المسؤول عنه، حيث يؤدِّي تراكم هذا الحمض الأميني في أنسجة الجسم وارتفاع نسبة وجوده في الدَّم إلى تلف خلايا المخ مسبِّباً إعاقة عقلية قد تكون شديدة.

تعني حالة "الجلاكتوسيميا" تراكم "الجالاكتوز مع الدم" وهو اختلال وراثي نادر ينتج عنه خلل بقدرة الجسم على هضم الجالاكتوز ويؤثِّر على عملية تأييض سكر الجالاكتوز بحيث يمنع حدوثها بصورة سليمة، الأمر الَّذي يؤدِّي إلى تراكم كمية عالية من السُّميَّة (جالاكتوز-1- فوسفات) في الأنسجة، والَّذي ينتج عنه تلف في المخ.

4. الاضطرابات الدِّماغيَّة العامة:

وهي تشمل مجموعة من الأمراض والأورام التي قد تنتج عنها اضطرابات بيولوجيَّة وجينيَّة متنوعة.

5. الاضطرابات الكروموسوميَّة:

تعدُّ من الأسباب الهامة للإصابة بالإعاقة الذِّهنيَّة؛ ومن أشهرها المنغولية (متلازمة داون)، الَّتي يكون فيها عدد الكروموسومات في الخلية 47 بدلاً من 46 كروموسوماً، ويتوضَّع الكروموسوم الزَّائد على الزوج 21.

6. الوراثة:

قد تُوَرَّث العيوب المخيَّة عن طريق الجينات الَّتي تحمل صفات وراثيَّة "متنحية" غير ظاهرة سواء للأب أم للأم.

7. الاضطرابات في مرحلة ما قبل الولادة:

من أشكال هذه الاضطرابات: صغر حجم الرَّأس، واستسقاء الدِّماغ (تجمُّع السَّائل المخي الشوكي داخل الدِّماغ بسبب الأورام أو العمود الفقري المشقوق أو الالتهابات)، أو اضطراب أبرت (حالة جينيَّة يكون فيها حجم الجمجمة صغيراً ممَّا يمنع نمو الدِّماغ نمواً طبيعياً).

إقرأ أيضاً: ما هي الأمراض الوراثيّة، وماهي أنواعها، وكيف تحدث؟

التعامل مع الأطفال ذوي الإعاقة الذهنية:

  • على الأهل أن يسعوا إلى تقبُّل ابنهم من ذوي الاحتياجات الخَّاصة، حيث يشعر الطِّفل بكل ما يدور من حوله، وسيصله كل ما في قلب والدته، لذلك على الأم الانتباه إلى لغة جسدها، وتعابير وجهها، وأن تحافظ على البسمة، وأن تقدِّمه إلى كل المجتمع بكامل الفخر والثقة؛ فهو إنسان كغيره من النَّاس من حقه الحياة بالشَّكل الأمثل، ومن حقه التعليم والاحترام.
  • لكل إنسان على وجه الأرض صفات وعلامات تميِّزه وتجعله مختلفاً عن غيره من البشر، لذلك على الجميع أن يحترموا فكرة الاختلاف، وأن يحتفوا به، فالفارق بين الشَّخص ذو الإعاقة الذِّهنيَّة والآخر هو القدرات فقط ليس أكثر من هذا.
  • على كل من الزَّوجين مراقبة الجنين منذ أشهر الحمل الأولى، من أجل التشخيص المبكر عن أي احتمال لوجود إعاقة ذهنيَّة، حيث يساعد التشخيص المبكِّر على التدخُّل المبكر وإجراء الإجراءات اللَّازمة.
  • يلعب الإعلام دوراً كبيراً في توعية المجتمع على قضيَّة الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصَّة، وذلك من خلال تسليط الضَّوء على ضرورة احتواء هذه الشريحة من النَّاس والعمل على دمجها مع المجتمع؛ حيث تعزِّز عمليات الدَّمج من قدرة الأطفال على تقديم أفضل ما لديهم، وتمنحهم مشاعر إنسانيَّة غاية في الإيجابيَّة.
  • على المدارس أن تكون مستعدَّة لاستقبال الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصَّة؛ وذلك من خلال توفير الكوادر المؤهلة، واستخدام الأنشطة اللَّازمة لتطوير قدرات الأطفال، ومراعاة درجة الإعاقة وما تحتاجه من آليات تعليميَّة وتدريبيَّة.
  • من جهة أخرى، يجب على المدارس تطبيق آلية الدَّمج ما بين الأطفال العاديين والأطفال ذوي الاحتياجات الخاصَّة، وذلك من أجل الحصول على أفضل النتائج وتطوير قدرات الأطفال ذوي الإعاقة الذِّهنيَّة، ومن أجل كسر حاجز الخوف الَّذي يشعر به الأطفال العاديين تجاه الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصَّة.
  • يُفضَّل النَّظر إلى قضية الأطفال ذوي الاحتياجات الخَّاصة من منطلق شمولي؛ أي أن يتَّحد كل من المجتمع والأهل والمدرسة والقانون في سبيل الدِّفاع عن حقوق هؤلاء الأطفال.
  • على الأهل أن يحترموا حقَّ هؤلاء الأطفال في الحياة والتعليم والتدريب والحب والاهتمام؛ فهم لا ذنب لهم فيما هم عليه؛ لذلك على الأهل احتواء الأطفال، وتقديم أفضل ما لديهم لهم.
  • التَّعليم هام جداً لهؤلاء الأطفال؛ لأنَّه يطوِّر من شخصيَّتهم ويجعلهم أكثر قدرة على التفاعل الاجتماعي والتفكير والإدراك والحركة.

الخلاصة:

يستحقُّ طفلك ذو الإعاقة الذِّهنيَّة الكثير من الحب، والتقبُّل، والاهتمام.

نعلم أنَّه من الصَّعب رؤية طفلكِ بهذه الحالة، ولكن عليكِ أن تسمحي لمشاعر الرِّضا أن تطغى على مشاعر التذمُّر لديكِ، وأن تدركي الرِّسالة من وجود هذا الطِّفل في حياتك، فقد يكون تحدِّياً لكِ لإظهار مدى التزامك بالصَّبر والهدوء والشُّكر.

 

المصادر: 1، 2، 3، 4، 5، 6




مقالات مرتبطة