إساءة المعاملة والإهمال الوالدي وتأثيره على الأطفال

تمثِّل الأسرة الدعامة التي يُبنى عليها المجتمع؛ فهي أهمُّ المؤسسات الاجتماعية التي ينشأ الفرد داخلها وتجعل منه إنساناً اجتماعياً متشرِّباً لقيم المجتمع ومعاييره السائدة وأنماط السلوك التي تمكِّنه من التفاعل مع البيئة الاجتماعية الموجود فيه، ومعرفة الأدوار المنوطة به وواجباته تجاه نفسه وتجاه أسرته والمجتمع أيضاً، ولا يكون ذلك كله إلا من خلال عملية التنشئة الاجتماعية السليمة.



في الحقيقة تُمثِّل مرحلة الطفولة مرحلةً حساسةً جداً، فتتَّسم بالضعف واعتماد الصغارِ على الكبار في تأمين احتياجاتهم ومتطلبات حياتهم؛ فالطفل لا يستطيع النمو والتعلم من تلقاء نفسه، وفي ظل هذه الاعتمادية المطلقة على الراشدين قد يتعرَّض الطفل إلى الإساءة، فقد أصبح العنف الموجَّه نحو الأطفال من أبرز المشكلات العالمية التي لا يكادُ مجتمعٌ يخلو منها سواء أكان هذا المجتمع من الدول المتقدمة أم الدول النامية والمتخلِّفة.

هذا العنف الذي قد يكون في جزء منه ظاهراً يؤدي إلى موت الأطفال في بعض الأحيان، وفي كثيرٍ من الأحيان غير ظاهر ومستتر وقد لا يستطيع الطفل الإبلاغ عن تلك الإساءة؛ خشية التعرض للعقاب مرةً أخرى من صاحب الإساءة، والأسوأ من الإساءة نفسها هو اعتقاد صاحب الإساءة أنَّ ما يحدث هو أمرٌ طبيعيٌّ ويصبُّ في مصلحة الطفل وتربيته تربيةً جيِّدةً؛ بل أكثر من ذلك هو اعتقاد الطفل نفسه بأنَّه يستحقُّ ذلك، كما قد يشعرُ بالخجل والذنب أيضاً.

أولاً: إساءة معاملة الأطفال وأشكالها

عرَّفت منظمةُ الصحةِ العالميَّةِ سوءَ المعاملةِ بأنَّه:

التعسف ضد الأطفال، أو سوء معاملتهم، وأنماط سوء المعاملة كلها الجسدية والعاطفية والاعتداءات الجنسية والإهمال، أو المعاملة المتهاونة، أو الاستغلال التجاري، أو غيره من أنماط الاستغلال التي من شأنها أن تتسبَّب في إلحاق الأذى بصحة الطفل أو حياته أو كرامته أو تطوره في سياق علاقة؛ تنطوي على المسؤولية والثقة والسلطة.

إنَّ إساءة معاملة الوالدين هي كلُّ فعلٍ يصدر عن الوالدين أو أحدهما أو مَنْ يقومُ برعايةِ الطفل، وتؤدي إلى موت الطفل أو تؤثر فيه جسدياً أو نفسياً، وبمعنى أدق هي أيُّ فعلٍ يؤدي إلى إعاقة نمو الطفل على نحوٍ سليمٍ من الناحية الجسدية أو النفسية أو العاطفية.

إنَّ ظاهرة إهمال الأطفال والإساءة لهم من الظواهر التي تسود العالم، فقد أشارت الإحصاءات في الفترة الأخيرة إلى أنَّ الطفل يتعرض للإساءة بأنواعها (الجسدية والنفسية والجنسية) داخل أسرته من والديه أو سواهم من أفراد العائلة، فضلاً عن الإهمال المقصود، فيتعرَّض الطفل لشتى أنواع الإساءة، ومنها:

1. الإساءة الجسدية:

مثل تعرضه للعقاب الجسدي القاسي في أثناء عملية التأديب التي تؤثر في صحته الجسدية مثل إصابته بالخدوش أو الكسور أو الحروق.

2. الإساءة النفسية:

مثل الشتائم اللفظية والإهانات المتكررة والعزل والتهديد بعقوبات أشد والرفض والتحقير والإهمال العاطفي، هذه الأفعال التي توحي إلى الطفل بأنَّه شخصٌ مكروهٌ ومنبوذٌ وغيرُ مرغوبٍ به اجتماعياً، وأنَّه شخصٌ ليس له قيمة ولا نفع منه.

شاهد بالفيديو: أهم النصائح لحماية الطفل من المشاكل النفسية

3. الإساءة الجنسية:

كالمداعبة، واللواط، وسفاح القربى، والاغتصاب، والتعرض إلى مواد إباحية، واستغلالهم في الصور الإباحية.

4. الإهمال الجسدي والتعليمي:

أي التقصير بتلبية احتياجات الطفل، لا سيَّما الأساسية منها كحرمانه الغذاء، أو عدم تقديم الرعاية الصحية المناسبة له، أو عدم إلحاقه بالمدارس، أو دفعه نحو التسرب وترك التعليم، وعدم القيام بتوفير متطلباته التعليمية، شرط ألَّا يكون ذلك سببه الفقر والأوضاع الاقتصادية المتردية للأسرة.

بحسب تقارير منظمة الصحة العالمية يوجد حوالي 40 مليون طفلاً من الذين تقل أعمارهم عن 15 سنة يعانون الإهمال وسوء المعاملة، كما تشير الإحصاءات ضمن الولايات المتحدة الأمريكية إلى أنَّ نحو 2000 طفل يموتون سنوياً نتيجةَ إساءةِ معاملة الأهل وإهمالهم.

بالنظر إلى تلك الأرقام المخيفة، فقد عملت الأمم المتحدة على السعي إلى حماية حقوق الطفل، فقد نصَّت المادة 19 من اتفاقية حقوق الطفل الصادرة عن الأمم المتحدة على: "أن تتخذ الدول الأطراف الموقعة جميع التدابير التشريعية والإدارية والاجتماعية والتعليمية الملائمة لحماية الطفل من أنماط العنف أو الضرر أو الإساءة البدنية أو العقلية أو الإهمال أو المعاملة المنطوية على الإهمال وإساءة المعاملة أو الاستغلال كافة، بما في ذلك الإساءة الجنسية وهو في رعاية أحد الوالدين أو كليهما، أو الوصي القانوني/ الأوصياء القانونيين عليه أو أي شخص آخر يتعهد برعاية الطفل".

ثانياً: الأسباب المؤدية لسوء معاملة الأطفال

إنَّ إساءة معاملة الأطفال موجودة في كل المجتمعات وفي مختلف الطبقات الاجتماعية وليست حكراً على طبقة محددة، ولا يوجد سبب واحد لحدوثها، كما لا توجد صفة محددة يمكن أن نطلقها على الأسرة التي تقوم بتعنيف أطفالها، ومن جملة الأسباب المؤدية إلى إساءة معاملة الطفل:

1. أسباب مرتبطة بالأهل أو الشخص المسؤول عن رعاية الطفل:

قد يكون أحد الوالدين أو مقدم الرعاية لديه مشكلة مثل إدمان الكحول أو المخدرات أو مصاباً بأحد اضطرابات الشخصية أو أحد الأمراض النفسية، نتيجة حادث ما سابقاً أو نتيجة تعرضه إلى الإساءة في أثناء طفولته.

2. أوضاع الأسرة الاقتصادية والاجتماعية:

قد يتعرض الأطفال في الأسرة إلى سوء المعاملة أو تزداد بنسبة كبيرة نتيجةَ الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية السيئة التي تمر بها الأسرة، مثل الخلافات الزوجية، والطلاق، وتعدُّد الزوجات، والبطالة، والضغوطات المالية، وعدم القدرة على تحمُّل النفقات المالية الكبيرة، والعزلة الاجتماعية للأسرة، وعدم مشاركتها في الفعاليات والنشاطات الاجتماعية.

3. أسباب ترتبط بالطفل نفسه:

غياب فهم الأهل لمرحلة الطفولة وخصائصها وكيفية المعاملة الصحيحة مع الطفل، كما أنَّ وضع الطفل الصحي غالباً ما يكون سبباً رئيساً في تعرضه للإساءة؛ فحسب الدراسات فإنَّ الأطفال الذين لديهم إعاقة جسدية هم أكثر عرضة للإساءة من غيرهم من الأطفال.

4. أسباب ترتبط بالمجتمع الذي يوجد فيه الطفل:

قد تزيد العوامل البيئة المحيطة بالطفل من احتمال تعرضه للإساءة والإهمال، مثل انتشار الفقر والبطالة ومعاناة المجتمع من نقص الدعم وانتشار الآفات الاجتماعية مثل ارتفاع معدلات الجريمة وانتشار الإدمان وغير ذلك.

ثالثاً: آثار إساءة الأهل للأطفال

لا شكَّ في أنَّ تعرُّض الطفل للإساءة يحمل في طياته العديد من النتائج السلبية التي تستمر معه لفترات طويلة من الزمن، وتظهر آثارها في المراحل المتقدمة من عمر الطفل، وتؤثر في باقي مجريات حياته وتمنعه من العيش بسلام، وتتلخص الآثار التي تلحق بالطفل فيما يأتي:

1. الآثار الصحية والجسدية:

قد يتسبب التعنيف بآثارٍ آنيَّة مثل الحروق والكسور والكدمات، وقد يتسبب كذلك بآثار طويلة الأمد مثل الأذية الدماغية أو إعاقة دائمة.

2. انخفاض في القدرات الذهنية:

سوء المعاملة يرافقه غالباً تدنٍّ في التحصيل العلمي، كما بيَّنت الأبحاث انخفاض ذكاء الأطفال الذين تعرضوا للإساءة بالمقارنة مع الأطفال الذين لم يتعرضوا لها.

3. الآثار النفسية:

لسوء المعاملة أثر مدمِّر في نفسية الطفل وسلوكه ونموه ونضجه، فيتسبب العنف باحتقار الطفل لنفسه وفقدان الثقة بالنفس والاكتئاب؛ نتيجةَ إحساسِه بالرفض والتحقير ضمن الأسرة والمجتمع، ناهيك عن خوفه وقلقه الدائم من كل شيء.

رابعاً: مؤشرات تعرض الأطفال إلى الإساءة

  1. الإجفال والخوف من الآخرين وتفضيله للعزلة والابتعاد عن التجمعات البشرية.
  2. رفض الطفل للمساعدة التي يعرضها عليه الآخرون.
  3. فقدان الثقة بالنفس، وانخفاض تقدير الذات.
  4. البكاء الدائم.
  5. وجود إصابة جسدية مثل الكدمات.
  6. الشكوى من الآلام.
  7. خسارة الوزن أو العكس.
  8. اضطرابات النوم.

شاهد بالفيديو: 7 أخطاء تدمر الطفولة

خامساً: معالجة سوء معاملة الأهل للأطفال والوقاية منها

  1. التوعية بمخاطر تعنيف الأطفال: يكون ذلك من خلال استغلال وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والطرقية للتوعية بأضرار تعنيف الأطفال وتوضيح آثاره في الطفل والمجتمع، وتوضيح العقوبات التي يمكن أن يتعرض لها مرتكب هذه الجريمة بحقِّ الطفل أيَّاً كانت صلة قرابته بالطفل.
  2. حرص الدول على سنِّ القوانين والتشريعات التي تحد من جرائم الإساءة إلى الطفل وتمنعها، وتشديد العقوبات بحق كل مرتكب لها.
  3. الإبلاغ عن الإساءة: تشجيع ثقافة التبليغ عن الإساءة تجاه الأطفال في المجتمع عامة.
  4. إعداد برامج موجَّهة للأسر التي تعاني حالاتٍ يمكن أن تقودَها إلى ارتكاب الإساءة للأطفال مثل برامج رعاية مدمني الكحول، وبرامج رعاية المعاقين.
  5. حثُّ الأسر كافة ضمن المجتمع على المشاركة في الفعاليات الاجتماعية والاحتكاك ببقية أفراد المجتمع.
  6. إعداد برامج خاصة بالأسر التي حصلت ضمنها حالات إساءة معاملة للأطفال وتحديد الأسباب التي أدت بها إلى ذلك، ومعالجتها؛ لمنع تكرار حدوثها ومساعدة الأطفال المتضررين منها قدر الإمكان.
إقرأ أيضاً: الإهمال العاطفي في مرحلة الطفولة: علاماته، وتأثيراته، وطرق التغلب عليه

في الختام:

إنَّ الإساءة إلى الأطفال وتعنيفهم مشكلة اجتماعية خطيرة، وعلى الرَّغم من أنَّها قديمة إلَّا أنَّها إحدى المشكلات التي تستقطب اهتماماً كبيراً من الباحثين والمنظمات العالمية المعنية بشؤون الطفل وحمايته، والإساءة إلى الطفل هي كل رد فعل مباشر أو غير مباشر يرمي إلى إيقاع الأذى النفسي أو الجسدي أو الجنسي به، ويوجد اتفاق شبه عام في دول العالم على عَدِّ الإهمالِ والعنف الأُسَريِّ ضد الطفل أفعالاً إجرامية وخاطئة يجب محاسبة مرتكبيها وحث الحكومات على سن القوانين وإسنادها بالعقوبات الرادعة لمنع مثل هذه الجرائم بحق الطفولة.




مقالات مرتبطة