إدارة الفريق بوصفه نسخة منك: خطأ يقضي على الإبداع والابتكار
القيادة هي فنُّ استخراج الأفضل من كل شخص، وكما قال الكاتب الشهير "ستيفن كوفي": "القائد لا ينمو إلَّا من خلال قيادة الآخرين، أمَّا المدير فينمو فقط عندما يتحكم بهم".
تخيَّل مديراً يجلس خلف مكتبه، وينظر إلى أحد الموظفين ويقول بنبرة واثقة جداً: "لماذا لا تفكر مثلي؟ لو اتَّبعت أسلوبي في حل المشكلات لنجحتَ أكثر".
هذا المدير واقع يتكرر في عدد من المؤسسات حول العالم، يعتقد أنَّ طريقته هي الأسلوب الأمثل، فيطلب من فريق العمل نسخ أسلوبه في العمل ويتوقع منهم أن يحلُّوا المشكلات بالطريقة ذاتها التي يتبعها.
ماذا يحدث لاحقاً؟ يجد الموظفون أنَّ أفكارهم ووجهات نظرهم لا قيمة لها، حينها لا يمكن أن نتوقع منهم الابتكار في العمل؛ لأنَّهم يكتفون غالباً بتنفيذ المهام على مضض؛ بينما يعتقد فيه المدير أنَّه يرفع الأداء. الحقيقة أنَّ هذا المدير لم يستفد من تنوع الفريق؛ بل رأى أنَّ اختلاف الأفكار تهديد لا مصدر قوة.
يُطرح هنا السؤال الآتي: هل تعتقد حقاً أنَّ طريقتك في العمل هي الطريقة الوحيدة الصحيحة للنجاح؟
القيادة الحقيقية ليست أن يصنع القائد نسخ أخرى منه؛ بل أن يكتشف نقاط قوة كل فرد ضمن فريقه المتنوع، ويجعله مبدعاً من موقع اختلافه.
نظرة إلى التحدي: "طريقتي في العمل هي ما أوصلني للنجاح، ولابد أن يطبقها الفريق لنحصد نجاحاً أكبر"
"أكبر خطر في أوقات الاضطراب ليس الاضطراب نفسه؛ بل التصرف بمنطق الأمس" – بيتر دراكر.
هذا ليس مجرد رأي عابر؛ بل هو معتقد سلبي عميق يتحكم في عقول كثير من القادة، ويعد العائق الخفي الذي يمنع المؤسسات من الانطلاق تجاه الابتكار في العمل. فيظن القائد أنَّ هذا المعتقد صحيح؛ لأنَّه يثق بخبرته الشخصية التي أوصلته إلى هذه النقطة من النجاح، وبالنسبة له كل ترقية وكل مشروع ناجح قام به هو دليل قاطع على أنَّ أسلوبه، هو البوصلة التي يجب أن يتبعها الجميع، ويجعله ذلك يعتقد أنَّ ماضيه مَجْدٌ، واستنساخ ذلك المجد هو الطريقة الوحيدة لتحقيق النجاح مستقبلاً.
يمثل هذا المعتقد فخاً خطيراً، فيحوِّل الفريق إلى نسخ متشابهة، ويقتل تنوع الفريق ويخسر حلولاً مبتكرة كان من الممكن أن تطوِّر كثيراً في المؤسسة؛ لأنَّ فرض المدير لأسلوبه على الجميع يعد بمنزلة "تطهير" للفريق من أية أفكار أو منهجيات مختلفة، فيصبح الإبداع تجاوزاً للحدود والأفكار الجريئة تدميراً للقواعد الثابتة في المنظومة، بالتالي خسر الفريق ميزة التفكير خارج الصندوق؛ لأنَّ الصندوق أصبح محدداً بأسلوب المدير وحده.
مثال: شركة "كوداك" الأمريكية، والتي كانت رائدة لسنوات طويلة في مجال التصوير الفوتوغرافي؛ كان للقادة فيها إيمان أنَّ طريقتهم في صناعة الأفلام الفوتوغرافية، هي الطريقة الوحيدة الصحيحة، وهذا الإيمان كان قوياً لدرجة أنَّهم تجاهلوا اختراع كاميرا رقمية من قبل أحد مهندسيهم في عام 1975. لماذا؟ لأنَّها لم تتناسب مع طريقتهم التي كانت ترتكز على الفيلم الكيميائي، فاعتقدوا أنَّ الالتزام بأسلوبهم المعتاد، هو سر النجاح، والنتيجة كانت إفلاس الشركة في النهاية.
ما حدث في "كوداك" ليس حالة فريدة؛ بل هو درس يُستفاد منه، وخصيصاً اليوم في عالمنا سريع التغير.
"إصرار المدير على توحيد فريقه من أسوأ أساليب القيادة، فهو السبب الرئيس في إضعاف الفريق".
شاهد بالفيديو: 10 مهارات أساسية لتصبح قائد فريق ناجحاً
نقطة التحول: "تنوع الشخصيات هو وقود الإبداع في الفريق"
"تكمن القوة في الاختلافات، لا في التشابهات" – ستيفن كوفي.
بعد أن أدركنا أنَّ الإصرار على التماثل، يقتل التنوع حان الوقت لتبنِّي المعتقد الجديد الفعال: تنوع الشخصيات هو وقود الإبداع في فرق العمل.
يمثل هذا المعتقد تحوُّلاً جوهرياً في فلسفة القيادة، فالقائد الناجح لا يبحث في فريقه عن نسخ منه؛ بل يبحث عن عقول مختلفة تتكامل معه ويرى في كل فرد في فريقه قطعة فريدة تزيد جمال اللوحة الكلية.
لا يعد تنوع الفريق واختلاف الشخصيات تهديداً للقيادة؛ بل هو مصدر قوتها. عندما يجمع القائد فريقاً يضم شخصيات من خلفيات مختلفة، بمهارات متنوعة ووجهات نظر وطرائق تفكير متنوعة، فإنَّه يبني شبكة أمان فكرية، فما يغفله أحد أعضاء الفريق يراه الآخر، وما لا يتقنه شخص يبدع فيه شخص آخر والنتيجة حلول أكثر عمقاً وابتكاراً، وتجنب وقوع الفريق في فخ التفكير الجماعي المُنصَبِّ في اتجاه واحد، والذي يؤدي إلى قرارات ضعيفة وحلول تقليدية.
يمكننا أن ننظر إلى مشروع "أرسطو" الذي أجرته شركة جوجل لعدة سنوات، فقد اكتشفَت سر الفرق الناجحة، كانوا يعتقدون أنَّ الفرق التي تضم ألمع العقول هي الأفضل، ولكنَّ نتائج بحثهم كانت مفاجئة، فقد وجدوا أنَّ الأداء الأفضل، لم يرتبط بمهارات الأعضاء الفردية؛ بل بوجود "الأمان النفسي"؛ أي شعور أعضاء الفريق بالراحة في التعبير عن وجهات نظرهم وأفكارهم حتى الغريبة أو غير المكتملة منها دون الخوف من الحكم أو السخرية.
الأمان النفسي هو ما يطلق العنان لتنوع الفريق، فكلما شعر الأعضاء أنَّ اختلافهم محترم ومطلوب، ازداد حماسهم للمساهمة بحرية أكبر، مما يؤدي إلى تدفق الأفكار وإيجاد حلول لم يكن بالإمكان التوصل إليها إلَّا بوجود أساليب القيادة التي تحترم التنوع، فلا تقل: "افعلوا كما أفعل"؛ بل قُلْ "اجعلوني أرى ما لا أستطيع رؤيته"، إنها أساليب قيادية تؤمن أنَّ ذكاء الفريق، يفوق ذكاء القائد الفردي.
فكِّر الآن جيداً كيف سيتغير فريقك لو رأيت في اختلافهم قوة بدل أن تراها ضعفاً؟
"يمكن للقائد الذي يؤمن أنَّ القوة تكمن في تنوع الفريق الانتقال من مرحلة الإدارة إلى مرحلة الإلهام والإنتاجية".
شاهد بالفيديو: تعزيز الإبداع والابتكار في فريق عملك
وصفة النجاح: خطوات عملية لتمكين الاختلاف
إذا كنت قد اقتنعت أنَّ تنوع الفريق قوة، فالسؤال الآن هو: ما هي الخطوات العملية التي يمكنني اتخاذها لتحويل هذا المعتقد إلى واقع ملموس في فريقي؟
لا تعد أساليب القيادة التي تحتفي بالاختلاف فكرة نظرية؛ بل هي سلسلة من الممارسات اليومية، إليك وصفة عملية مكونة من خمس خطوات تحقق ذلك:
1. التعرف على أنماط شخصيات فريقك
"الخطوة الأولى تجاه التغيير هي الوعي، والخطوة الثانية هي القبول" – ناثانيال براندن.
لا تُدار الشخصيات المختلفة ضمن الفريق بالطريقة نفسها، فالإنسان المنطقي يختلف عن الإنسان العاطفي، والمبدع يختلف عن الملتزم بالقواعد.
لتحقيق أقصى استفادة من فريقك يجب أن تفهم كيف يفكر كل عضو فيه وما هي محفزاته. فمثلاً شركات عالمية، مثل شركة جوجل تعتمد اختبارات شخصية متقدمة ليس فقط في مرحلة التوظيف؛ بل أيضاً لمعرفة كيف يفكر كل عضو في الفريق، وكيف يتخذ قراراته، وما هي بيئة العمل التي تطلق العنان لطاقاته.
توفر هذه الاختبارات للقادة رؤية عميقة حول نقاط القوة والميول الطبيعية لأعضاء الفريق، مما يسمح بتوجيههم بفعالية.
2. توزيع المهام بناءً على نقاط القوة
اسأل نفسك بعد أن تتعرف على أنماط الشخصيات: هل أوظف كل فرد في مكان يناسب شخصيته ومهاراته الفريدة؟
يشير تقرير من شركة ماكينزي (Mckinsey & Company)، شمل 366 شركة عامة، إلى أنَّ الشركات التي لديها فرقاً تنفيذية متنوعة عرقياً وثقافياً، تكون أكثر احتمالاً بنسبة 35% لتحقيق أرباح أعلى من المتوسط في صناعتها، ولكنَّ ذلك لا يحدث تلقائياً، فالقائد الذي يوزع المهام بناءً على نقاط القوة لدى الأعضاء هو من يجني ثمار تنوع الفريق.
فمثلاً لا يقوم الموظف الذي يمتلك مهارات تحليلية فائقة بمهام تتطلب إبداعاً بصرياً، ولا تتطلب من المبدع أن يغرق في تفاصيل جداول البيانات.
"يرى القادة الناجحون الإمكانيات في الناس ويساعدونهم على إطلاقها" – بن هورويتز.
3. تشجيع الاختلاف في الاجتماعات
"إذا فكَّر الجميع بالطريقة نفسها، فإنَّه لا أحد يفكر حقاً" – بنجامين فرانكلين.
الاجتماعات غالباً تكون ساحة للبحث عن "اتفاق سريع" لتجنب النقاشات الصعبة ولكنَّ هذا الأسلوب يقتل الإبداع والابتكار في العمل، وواجب القائد الحقيقي أن يشجع وجهات النظر المتعددة حتى المتعارضة منها.
تضم بعض مجالس الإدارة العالمية وحتى في المنطقة، مثل بعض مجالس الإدارة في الإمارات العربية المتحدة شخصيات من خلفيات متنوعة (فنانون، ومهندسون، وخبراء ماليون) والهدف من ذلك ضمان اتخاذ قرارات متوازنة وشاملة، وعلى القائد أن يخلق بيئة آمنة يقول الجميع فيها ما يفكِّرون فيه دون خوف من الحكم.
4. تعديل الأسلوب القيادي وفق مَن أمامك
الذكاء العاطفي هو جوهر هذه الخطوة الهامة؛ لأنَّ الذكاء العاطفي، يعني أن تتعامل مع الموظف بما يناسب طبيعته. هل تتعامل مع الموظف المنطقي الذي يحتاج إلى حقائق وأرقام بالأسلوب ذاته الذي تتعامل به مع الموظف العاطفي الذي يحتاج الدعم المعنوي؟
تتطلب القيادة الفعالة المرونة في التواصل والتوجيه؛ لذلك عليك أن تغيِّر نبرة صوتك، وأسلوبك، وطريقة تقديمك للمعلومات لتناسب كل فرد، فالذكاء العاطفي يوصِل إلى التكيف الذي يبني جسور الثقة ويجعل الموظفين يشعرون بأنَّهم مفهومون ومقدَّرون.
"أهم شيء في التواصل هو سماع ما لم يقال" – بيتر دراكر.
5. جعل التنوع جزءاً من ثقافة الفريق
لا يعد تنوع الفريق حدثاً عابراً أو سياسية مكتوبة، إنَّما هو ممارسة يومية يجب أن تتغلغل في نسيج مؤسستك، فمثلاً شركات عالمية مثل (IBM) لم تجعل التنوع مجرد قسم في الموارد البشرية؛ بل حوَّلته إلى قيمة مؤسسية ترتبط بكل مشروع وقرار توظيف وخطة عمل، ويُحتفى بالاختلافات في الأفكار ووجهات النظر، بوصفها المحرك الرئيس للابتكار والنمو.
هذا ما يُبقي الفريق في حالة تطور مستمر وأن يتكيف مع أي تحدٍ جديد يواجهه.
"الممارسات اليومية التي تبدأ بالتعرف على شخصيات فريقك وتعتمد على الذكاء العاطفي هي خطوات عملية لتمكين الاختلاف وبناء ثقافة مؤسسية قوية"
في الختام
ليست القيادة الحقيقية في استنساخ أسلوبك وتوزيعه على كل فرد ضمن فريقك؛ بل هي فن استخراج الأفضل من كل شخص، واكتشاف الإمكانات الفريدة التي يمتلكها والمهارات التي تميزه، لتوفير البيئة التي تسمح لكل فرد بالنموِّ والازدهار، وبالتالي نموِّ مؤسستك.
إذا تعاملت مع فريقك بوصفه نسخة منك، ستقضي على طاقاتهم المبدعة وتحد نموهم وسيكون إنجازهم مرهوناً برؤيتك، فلا تضيِّع الفرصة واستفِد الآن من تنوع الفريق؛ لأنَّ تنوعهم ثروة حقيقية، واتباع الخطوات العملية التي ذكرناها في مقالنا يصنع لك فريقاً لا يُقهر، فابدأ من اليوم بتلك الممارسات.
تذكَّر دائماً أنَّ "التنوع قوة… لا تهديد".