الأتمتة وتأثيرها على المجتمع

عندما ذهبت برفقة والدتي وطفلتي إلى عيادة طبيبة الأطفال، قدمت الرقم الذي أدونه في مفكرة جهازي المحمول للطبيبة، لتدخله إلى حاسب العيادة وتخرج إضبارة طفلتي الرقمية التي تحتوي على معلوماتها وسجلها المرضي منذ لحظة الولادة وحتى آخر مراجعة، الأمر الذي ذكَّر أمي بأيام طفولتنا التي كانت فيها عيادة طبيب الأطفال مليئة بالأضابير التي بدا عليها أثر الزمن، وكان استحضار السجل الخاص بكل طفل وتوضيبه يستغرق من الممرضة المساعدة والجهد والوقت الكافي لمعاينة ثلاثة أطفال آخرين.



إنَّها الأتمتة؛ فهي واحدة من التطورات التقنية التي طالت جميع المجالات في عصرنا الراهن، والطريقة التي أضافت إلى حياتنا الكثير من السرعة والسهولة والوضوح، والتي سنفرد لما يتعلق بأهميتها وتأثيرها في المجتمع هذا المقال.

مفهوم الأتمتة:

إنَّ الأتمتة أو (Auto mission) هي مصطلح يدل على عملية استبدال الأعمال اليدوية بالأجهزة التي يتم التحكم بها إلكترونياً، كما المثال الذي أوردناه في المقدمة الذي استُبدل فيه البحث اليدوي بين الأضابير الورقية بالبحث حاسوبياً بين السجلات الرقمية، واستبدلت فيه المفكرة الورقية بتطبيق المفكرة الرقمية التي تم تثبيتها على الهاتف الشخصي.

يعني مفهوم الأتمتة تولِّي الآلات والأجهزة الإلكترونية المقادة حاسوبياً مهمة التحكم بالمسؤوليات والعمليات، والغرض من استخدامها هو رفع معدل الموثوقية والكفاءة في أداء المهام، بعيداً عن الأخطاء البشرية واردة الحدوث في أيَّة لحظة فضلاً عن السرعة والدقة؛ وهذا ما كان سبباً في انخفاض الحاجة إلى العمالة كون الآلات حلت محل اليد العاملة البشرية في تشغيل الكثير من المجالات؛ وهذا ما أثار حفيظة المحللين الاقتصاديين وحرَّك مخاوفهم تجاه ارتفاع معدلات البطالة بشكل ملحوظ منذ أن ظهرت الأتمتة.

اقتحمت الأتمتة عالم الصناعة التحويلية التي تهدف إلى تحويل المواد الخام إلى منتجات جاهزة للطرح في الأسواق، وكان ذلك عن طريق استبدال المجهود البشري في التحويل والتعليب والتغليف بخطوط إنتاج آلية تقوم تلقائياً بكل ما كان يقوم به البشر.

إنَّ مصطلح الأتمتة يشتمل على العديد من الأنظمة والعناصر والوظائف الرئيسة التي تدخل في جميع مجالات الصناعة، وخاصة الصناعات التحويلية وعمليات المرافق والمنافع كالماء والكهرباء، وعمليات النقل، بالإضافة إلى أنظمة الدفاع الوطنية مثل أنظمة مراقبة الحدود وأنظمة الدفاع الجوي، ولا يقتصر وجود الأتمتة على المجالات السابقة التي ذكرناها؛ بل تعداه لتدخل جميع الوظائف المتضمنة في الصناعة من تركيب ودمج وصيانة وتسويق واحتساب المشتريات والمبيعات.

إذاً، فإنَّ مصطلح الأتمتة تم إطلاقه على كل ما يعمل آلياً دون تدخل بشري، وهو مصطلح بدأت أولى موجاته بالظهور بعد الحرب العالمية الثانية، وتحديداً في الولايات المتحدة الأمريكية تزامناً من ظهور الحاجة والاهتمام من قِبل المعامل إلى ضرورة استخدام المعدات الضخمة في عملية التركيب، من أجل رفع معدلات الإنتاج وتخفيض تكاليف الأيدي العاملة.

منذ ذلك الوقت والأتمتة في تطوُّر متلاحق ومستمر أدى إلى ابتكار البشرية لتجهيزات وآليات تمتلك القدرة على القيام بالمهام المعقدة والحرجة، وبدقة وسرعة تفوق القدرات البشرية بأضعاف مضاعفة.

كيف أثرت الأتمتة في المجتمع؟

إنَّ تأثير الأتمتة في المجتمع هو تأثير بالغ وجذري، فقد أحدثت الأتمتة نقلات نوعية تقدمية في جميع المجالات التي دخلتها، وكان لدخولها الكثير من الإيجابيات في تحسين الجودة والنوعية والسعة والإنتاجية في جميع القطاعات.

كيف أثرت الأتمتة في الأعمال المكتبية؟

إنَّ الاختلاف في هيئات ومعدات المكاتب بين الماضي والحاضر هو نتيجة تأثير الأتمتة في الأعمال والمهام المكتبية، وترى التغيير واضحاً في هيئة المكتب التي كانت سابقاً مليئة بالرفوف التي تحتوي على الأضابير الورقية والمفكرات والأقلام والأوراق والأجندات والمقصات والدبابيس والشرائط اللاصقة، والتي حل محلها جميعاً حاسب مكتبي أو محمول يوفر للموظف أوراق عمل لا تنتهي ومساحات تخزينية للملفات والسجلات لا تتآكل بفعل الرطوبة والعفونة والغبار؛ وهذا ما كان سبباً في تطوير العمل المكتبي والارتقاء به وتقديمه على أكمل وجه من السرعة والدقة.

كيف أثرت الأتمتة في الأعمال الصناعية؟

إنَّ تأثير الأتمتة في العمليات الصناعية كان من أبلغ تأثيراتها في الحياة البشرية، وكان عن طريق استبدال الطواقم البشرية لمعامل وخطوط إنتاج بأكملها بالآلات والمعدات المدارة تقنياً من قِبل الحاسوب؛ الأمر الذي تسبب في تسريح الكثير من الأيدي العاملة من جهة، ولكنَّه انعكس إيجاباً على كميات الإنتاج التي تضاعفت وجودته التي ارتفعت والسرعة في إنتاجه وبكفاءة عالية.

إقرأ أيضاً: 6 مهارات لن يحلّ الذكاء الاصطناعي فيها مستقبلاً محل البشر

كيف أثرت الأتمتة في القطاع التعليمي؟

إنَّ تأثير الأتمتة في قطاع التعليم كان إيجابياً وبنَّاءً، فقد حلت أجهزة الإسقاط محل الألواح والأقلام، وحلت الملفات الرقمية محل الكراسات الورقية، وحلت المكتبات الإلكترونية والسحابية محل المكتبات المدرسية والجامعية.

من التغييرات الجذرية التي أثر بها دخول الأتمتة إلى القطاع التعليمي، ظهور الاختبارات المؤتمتة التي صبت نزاهتها ومصداقيتها وسرعتها في إظهار النتائج في مصلحة الطلبة والمدرسين، فضلاً عن تضافر الأتمتة والإنترنت لفتح آفاق التعليم إلى مدى غير محدود؛ وذلك عبر ظهور تقنية التعليم عن بُعد الذي وفر الحصول على العلم لكل طالب له بصرف النظر عن عمره وعمله ومكان سكنه.

كيف أثرت الأتمتة في الأوساط الاجتماعية والسكانية؟

لقد فرضت الأتمتة بالغ التأثير في السكان والأوساط الاجتماعية كونها حلت محل الكادر البشري في المنشآت الصناعية وتسببت في طرد العمالة الفائضة؛ وهذا جعل الكثيرين من العمال يعانون من البطالة.

من جهة أخرى فقد أصبحت الأتمتة مجالاً بحثياً يستقطب أعداداً لا بأس بها من السكان من أجل تطويرها وتعلُّمها وإتقان وسائل صيانتها وطرائق التعامل معها، ولعلَّ القادم من تطورات الأتمتة سيكون أشد تأثيراً؛ إذ يجزم الكثيرون بانتشار الروبوتات محل البشر في الكثير من الوظائف خلال حقبة قادمة ليست بالبعيدة.

سلبيات الأتمتة:

على الرغم من الإيجابيات الكبيرة التي قدمتها الأتمتة للمجتمعات من رفع في معدلات الإنتاجية وتيسير عمليات التصنيع وتقليل الوقت والجهد اللازمين لأداء أيَّة مهمة، إلا أنَّ انتشارها انطوى على حدوث بعض السلبيات التي سنقوم بتحديدها كما يأتي:

1. ارتفاع تكاليف تطبيقها:

على الرغم من خفض تكاليف اليد العاملة الذي تقدمه الأتمتة، إلا أنَّ استقدامها بحد ذاته إلى منشأة صناعية يرتب عليها تحمل نفقات كبيرة؛ وذلك من أجل تشغيل الآلات وصيانتها وتوظيف كادر بشري احترافي متخصص ومدرَّب بالإشراف عليها.

2. قلة المرونة:

من سلبيات الأتمتة قلة مرونتها في بعض الأحيان وعجزها عن مواكبة التحديثات في العمل، فعندما يتم استبدال كادر بشري في معمل ما بتقنيات جديدة سيتعذر بعد مدة تغيير المنهج العملي أو الأسلوب الذي تم جلب الأجهزة على أساسه، وأي تحديث وتطوير في خطة العمل يتطلب تجهيزات جديدة.

3. القصور عن فهم الطبع الإنساني:

مهما تفاقم استخدام الأتمتة ومهما استطاعت إزاحة البشر من بعض المناصب والمهام، إلا أنَّها تظل قاصرة عن سد الثغرة في العمل الذي يتطلب احتكاكاً مع مشاعر الناس، ففي عمليات البيع مثلاً لا يمكن للآلة مهما تطورت تقنياتها استقراء قلق العملاء أو اضطرابهم كما يفعل الموظف البشري.

4. العجز عن محاكاة المرونة البشرية:

من سلبيات الأتمتة أنَّها تعجز عن محاكاة المرونة التي تمتلكها اليد العاملة البشرية، فمهما تقدمت الآلات وتطورت تظل قاصرة عن تحقيق الأداء الاحترافي الذي تصنعه يد الإنسان المبدعة الممهورة بعظمة الخالق.

5. المشكلات التقنية:

من سلبيات الأتمتة أنَّ الأجهزة والآلات تكون معرضة لحدوث المشكلات التقنية وإصابة الحواسب المسيِّرة بالفيروسات؛ وهذا يسبب أخطاء جسيمة في العمليات التي يتم تنفيذها، عدا عن وجود احتمالات لفقد بعض المعلومات؛ وهذا يشكل خطراً على تنفيذ الخطة المرسومة حسب الجدول الزمني.

6. الحاجة إلى الوجود البشري:

مهما ادعت الآلة أنَّها تستطيع أن تحل محل الإنسان تظل قاصرة عن تحقيق هذا الأمر، فهو مُنشِئها وصانعها، وتظل بحاجة إلى صيانته ومراقبته وإشرافه في كل حين.

7. تهديد الصحة النفسية للإنسان:

إنَّ الموظفين الذين تم استبدالهم في خطوط الإنتاج بأجهزة وآلات تقنية، سوف يعانون من وطأة القلق النفسي والشعور بالدونية والعجز، فضلاً عن الشح المادي الذي سيضطرون إلى العيش فيه كونهم فقدوا مصادر دخلهم، وقد يُجبَرون على ترك مدنهم وأسرهم للبحث عن عمل جديد؛ لذا فإنَّه يعاب على التقانة ويُعَدُّ من سلبيات الأتمتة وقوع الإنسان تحت الضغط النفسي بسبب وجودها.

شاهد بالفديو: فوائد الرياضة على الصحة النفسية

8. تعليم الناس الكسل:

يرى الكثير من المتخصصين أنَّ تعويد الإنسان على الكسل هو من سلبيات الأتمتة، فمنذ اختراع الآلات الحاسبة وتطبيقاتها التي تعمل على الأجهزة الذكية والحواسب الشخصية لم يعد الناس قادرين على إتمام العمليات الحسابية البسيطة ذهنياً؛ وهذا ما تسبب في تراجع مهاراتهم الرياضية، كما أنَّهم اعتادوا على المنبه في تذكيرهم بمواعيدهم وإيقاظهم في الصباح، ووكلوا أمر حفظ التواريخ الهامة لتطبيقات التقويم، وأسندوا للمفكرة مهمة حفظ أي شيء كانت مهمة حفظه ملقاة على الذاكرة.

لا يقتصر الكسل الذي تسببت الأتمتة بوجوده على الكسل العقلي؛ بل تسببت أيضاً بحدوث كسل جسدي، فلم يعد الناس يسيرون على أقدامهم بعد امتلاكهم السيارات، وتوقفوا عن طحن البن بالطواحين اليدوية واستبدلوها بأخرى آلية، وحتى هدهدة الأطفال للنوم في حضن الأم أو الأب تم تصميم آلات تقوم بها، وفي الفترة الأخيرة ظهر الروبوت الذي يقوم بمسح الأرضيات بدل أن يقوم الإنسان بذلك فزادت مظاهر الرفاهية والراحة والكسل.

إقرأ أيضاً: ما هو الذكاء الاصطناعي (AI)؟ وماهي تطبيقاته ومخاطره؟

في الختام:

إنَّ الأتمتة التي تعني استبدال الإنسان بالآلة المدارة حاسوبياً أحدثت نهضة صناعية وتعليمية عظيمة في المجتمع، نتج عنها الكثير من الإيجابيات مثل زيادة الإنتاجية والسرعة والدقة والموثوقية، فضلاً عن علائم الراحة والرفاهية التي ظهرت على الإنسان بعد قدومها، والمواكبة للركب التقدمي والتطوري، ولكنَّها في الوقت ذاته، حملت بعض السلبيات مثل تسببها بفقدان الكثير من الموظفين لأعمالهم واضمحلال بعض المهارات الفطرية البشرية تتربع في مقدمتها.

المصادر: 1، 2، 3، 4




مقالات مرتبطة