افهم قبل أن تحكم

هل سبق وأن نظرت إلى شيء ما وفكرت قائلاً: "ما هذا الجنون؟". تخيل شخصاً يدفع مبلغاً باهظاً من المال لشراء سترة، في حين أنَّ بإمكانه الحصول على شيء مماثل مقابل جزء بسيط من هذا السعر؛ أو تخيل إطلاق شركة لمنتج بدا غريباً للغاية، ممَّا دفعك إلى أن تنظر إليهم وتتساءل عمَّا كانوا يفكرون فيه، حيث بدا لك هذا غير منطقي أبداً، وربَّما غبياً حتى؛ ولكن بالنسبة إليهم، كان ذلك عين الصواب.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن المدونة ميليسا (Melissa)، والذي تحدثنا فيه عن أهمية التفكير قبل إصدار الأحكام. 

إذا كان هذا الشعور مألوفاً بالنسبة إليك، فلك أن تتخيل كيف شعر الناس عندما سمعوا عن الهمبرجر بالجبن لأول مرة، وتساءلوا قائلين: "من هذا الأحمق الذي أضاف الجبن إلى اللحم؟".

هناك جدل يدور حول من قرر أولاً أن يحشو قطعة من الجبن بين شطيرتين من لحم البقر، ولكن يعود الفضل غالباً إلى ليونيل ستيرنبرجر (Lionel Sternberger) الذي كان يعمل في سن السادسة عشرة كطاهٍ مختص بالقلي في محل ذا رايت سبوت (The Rite Spot) التابع لوالده في باسادينا (Pasadena) بولاية كاليفورنيا، والذي قرر في إحدى أيام عام 1926 أن يجرب إسقاط قطعة من الجبن على الهمبرجر.

بالنسبة إلى معظم الناس حالياً، يبدو الجبن الذائب الساخن على البرغر لذيذاً للغاية؛ ولكن في ذاك الوقت، لم يكن الأمر كذلك، وكانت بعض الكلمات المستخدمة لوصف هذه الظاهرة الجديدة هي "مجنون" و"غريب" و"دليل آخر على غرابة أطوار سكان كاليفورنيا".

لقد بدا الجبن في البرغر غريباً بالنسبة إلى بقية البلاد، تماماً مثل البرغر المطهو من لحم من الديك الرومي مع المكسرات؛ رغم أنَّ كلها أشياء موجودة الآن.

أدلى فيما بعد كاتب لصحيفة نيويورك تايمز (New York Times) الذي تجرأ على تجربة "البرغر بالجبن" بالملاحظة التالية: "قد يبدو مزيج لحم البقر مع الجبن والطماطم التي تُوضَع أحياناً أمراً غريباً في البداية؛ ولكن إذا فكرت قليلاً، فستفهم أنَّ التركيبة تبدو سليمة من الناحية الغذائية".

ثمَّ بدأ آخرون في الاتفاق مع هذا البيان؛ وبمجرد أن بدأت مطاعم الوجبات السريعة -مثل ماكدونالدز (McDonald’s)- صنع هذا النوع من البرغر، وصل البرغر بالجبن إلى السوق الرئيس.

إقرأ أيضاً: التفكير: المفهوم وأنواعه

إنَّ إصدار الأحكام أمر سهل ومُرضٍ:

إذا كان بإمكان شخص ما إصدار حكم بشأن حشو البرغر بالجبن، فتخيل الحكم الذي يأتي باتخاذ قرارات أكبر قد تغير الحياة.

إنَّه لمن السهل أن تحكم على الآخرين، حيث يُشعِرك ذلك بالتحسن والرضا؛ وقد تظن أنَّك عندما تحكم على شخص ما، فإنَّك تضع نفسك في مرتبة أعلى، وتنظر إلى أفعال هذا الشخص أو غيره، ويدور في ذهنك أنَّ ما يفعله الآخرون ليس منطقياً.

إنَّ سبب عدم رؤية الأشياء من منظور الآخرين أمر مفهوم تماماً؛ فنحن نقضي حياتنا كلها في عيش مواقفنا الخاصة، ورؤية الأمور بأعيننا نحن، وإدراك واستيعاب كل شيء بناء على تجاربنا السابقة؛ ممَّا يجعل وجهات نظرنا هي النموذج الافتراضي؛ ولكن عندما تحاول أن ترى الأمور من منظور شخص آخر، تُجبَر على التفكير في حياته وظروفه والتجارب التي شكلت شخصيته، وفي سبب تفكيره أو شعوره بطريقة معينة بناء على من هو وما يفعله.

هذا أمر صعب للغاية؛ ولذلك، نختار ببساطة الحفاظ على العيش من وجهة نظرنا؛ لذا عندما ترى شخصاً يفعل شيئاً يبدو مجنوناً أو غير عقلاني من وجهة نظرك، يسهل عليك رفضه؛ ولكن بعد مزيد من التفكير، قد يكون ما فعله أمراً منطقياً؛ فحتى إذا كان سلوك شخص ما يبدو غير منطقي في البداية، فعادة ما يكون هناك سبب وجيه وراء ذلك.

معنى أن تكون ذكياً ليس كما تعتقد:

عندما نفكر في شخص ذكي، نتخيل عادة شخصاً محقاً في كل الأمور؛ إذ نعتقد أنَّ الشخص الذكي يمتلك المعرفة والإجابات كلها.

لقد كان تصورنا للشخص الذكي يتوافق مع هذا الوصف حتى عندما كنَّا في المدرسة، حيث كان يُنظَر إلى الطلاب الحاصلين على درجات عالية على أنَّهم أذكياء؛ ومن أجل الحصول على هذه الدرجات العالية، كان عليهم الإجابة بطريقة صحيحة عن معظم الأسئلة في اختباراتهم.

لكن، إذا سألت مؤسس أمازون "جيف بيزوس" (Jeff Bezos) عمَّا يميز الشخص الذكي، فستحصل على إجابة مختلفة؛ فبالنسبة إلى (جيف)، ليس الذكي من يقوم بما هو صحيح، بل القادر على الاعتراف بأنَّه مخطئ وأنَّ عليه تغيير رأيه.

إقرأ أيضاً: التفكير الايجابي طريقك للبدء في تغيير الواقع

يراجع الأشخاص الأذكياء  - باستمرار - فهمهم لشيء ما من خلال النظر إليه من منظور مختلف؛ فهم يسعون إلى تحدي طريقة تفكيرهم الحالية من خلال استيعاب الأفكار والمعلومات الجديدة ووجهات النظر المتناقضة، ويكونون منفتحين على تغيير آرائهم.

وفقاً لأستاذ جامعة ستانفورد بوب ساتون (Bob Sutton)، يصف الأشخاص في معهد بالو ألتو للمستقبل (Palo Alto’s Institute for the Future) الأشخاص الأذكياء بأنَّهم أولئك الذين يمتلكون آراء قوية وأخرى ضعيفة".

تمثل الآراء الضعيفة مشكلة؛ ذلك لأنَّ الناس لا يدعمونها بحجج قوية، أو أنَّهم لا يكلفون أنفسهم عناء اختبار هذه الآراء؛ لكن من ناحية أخرى، تتسبب الآراء الراسخة بشدة في إصابة الناس بعمىً تجاه الحجج المختلفة والمتناقضة؛ فعندما يتمسك الناس بأفكارهم بإحكام شديد، يبدؤون تحريف كل ما يرونه ليتناسب مع آرائهم الخاصة، وهذا ما يُعرَف باسم الانحياز التأكيدي.

لا يعني أن تكون ذكياً أن تكون دائماً على حق؛ إذ يتعلق الأمر بالاستعداد لتغيير وجهة نظرك والاعتراف بأنَّك كنت مخطئاً، كما يتعلق برؤية الموقف نفسه من زاوية مختلفة.

شاهد بالفديو: 8 طرق تفكير ستضعك على طريق النجاح

كيف تحافظ على المرونة في آرائك القوية؟

ربَّما هناك شيء واحد على الأقل في حياتك تؤمن به بشدة، ولديك عدد من الأسباب التي تدعم موقفك؛ وسيكون التفكير في خلاف ذلك غير منطقي بالنسبة إليك.

عندما يقوم شخص ما بعمل يتعارض تماماً مع ما تؤمن به، فقد يكون بمثابة صدمة، وتكون غريزتك الأولى بالتأكيد هي وضع درع وحماية نفسك منه؛ ذلك لأنَّك لا تريد الاستماع إلى حججه أو محاولة فهم ما يفعله.

فكر في محاولة الرؤية من منظور الشخص الآخر، فقد يكون لديه بعض الأسباب الجيدة أيضاً؛ إذ يُعدُّ فهم ما يفعله أو ما يقوله شخص آخر -حتى لو كان يتعارض مع رؤيتك الخاصة للعالم- مفيداً للغاية، وفيما يأتي بعض الأسباب:

1. فهم الآخرين أمر جيد للعلاقات الشخصية: تجبرنا الحياة في بعض الأحيان على التفاعل مع الأشخاص الذين يفكرون ويتصرفون بشكل مختلف؛ لذا، غالباً ما تخلق الرؤية من وجهة نظر شخص آخر التعاطف الذي يبني الثقة والتواصل.

2. فهم الآخرين أمر جيد للأعمال التجارية: من أجل إنشاء منتجات أو خدمات تلبي ما يريده الناس، عليك أن ترى الأمور من منظورهم؛ فتماماً كالطريقة التي رأت بها مطاعم الوجبات السريعة مدى إمكانية تقديم شرائح البرغر بالجبن بالقدر الكافي لوضعها على قوائم الطعام، يجعل بذل الجهد لفهم سلوك الناس منحهم ما يريدون أمراً سهلاً.

3. يمنح فهم الآخرين مزيداً من راحة البال: إنَّه شعور مزعج عندما لا تستطيع فهم سبب تعامل شخص ما مع مشكلة ما بطريقة مختلفة عن طريقتك.

لقد كنت عالقاً في عاداتك وسلوكاتك الخاصة لفترة طويلة، حتى أصبحت رؤية شخص ما يفعل شيئاً مختلفاً تُشعِرك بعدم الارتياح؛ ولكن عندما تحلل طريقة تفكيره، يصبح من الأسهل قبول سبب قيامه بتصرفات معينة، حتى لو لم تقم بها شخصياً.

لذا، في المرة القادمة التي ترى فيها شخصاً يفعل شيئاً يبدو غير منطقي أو مربك، توقف لثانية، واسأل نفسك قبل أن تصل إلى أي استنتاجات أو تصدر أي أحكام: "لماذا؟ ما هو سبب قيام شخص ما بعمل شيء ما؟ وما هي الأسباب التي قد تؤدي إلى مثل هذا التصرف؟"، وتخيل كيف هي حياة هذا الشخص وظروفه.

على سبيل المثال: لقد قضى شخص أعرفه عدداً من الساعات كل أسبوع في القيام بأعمال استشارية مجانية للشركات الصغيرة والمتوسطة بعد المدرسة.

قد تعتقد للوهلة الأولى أنَّ هذا غير منطقي؛ فلماذا يخصص شخص ما الكثير من الوقت والطاقة مجاناً، خاصة إذا كان الطرف الآخر يستفيد من كل هذا الجهد؟ ولكن كان هناك سبب وجيه لذلك؛ فقد وضع هذه التجربة في سيرته الذاتية واستخدمها للتقدم إلى وظيفة مدفوعة الأجر في شركة أخرى بعد التخرج.

عندما بدأت رؤية الأشياء من منظور شخص آخر، وجدت أنَّه من الأسهل فهم سبب تصرف الأشخاص بطرائق معينة.

إقرأ أيضاً: 4 تمارين مهمة لتنمية المهارات العقلية عند الإنسان

توفر لك الرؤية من منظور شخص آخر البصيرة:

اكتشفت مع مرور الوقت أنَّني كنت أقل سرعة في الحكم، وصرت أواجه مواقف مشابهة، وأسمع عن تجارب الآخرين، وأتعلم أنَّ التعامل مع المشكلات ليس بهذه البساطة حينما تتطلب المواقف بعض المرونة.

إنَّ بذل الجهد لفهم شخص آخر أمر صعب، ويتطلب الكثير من الطاقة؛ لذلك لا نتعب أنفسنا عادة؛ ولكن عندما تختبر بالفعل وجهة نظر شخص آخر، سيمنحك ذلك بصيرة وحكمة.

المصدر




مقالات مرتبطة