أهمية المحاسبة الذاتية لدى القادة

"أقسم بأبولو الطبيب"... بهذه الكلمات يبدأ قَسَم أبقراط، وهو قَسَم السلوك الأخلاقي والمهني الذي يقسم به الأطباء الجدد. فهو يتضمن تعهداً بممارسة الطب بصورةٍ خيِّرةٍ قدر المستطاع تحمل الخير لمرضاهم. وفحواه هي التزامٍ بـ "عدم التسبب بالضرر". ألن يكون أمراً رائعاً أن يكون ثمة قَسَمٌ مشابه خاص بالقادة، قَسَمٌ للمحاسبة الشخصية، ليس لمحاسبة الشخص على نتائج عمله وعلى قيادته للآخرين بل لمحاسبة الشخص على قيادته لنفسه. لقد تذكَّرتُ المثل القائل: "أيها الطبيب، عالج نفسك" والذي يعني أنَّ الشخص يجب أن يصحح أخطائه قبل أن يصحح أخطاء الآخرين. لذا فإنَّني أضيف إلى المثل السابق مثلاً آخر: أيها القائد، قُدْ نفسك.



سيُوضح لك أي كُتيِّبٍ يتحدث عن القيادة العملية أنَّ إحدى الكفاءات الأساسية في القيادة هي محاسبة الآخرين. وهذا يتطلب وضع توقعاتٍ وإرشاداتٍ واضحة، وتوضيح الأهداف والغايات، والمتابعة الدائمة لضمان الالتزام بالمسؤوليات، وتقديم التغذية الراجعة حول الأداء، والقيام بالكوتشينغ مع الأشخاص الذين لا يرتقي أداؤهم إلى المستوى المطلوب، وأخيراً اتخاذ أي إجراءات تصحيحيةٍ ضرورية. ولكن لا يمكن أن يتوقع القائد محاسبة الآخرين بنجاح ما لم يكن يحاسب هو نفسه أولاً. وعلى الرغم من أنَّ هذا الجانب يُعدُّ أحد الجوانب المهمة في القيادة إلَّا أنَّنا من السهل أن نهفو في بعض الأحيان عن محاسبة أنفسنا على سلوكنا. يمكن لهذا أن يحصل حتى مع القادة الذين يقومون بعملٍ رائع فيما يخص محاسبتهم لأنفسهم على القضايا المهمة كتحقيق نتائج بارزةً سواءٌ في المبيعات، أو العمليات، أو التسويق، أو التمويل، وتحديد الأسباب الجذرية لمشاكل العمل، وتطوير رؤيا واستراتيجية، وإدارة الموارد بفعالية.

فلنوضح أمراً قبل أن نكمل: ليس ثمة قائدٌ محترم يستيقظ في الصباح وقد قرر أنَّه لن يحاسب نفسه اليوم. لا أحد يرغب في أن يؤدي عمله بصورةٍ سيئة. ولكن ثمة أشياءٌ تحدث في أثناء اليوم تنسينا ما كنا قد عزمنا عليه وهذا ما يحدث بشكلٍ دائمٍ بصورة "هفواتٍ" شخصيةٍ غير مقصودة. إنَّ هذه الهفوات الشخصية التي تبدو غير ضارة هي ما أودُّ أن أتحدث عنه. فهي تأخذ عدة أشكالٍ خفية. دعنا نستكشف بعضاً من هذه الهفوات المعتادة:

  • لديك موظَّفٌ يثير المشاكل بشكلٍ دائم ولكنَّك لا تريد أن تتخذ قراراً بطرده لأنَّك تريد أن تكون شخصاً لطيفاً. وبعد كثير من المداولات والعناء قررت بدلاً من ذلك نقله إلى قسمٍ آخر، أي أنَّك قررت بشكلٍ رئيسي نقل المشكلة إلى جزءٍ آخر من الشركة على أمل أن يؤدي ذلك إلى اختفائها. من الداخل كان حدسك يخبرك أنَّ المشكلة لم تحل، ولكن لأنَّك مبتهجٌ بسبب إيجاد حلٍّ لإحدى المشكلات المزعجة فقد أسكتَّ حدسك. دخلت المكتب مزهواً في اليوم الآتي لأنَّك أزلت عبئاً كان فوق كاهلك.
  • هناك عضوٌ مهمٌ في فريقك معتادٌ على التعامل مع الأعضاء الأقل أهمية بطريقةٍ سيئةٍ للغاية في الاجتماعات، ومقاطعتهم، والانتقاص من قيمة مساهماتهم، وإظهار سلوكٍ سيِّءٍ ومخادعٍ بشكلٍ عام. إنَّه يسبب الإحراج لأعضاء الفريق الآخرين، وحتى أنَّه يزعجك. ومرةً أخرى لأنَّك تحب السلام وتكره أي نوعٍ من أنواع المواجهة فإنَّك تجاهلت السلوك المهين الصادر عنه على أمل أن يتخلى عنه من تلقاء نفسه. إنَّ حقيقة أنَّ هذا الشخص المثير للمشاكل شخصٌ مكافحٌ وصاحب إنجازاتٍ كبيرة بالإضافة إلى تحقيقه لنتائج ناجحة صعَّبت عليك مواجهته والقيام بأي تصرفٍ حياله.
  • لقد أعلنت للتو عن إجراءاتٍ صارمة ستتخذها الشركة لتخفيض النفقات، وطلبت من جميع العاملين في القسم التعاون من خلال التخلص من جميع النفقات التقديرية، وألقيت على فريقك خطاباً صادقاً مثيراً للإلهام عبَّر الجميع على إثره عن استعدادهم للمساعدة في إنجاح هذه الإجراءات. وبعد يومين رأى الموظفون كرسياً بقيمة 1000 دولار يصل إلى مكتبك وهو من ضمن عملية شراء سابقة نسيت إلغاءها. ولكنَّ الآخرين بكل تأكيد لا يحكمون علينا من خلال نوايانا. فَهُم ليس لديهم إلا الأفعال الظاهرية ليحكموا علينا من خلالها.
  • لقد حصل خطأٌ تقع مسؤوليته على عاتق عددٍ من الأشخاص كنت أنت أحدهم. وبسبب القلق والفوضى اللذين نجما عن هذا الخطأ فقد تملَّصت من دورك في حل المشكلة، وحتى أنَّك عانيت من دون أن تشعر من فقدان ذاكرةٍ مؤقت جعلك تنسى أنَّك كنت مطلعاً على الوضع بشكلٍ كامل قبل حدوث المشكلة. وبدأت في البحث عن كبش فداء مقتنعاً بصدق بأنَّ الخطأ خطأ الآخرين. يمكن أن يحصل هذا بكل سهولةٍ في الأوقات التي تشعر فيها بالضغط لأنَّك وبصفتك قائداً تتعامل مع عشرات القضايا بشكلٍ يومي. ولكنَّ الآخرين لا يتعاملون سوى مع بضعة قضايا ويتذكرون سير الأحداث بمنتهى الدقة.

حسناً، القائمة يمكن أن تطول أكثر وأكثر. بعض الهفوات سببها ميولٌ شخصية، والبعض الآخر سببه حجم العمل والضغط الكبيرين اللذين يعاني منهما القائد. أسباب ذلك متنوعة وهي غير مهمةٍ في الواقع، الأمر الأهم هو السلوك. فجميع هذه الأمثلة هي أمثلةٌ عن سلوكاتٍ لن تتغاضى عن قيام الآخرين بها عندما تقوم بمحاسبتهم. وكما نعلم جميعاً عندما يكون ثمة تباينٌ بين ما تأمر الآخرين بالقيام به وبين ما تقوم أنت به سيصدِّق الناس أفعالك لا كلماتك. إنَّ نتيجة هذا السيناريو هي تآكل الثقة وهو أحد الأثمان الباهظة التي ندفعها نتيجةً لابتعادنا عن محاسبة الذات. دعنا لا ننسى أيضاً الإشارة إلى أنَّه يتوجب عليك في بعض الأحيان بصفتك قائداً اتخاذ قراراتٍ غير مألوفة وهذا بحد ذاته يمكن أن يثير الانتقاد. فأنت دائماً تحت المجهر.

إذاً ما هي الاستراتيجيات التي يمكنك تبنِّيها لكي تكون أكثر حذراً وأكثر محاسبةً لنفسك؟

  1. بما أنَّ الشركات تهتم بنظرة الزبائن أو أصحاب المصلحة تجاهها، وهذا من حقها، خصص وقتاً للتفكير في نظرة جميع أصحاب المصلحة بمن فيهم رؤسائك المباشرون، وأقرانك، وعملاؤك تجاه تصرفاتك. جرِّب عملية تقويم القيادة الرسمية ذات الـ 360 درجة أو اعثر على أحد أشكال تقويم القيادة لتعرف كيف يقوِّم الآخرون في فريقك أدائك. على سبيل المثال: يقدِّم مصالح الفريق على مصالحه، ويمتدح النجاح، ويقدم المعلومات بسهولة، ويسأل عن أحوالنا، ويعامل الآخرين باحترام بغض النظر عن مناصبهم، ويعزز العمل بروح الفريق عبر جميع الأقسام، ويدعم القرارات التي يتخذها الفريق، ويقدم تغذيةً راجعةً صادقة في الوقت المناسب. هل سينظر الآخرون إليك بهذه الطريقة؟
  2. خصص بضعة دقائق في نهاية كل يوم عندما تنظف مكتبك قبل التوجه إلى المنزل لاسترجاع الأحداث التي جرت مع خلال اليوم. فكر في المحادثات الهامة التي أجريتها، والاجتماعات التي عقدتها، والرسائل الإلكترونية التي أرسلتها، وغير ذلك من الأمور التي أخذت على عاتقك القيام بها. هل أنت فخورٌ بما قمت به؟ هل كان في إمكانك أن تقوم به بشكلٍ أفضل؟ سيساعدك ذلك على التخطيط لليوم الآتي ووضع أهم الأهداف. كما سيحقق لك التعود على الجلوس مع نفسك من أجل التأمل أفضل النتائج على المدى الطويل.
  3. قرّر محاسبة نفسك على تطوير قادةٍ آخرين. فمن خلال القيام بالمنتورينغ مع أحدهم بهدف تحسين نموِّه الشخصي والمهني فإنَّك تقوي مهارات القيادة لديك وتعزز إصرارك على محاسبة ذاتك بما أنَّك أصبحت شخصاً يقتدي به الآخرون.
  4. عندما يسير أمرٌ ما على نحوٍ خاطئ ابحث أنت عن حلول. حيث تتحفز عندنا الرغبة في محاسبة الذات في الأوقات الصعبة بشكلٍ خاص. يعبِّر "مارتن لوثر كينغ" عن ذلك بشكلٍ مؤثِّر عندما يقول: "إنَّ معيار الرجولة الأبرز ليس في الموقف الذي يتخذه الشخص في لحظات الراحة والرخاء بل في موقفه في أوقات التحدي والصراع".
  5. عندما يُرتَكَب خطأٌ ما هل تسأل: "خطأ من هذا؟" أم أنَّك تقول: "ما الذي يمكننا تعلُّمه من هذا الخطأ؟" أم "ما الذي يمكنني القيام به لأحسِّن هذا الوضع؟". لذا جرِّب قراءة كتاب "جون ج. ميلر" (John G. Miller) الذي يحمل عنوان "السؤال خلف السؤال: ممارسة المحاسبة الشخصية في العمل وفي الحياة" (QBQ! The Question behind the Question: Practicing Personal Accountability in Work and in Life) حيث تحفِّزك قراءة هذا الكتاب للتخلِّي عن لعبة إلقاء اللوم على الآخرين والتي سبق وأن أغرتنا جميعاً في بعض الأحيان وتجعلك تتحمل المسؤولية تجاه القضايا التي تواجهك.
  6. فكِّر في الوعود التي قطعتها على الموظفين الجدد في أثناء فترة المقابلات التي يكثر فيها التودد. ففي سعينا المحموم لاجتذاب ألمع الأشخاص وأكثرهم موهبةً يمكننا أن نبالغ بسهولةٍ في الوعود التي نقدمها. احفظ الملاحظات التي تدونها في أثناء المقابلات وما وعدت به المتقدمين للعمل. فإذا جعلت الأحداث اللاحقة الوفاء بالوعود أمراً مستحيلاً يمكنك على الأقل مناقشتها مع الأفراد. فهذا أفضل من أن تنساها نهائياً.
  7. وماذا عن الوعود التي قطعتها على نفسك؟ اكتب أهدافك الشخصية والمهنية بشكلٍ واضح. اقرأهم مرةً في الأسبوع. هل تصرفاتك اليومية تتماشى مع قيمك، ومعاييرك، وفلسفتك في القيادة؟ ما هي حدودك؟ هل اتخذت إجراءاتٍ لحمايتها؟ إذا كان جوابك عن هذه الأسئلة بالنفي فما هو سبب ذلك؟ وما هي المؤشرات التي يعطيك إياها ذلك؟ استخدم هذه المعلومات لتحفِّزك على العمل بدلاً من أن تُشعِرَك بالذنب.
  8. يقول "موليير" الكاتب المسرحي الفرنسي الذي عاش في القرن السابع عشر: "إنَّنا لسنا مسؤولين عمَّا نقوم به فقط بل نحن مسؤولون عمَّا لا نقوم به أيضاً". هل هناك ما يجب عليك القيام به ولكنَّك تتجنبه؟ على سبيل المثال، هل تؤجل إجراء إحدى المحادثات الصعبة؟ هل ثمة قرارٌ مهمٌّ تؤجل اتخاذه؟ هل تفوِّض مسؤولياتٍ يتوجب عليك إبقاؤها بين يديك؟

إذاً فمحاسبة الذات هي أن نبقى صادقين مع أنفسنا بالرغم من الظروف الصعبة. إنَّها القيام بما هو صحيح حتى عندما تراودنا أنفسنا لانتهاك بعض القوانين لكسب فائدةٍ ما. ربما كان "ديبورا لي" (Deborah Lee) هو أفضل من تحدث عن محاسبة الذات عندما قال: "إنَّ محاسبة الذات هي ما تكون عليه عندما لا يكون هناك من يراك". إنَّها أيضاً أفضل ترياقٍ مضادٍ لشعور الشخص بأنَّه ضحية الظروف وبالتالي فهي أداةٌ لتحرير تلك الطاقة الثمينة التي لديه من أجل تحقيق ما هو مهم. ولكنَّها قبل كل شيء تتطلب الإقرار بنتائج قراراتك وخياراتك لأنَّه لا خيار من دون محاسبة.

 

المصدر: هنا




مقالات مرتبطة