أهمية تقبل شخصيتنا في الماضي

يحدث أمر مقلق للغاية في ثقافتنا في الوقت الحالي؛ إذ إنَّه في قلب ثقافتنا السامة هناك شعور خبيث سريع الانتشار؛ إنَّه "الاستحقاق"، وتحديداً، الحق في إبداء الحكم على الآخرين.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن المُدوِّنة "نانسي كوليير" (Nancy Colier)، والتي تُحدِّثنا فيه عن تقبُّل ما كنَّا عليه سابقاً.

كمجتمع، أصبحنا نُفرط في إلقاء أحكامنا على غيرنا، فنحن نشعر بالجرأة وبأنَّه من حقنا المطلق أن نصدر الأحكام على كل شيء وكل شخص؛ إذ إنَّنا لا نحكم على ما يقوله أو يفعله أو يؤمن به الجميع الآن فحسب؛ بل إنَّنا نحكم أيضاً على ما قاله أو فعله أو آمن به الجميع عبر التاريخ، ونرى أنَّه من حقنا أن ننتقد وندين الذين سبقونا، على وجه التحديد، لكونهم أقل وعياً وتطوراً ممَّا نحن عليه الآن؛ نحن نعيب ما اعتدنا أن نكون، وفي الوقت نفسه، ننكر أنَّ هذا ما كنَّا عليه.

نحن لا نكتفي بالحكم على الآخرين فحسب؛ بل على أنفسنا أيضاً؛ إذ بِتنا نهاجم ونعيب ونرفض النسخ السابقة من أنفسنا، ونحكم ونلقي اللوم على ما كنَّا عليه سابقاً، غير أنَّنا نحكم ونلوم من خلال رؤيتنا لمن نحن عليه الآن، ومن أصبحنا.

وبشكل غريب، نتوقع من أنفسنا أن نكون قد عرفنا وفهمنا دائماً ما نعرفه ونفهمه الآن. إنَّنا نعيب أنفسنا لكوننا ننمو باستمرار، ولأنَّه علينا أن ننضج ونستمر بالنضوج، ولأنَّنا لم نولَد كاملين ومثاليين. وكلما ازداد وعينا وإدراكنا، ننظر إلى النسخة الأقل نضجاً من أنفسنا بقدر من الازدراء والاحتقار.

أخبرتني إحدى عميلاتي، والتي تُدعى "لورا" (Laura)، عن تجربة رائعة عايشَتها مؤخراً؛ إذ قامت بعمل طيب جداً لجارتها، وكانت قد شعرت بشعور جيد جراء ذلك؛ ولكن قبل أن تُكمل قصتها، غيَّرت "لورا" اتجاه الحديث إلى السخرية والانتقاد تجاه نفسها، وتحدثت على وجه التحديد؛ عن تجربة سابقة مضت منذ 20 عاماً، عندما تصرفت بلطف وكرم أقل.

لقد سلبت منها حاجتها إلى تحقير وإدانة من كانت عليه في العشرينيات من عمرها، فرصة تقدير هذه التجربة الجميلة، وتقدير الشخص الذي أصبحت عليه الآن كامرأة في الأربعينيات من عمرها. خلال لحظة، كانت قد تخلَّت عن النسخة الحالية من نفسها، وعادت إلى كراهية الذات والشعور بالعار، محاطة بالندم ممَّا كانت عليه.

الأمر غريب حقاً؛ إذ إنَّنا لا نتوقع طبعاً أن يتمكن أطفالنا من الركض لحظة ولادتهم، فنحن ندرك جميعاً أنَّنا كبشر نحتاج إلى التدحرج لمدة 9 أو 10 أشهر، ثم الزحف، ثم الوقوف والوقوع، ثم محاولة المشي لبعض الوقت متمسكين بشيء ما، ثم اتخاذ خطوتين بمفردنا، ثم السقوط أكثر، ثم اتخاذ خطوات أكثر، ثم السقوط، ثم المشي.

نحن نتقبل أنَّنا نحتاج إلى أن ننضج على المستوى الجسدي، وأن نفشل حتى نتمكن من النجاح، وإلى حدٍّ ما، نحن نتمسك بهذا الاعتقاد نفسه فيما يتعلق بتطورنا العقلي، مدركين حاجتنا إلى التعليم.

ومع ذلك، ولسبب ما، عندما يتعلق الأمر بتطورنا العاطفي والروحي، ونضوج شخصيتنا ووعينا، نتوقع الكمال مباشرةً. نحن نحرم أنفسنا من الحق في التعلم والتطور مدى الحياة، وبالمثل، في التغيُّر والنمو على مدى أجيال.

الحياة عملية تحول لا نهاية لها؛ إذ إنَّنا لا ننتهي أبداً من النمو. ومع مرور الوقت، ومن خلال تجاربنا التي عشناها، نتعلم من نريد أن نكون، ومن نحن قادرون على أن نكون.

الحقيقة هي أنَّنا لا نبلغ أفضل نسخة من أنفسنا؛ إنَّما ننمو ونتعلم كيف نكون كذلك، خاصةً إذا لم يكن لدينا آباء يمكن أن نقتدي بهم بسلوكنا؛ إذ إنَّنا نصبح أكثر تطوراً ووعياً، وربما أكثر رحمة، من خلال التجربة وارتكاب الأخطاء والقدوة الحسنة والفشل والخبرة، حتى نصبح الناس الذين يمكن أن نحترمهم ونفتخر بهم. هذه بالتحديد رحلة الحياة، والهدف منها، أمَّا إنكار هذه الحقيقة أو المطالبة بخلاف ذلك هو إنكار للواقع.

شاهد بالفديو: 8 نصائح لتحب نفسك وتمنحها حقها

عندما نحكم وندين سلوكاتنا الماضية ومستوى وعينا بناءً على ما نحن قادرون عليه الآن، فنحن لا ننكر الواقع فحسب؛ بل نرفض أنفسنا أيضاً؛ إنَّنا نرفض التغيير، وأن نصبح نسخاً أفضل من أنفسنا. إنَّنا نتمسك بإخفاقاتنا الماضية في مواجهة نجاحاتنا الحالية كوسيلة للتمسك بهوياتنا القديمة.

غالباً ما يكون أساس حكمنا هو الشعور بالخجل، فنحن نعيب أنفسنا لأنَّنا نضجنا روحياً، كما لو أنَّ هناك طريقة أخرى لتطورنا. نحن ندين أنفسنا لأنَّنا نريد أن ننمو ونصبح أفضل نسخة من أنفسنا؛ لأنَّنا كنَّا غير مثاليين يوماً، وفي الوقت نفسه، نحجب الذات التي أصبحنا عليها من أن تصبح أكثر نضجاً، ومن تحقيق إمكاناتنا.

بصفتنا بشراً، نحن ننمو باستمرار؛ إذ إنَّه لا توجد نقطة نصل عندها إلى وجهتنا النهائية حيث تكتمل ذواتنا. ومرة تلو الأخرى، ندرك أنَّ ما فكرنا وآمنا به من قبل، وربما حتى بالأمس، لم نعُد نفكر ونؤمن به الآن، ونكتشف أنَّنا تغيرنا.

ينطبق الشيء نفسه علينا كجنس بشري؛ إذ إنَّ مَن كنَّا عليه في أوقات سابقة من التاريخ، ليس ما نحن عليه الآن، ولا عار في ذلك، فهذا ما كان عليه الأمر.

لكن في المقابل، فإنَّ كل دقيقة نقضيها في الإدانة والحكم على من كنَّا عليه، وكل لحظة نضيعها في الوقت الحاضر متوقعين ومطالبين أنفسنا الماضية بأن تعرف ما نعرفه حالياً، لا تُعَدُّ رفضاً كاملاً للواقع وللحالة الإنسانية فحسب؛ ولكنَّها أيضاً لحظة فقدناها، وكان يمكن أن نقضيها في عيش حياتنا بنسخة أكثر تطوراً ممَّا نحن عليها الآن.

المصدر




مقالات مرتبطة