أهمية تفهم المعارك النفسية التي يخوضها الآخرون لتقديم عمل إبداعي

يمكنك تحسين العالم بالتعاطف والحبِّ، ويمكن لوجهة النظر الجيدة أن تكون مفيدة جداً. لقد قضيت صباح أحد الأيام في وسط مدينة لاس فيغاس (Las Vegas) محاولاً التقاط لحظات من الحياة الواقعية بكاميرتي التي أضحت بمنزلة صديقي المقرَّب؛ فمتعة تصوير الشارع (Street photography) تكمن في إجبارك على التمهل، ومراقبة العالم من حولك عن كثب.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن المدوِّن جون وايس (John P. Weiss)، يحدِّثنا فيه عن أهمية تفهُّم المعارك النفسية التي يخوضها الآخرون لتقديم عمل إبداعي.

التحدي المتمثل في تصوير الشارع هو أنَّه من الصعب التقاط صور للأشخاص عن قرب في حالتهم الطبيعية من دون تأخيرهم عن أشغالهم أو إزعاجهم، فأحياناً أبتسم ببساطة، وأطلب الإذن لالتقاط صور للأشخاص، وفي أحيانٍ أخرى يلاحظ الأشخاص الكاميرا التي أحملها، ويعرضون التقاط الصور لهم.

لا يحدث هذا الأمر كثيراً، ولكنَّه يكون رائعاً عند حدوثه، ولقد حدث ذات مرة مع شابة جميلة كانت تبيع بطاقات لرحلات الحافلات السياحية، وبينما كنت أمشي نظرت إليها فابتسمت، وقالت لي: "هل تريد التقاط صورة لي؟" كانت حماستها، وشخصيتها المتفائلة معديتين.

لكن في هذا الصباح كنت أرغب في شيء أكثر من مجرد التقاط بعض اللقطات الرائعة؛ لذلك ركبت في سيارتي، وقدتُّها باتجاه المدينة إلى مركز تسوق خارجي أزوره كثيراً.

عندما وصلت اشتريت فنجان قهوة، وجلست على مقعد في الحديقة، وأمامي ممر للمشاة يمرُّ فيه كثير من الناس؛ لأنَّه يقع بين عديد من الشركات تماماً مثل لغزٍ مُحيِّر، في اللحظة التي توقفت فيها عن البحث عن الإجابة - أي فرص رائعة لالتقاط الصور - بدت الصور كأنَّها تقدم نفسها لي.

الكاميرا هي جواز سفري:

لقد جلست على مقعد الحديقة دون تطفل، ووضعت الكاميرا في حضني، ووجهتها على المارِّين، ووجهت الشاشة إلى جهتي؛ ومن ثَمَّ كان يمكنني رؤية الأشخاص الذين يقتربون مني بينما أبدو، وكأنَّني أنظر إلى الأسفل.

لقد درست الأشخاص الذين يتجولون حولي؛ لأنَّني كنت أجلس بهدوء، ولا أريد التقاط الصور، جلست باسترخاء، وبدأت ألاحظ كثيراً من الأشياء، فقد وفَّر لي مقعد الحديقة هذا زاويةً مثالية، فقد قال المصور الصحفي الأمريكي ستيف ماكوري (Steve McCurry): "تتشكل حياتي بحاجتي الملحة إلى التجول والمراقبة، والكاميرا الخاصة بي هي جواز سفري".

جلست أراقب من حولي، فرأيت رجلاً يرتدي ملابس رسمية إلى حدٍّ ما، ويضبط معدات الصوت في منطقة الجلوس الخارجية في مطعم إيطالي بجانب الحديقة، وعلى الرَّغم من كونه رجلاً قوي المظهر، إلا أنَّه كان كبيراً في السن، وعانى قليلاً مع المعدات.

لم يلاحظ الناس الذين يتناولون الطعام بجانب هذا الرجل جهوده؛ فقد كان بإمكاني سماع أنفاسه التي كان يأخذها بصعوبة، ولقد بدا متعباً قليلاً، لكن بعد ذلك جلس خلف لوحة موجِّهاً الصوت، وحوَّل نفسه إلى رجل مختلف، رجل مبتسم ومليء بالطاقة ومتفائل.

ثم أمسك بالميكروفون، وقال مع ابتسامة على وجهه: "مرحباً بالجميع، يا له من يوم رائع لتناول بعض الطعام الجيد، ما رأيكم بسماع بعض الموسيقى أيضاً؟"، وعلى الرَّغم من أنَّ أغلب الناس قاموا بتجاهله، إلا أنَّه بدأ في تشغيل الموسيقى، وأنشئ جواً احتفالياً لكلِّ الأشخاص الموجودين في المطعم.

أنا متأكد من أنَّ هذا الرجل يفضل الاسترخاء مع بقية الأشخاص، لكن كان لديه وظيفة ينبغي أن يقوم بها، لقد كان يوم عطلة، لكن مع ذلك قام بعمله، وجعل يوم الأشخاص الآخرين أكثر متعة واسترخاء.

لقد أُعجبت بالطريقة التي وضع بها هذا الرجل معاناته مع المعدات والتعب جانباً، من أجل توفير أجواء ممتعة ومبهجة لرواد المطعم، فنحن من السهل أن نضيع في احتياجاتنا اليومية ورغباتنا وخيباتنا وأحلامنا؛ إنَّنا نفقد التركيز على النفوس الطيبة من حولنا التي تعمل بجد لجعل حياتنا أفضل بقليل.

الجميع يخوض معاركه الخاصة:

فجأةً سمعت صوتاً خلفي، واستدرت لأرى رجلاً صغير القامة يقف مع كلبه، كان يتحدث إلى شخص يعرفه على ما يبدو، ثم لاحظت كيف كان الناس يحدقون بهذا الرجل، لقد كانوا ينظرون إليه كما لو أنَّه كان نوعاً من الاجتذاب البصري، كان بعض الناس يبتسمون كما لو كان الرجل تسلية بالنسبة إليهم.

لقد بدا الرجل غافلاً عن كلِّ هذا، لا شك في أنَّه تعامل طوال حياته باهتمام غير مرغوب فيه، ولا بدَّ من أنَّ الأمر كان صعباً بالنسبة إليه خاصةً في سنوات طفولته ومراهقته.

كما قال الكاتب الأمريكي جون وايس (John P. Weiss): "الجميع يخوض معاركه الخاصة شياطينهم وندمهم وجروحهم وخسائرهم؛ لذا لا تَزِد آلامهم؛ بل ابحث عن طريقة لتقليلها".

تساءلت عن النصيحة التي سيقدمها هذا الرجل لأيِّ شخص عانى من الألم أو التهميش أو التنمر في حياته، كم أنَّ التعلُّم من حكمة هذا الرجل الفريدة فضل كبير!

شاهد: 10 عبارات مُلهمة عن الحياة

فنُّ الملاحظة:

بعد لحظات قليلة رأيت رجلاً وامرأة يسيران بجانب دراجتهما، لقد بَدَوَا، كأنَّهما واجها خلافاً ما، لكنَّني لم أكن متأكداً.

كما قال المصور الفوتوغرافي إليوت إيرويت (Elliott Erwitt): "بالنسبة إلي، التصوير هو فنُّ الملاحظة، ويتعلق الأمر بالعثور على شيء مثير للاهتمام في مكان عادي، ولقد وجدت أنَّ الأمر ليس له علاقة بالأشياء التي تراها؛ بل يتعلق بالطريقة التي تراها فيها".

عندما اقتربت المرأة مني نظرتُ إلى شاشة الكاميرا، والتقطت صورة لها، وفي وقت لاحق، عندما نظرت إلى الصورة عن كثب لاحظت تعبيرها الحائر ربما كانت تتساءل عمَّا إذا كنت قد التقطت صورة لها، وربما كانت ما تزال تفكر في الخلاف، في الحالتين كلتيهما، أدركت مرة أخرى أنَّ الجميع يخوضون معاركهم الخاصة.

قد يكون النادل في مطعمك المفضل، قد خاض توَّاً تجربة طلاق، وقد يكون موظف الاستقبال في مكتب طبيب الأسنان، قد فقد أحد أفراد أسرته للتو، وقد يكون السائق البطيء المزعج الذي يمشي أمامك قد تلقى تشخيصاً بالسرطان في وقت سابق؛ إنَّ رؤية العالم من وجهة النظر هذه تجعلنا أكثر تفهماً بكثير.

إقرأ أيضاً: الإبداع مفتاح إعادة البناء بعد الأزمات

لا تكن فظَّاً مع الغرباء:

في بعض الأحيان يسمح لنا الناس بالدخول إلى عالمهم، ويشاركون معنا شيئاً خاصاً في حياتهم سواء مشكلاتهم أم آلامهم أم ندمهم، وعندما يحدث ذلك تقع على عاتقنا مسؤولية أن نُحسن الإنصات لنقدم حضورنا وتشجيعنا، وأملنا لهم، لكن القصص والانطباعات التي يقدمها لك الناس في أثناء التصوير في الشارع، تتطلب نوعاً مختلفاً من المسؤولية.

يجب أن نسعى جاهدين إلى التقاط صور لهم بطريقة محترمة، وكذلك يجب أن نشارك صورهم لكي نروي قصصهم؛ لأنَّ قصصهم هي قصصنا إلى حد كبير، وهي إنسانيتنا المشتركة.

عندما نكون أصغر في السن يصبح العالم بمنزلة صَدَفة مليئة بالإمكانات والأحلام، ويعد التقاط التزام الشباب وطاقتهم ومثاليتهم موضوعاً ذا قيمة بالنسبة إلى مصور الشارع أو الفنان أو الكاتب، وما إلى ذلك؛ إنَّه يذكرنا بالتمسك ببعض من الالتزام والطاقة والمثالية، وإن تجاوزنا فترة شبابنا، لكنَّ السنوات تمضي بسرعة، وقد نجد أنفسنا يوماً ما في خريف الحياة نرسل رسالة نصية إلى أحفادنا.

كانت رسالة السياسي الكندي جورج ويتمان (George Whitman) المستوحاة من مقطع من الكتاب المقدس، تقول: "لا تكن فظَّاً مع الغرباء حتى لا يخفوا النقاء الذي فيهم".

إقرأ أيضاً: الإبداع في العمل: تعريفه، وأنواعه، وقوانينه، وأهم معوقاته

في الختام:

عندما نتمهل لرؤية المعارك الخاصة بالآخرين، يمكننا تطوير التعاطف والحب تطويراً عميقاً؛ وهذا بدوره يمكن أن يوجه عملنا الإبداعي، ومن ثمَّ إلهام الآخرين ليعيشوا حياة أفضل، وعندما نستخدم عملنا الإبداعي لمساعدة الناس على عيش حياة أفضل، يمكننا تحسين العالم.

المصدر




مقالات مرتبطة