الإبداع والتكيُّف: استثمار الخيال بوصفه أداة رائعة للصحة النفسية

يُعدُّ البشرُ من بين نسبةٍ صغيرةٍ جداً من المخلوقات التي لديها قدرةٌ مُوثَّقة على تصوُّر أفكار خلَّاقة ومُعقَّدة ونابضة بالحياة؛ إذ نستطيع الخوضَ في قصصٍ خيالية مَرِحة، مثل قيادة سيارة أحلامنا، أو السفر إلى المواقع الغريبة والجذَّابة، أو العثور على الحب الحقيقي بطريقة رومانسية، ويمكننا كذلك تصوُّر أسوأ المواقف المُحتمَلة أو السيناريوهات كتخيُّل أن تكون أكبر مخاوفنا وهمومِنا على وشك أن تتحقق أو مواجهة نوعٍ مُحدَّد من الفوبيا أو الرُّهاب لدينا أو تخيُّل كيفية سير الجدال مع الشريك تماماً في وقت لاحق.



نصادف هذه الظاهرة في حياتنا يومياً وغالباً ما نستخدمها لدعم أنفسنا ومساندتها بطرائق مختلفة، فبإمكاننا تخيُّل الذهاب إلى موعدنا القادم لدى الطبيب لإعلام أنفسنا بالطريقة التي يمكن أن نستجيب بها لوجودنا هناك؛ ومن ثَمَّ لن تصيبَنا الدهشةُ حول أيٍّ من المشاعر التي تعترينا، أو بإمكاننا تخيُّل أنفسِنا نتناول عدة وجبات في مطاعم مختلفة كي نُعلِّمَ أنفسنا بما نرغبُ في تناوله وفقاً لحالتنا المزاجية في ذلك اليوم، ولسوء الحظ يمكن لهذه المهارة أن تنمو وتتطوَّر متحوِّلةً إلى عرض في سياق عديد من الاضطرابات النفسية والعقلية المختلفة، ولاسيما اضطرابات القلق والاكتئاب.

الخوف الكارثي والتشويه المعرفي الإدراكي:

تُدعَى هذه الفكرة عادةً بالخوف الكارثي؛ إذ يُشير هذا المُصطلَح إلى التحريف أو التشويه المعرفي الإدراكي، والذي يُعبِّر عن استخدام الشخص لقدراته التخيُّلية باستمرار لرؤية أسوأ السيناريوهات المُمكنة والتي لا تخطر في باله كفكرةٍ عابرة؛ بل تبدأ سلسلةً من ردود الأفعال بناءً على مزيد من الأفكار المأساوية والكارثية؛ ومن ثمَّ يتحوَّل هذا التشويه الإدراكي إلى عادة لدى الشخص، ليبدأ بإقناع نفسِه بأنَّه كلَّما تخيَّلَ النتائج والأفكار الكارثية أكثر، زاد احتمالُ حدوثها أكثر فأكثر.

يؤثِّر ذلك تأثيراً عميقاً في وعي الشخص ومزاجه معزِّزاً بدوره الاضطرابات النفسية الموجودة لديه؛ ورغم أنَّنا نمارس جميعاً هذا التشويه الإدراكي إلى حدٍّ ما إلَّا أنَّ الأشخاص الذين يُلاقون صعوبةً في امتلاك وجهة نظر متوازنة عن النتائج والحقائق غير المُجدية في سبيل تعزيز وعيهم وإدراكهم هم الذين يكتسبون عادة الخوف الكارثي.

لكن ثمة أخبار جيدة أيضاً، فكما ينجم عن قدراتنا المُذهِلة في رؤية الأحداث المُستقبليَّة الممكنة بهذه الطريقة التفصيلية نتائج غير مرغوبة، كذلك يمكننا استثمارُها للحصول على عديد من الفوائد المَرجُوَّة؛ فإن أخذنا الموعد لدى الطبيب كمثال سيجدُ الشخص الذي يُعاني الخوف الكارثيَّ نفسَه واقعاً في مأزق صعب للغاية بسبب الظروف والعقبات الساحقة.

شاهد: 5 نصائح تُحفّزك على الإبداع

العلاج السلوكي الجدلي:

من يستخدم مهارة التأقلم المتقدِّمة المُستخلَصة من العلاج السلوكي الجدليِّ، والذي ابتكرَته الدكتورة "مارشا لاينهان" (Marsha M. Linehan) في عام 1993، فإنَّه سيتخيل نفسَه في ذلك الموقف المُرهِق أو الباعث على التوتر بالنسبة إليه، ويستخدم المعلومات المُكتسَبة منه في تعلُّم كيفية تخطِّي ذلك الموعد بأكبر قدر من الفاعلية قبل الذهاب إليه حتى.

إقرأ أيضاً: مفهوم الإبداع ومعوقات التفكير الإبداعي

قد يتطلَّب ذلك إحضار عناصر للمساعدة على التأقلم، مثل كتاب أو أُحجية، والتي ربَّما لم نكُن لنفكِّر بإحضارها بطريقة أخرى، أو اصطحاب أحد الأصدقاء للمساندة والدعم، أو الإفصاح عن المشاعر في سبيل التخلُّص منها قبل الذهاب للموعد وبعدَه، أو إعداد جائزة مستقبلية بوصفها مكافأة لأنفسنا لتخطي ذلك الموعد بسلام وغيرِها من الوسائل.

إقرأ أيضاً: 7 طرق تساعدك على التكيّف مع متغيرات الحياة

في الختام:

يوجد عددٌ لا محدود من الخيارات التي يمكن أن تكون مستنيرةً ووافية بمجرَّد أن نتخيَّل أنفسَنا في موقف مستقبلي مُزعِج، والأكثر أهميةً من ذلك هو تخيُّل أنفسِنا متكيِّفين معه؛ وحين نتَّخذ عادةً جديدةً باستخدام الخيال للتخطيط لاستراتيجيات تأقلمٍ خاصَّة بالضغوطات المستقبلية بدلاً من السماح لتلك الضغوطات بتعزيز نفسِها بالخوف الكارثي، سنكون قادرين على تقليل استجابتنا الإجمالية للتوتر تجاه مزيدٍ من الأحداث التي اعتقدْنا يوماً أنَّها مستحيلة أو تفوق طاقتنا.




مقالات مرتبطة