هل يُعَدُّ تطور الشخصية واجباً أخلاقياً أم مجرد ارتباك؟

قد نعتقد أنَّنا ملزمون بتحسين بعض جوانب شخصيتنا، في حين أنَّ هناك جوانب أخرى من تكويننا أقل مرونة وأكثر حياداً من الناحية الأخلاقية، وربما يجب علينا جميعاً محاولة التحلي بالمزيد من التعاطف والصدق والتسامح، ولكن لا يمكننا أن نطلب من الأشخاص الخجولين أن يصبحوا أكثر جرأة أو من شديدي الحماسة أن يكونوا أكثر هدوءاً.



ويتأثر هذا المجال من التفكير في وجود فجوة بين ما يدعى "خصائص الشخصية" مثل التعاطف، و"السمات الأساسية للشخصية" مثل الخجل، ويظهر هذا الانقسام في الأبحاث النفسية؛ إذ ركزت دراسة الشخصية خلال القرن العشرين في الخصائص غير الأخلاقية المفترضة للذات. وما يزال العديد من علماء النفس حتى اليوم يعتقدون أنَّ السمات الخمس الأساسية، التي تشكل أساس دراستنا للشخصية وهي: يقظة الضمير، والقبول، والانفتاح، والانبساط، والاستقرار العاطفي "العصابية سابقاً"، وتشير الأبحاث إلى أنَّ هذه الصفات الخمس يمكن أن تساعدنا على تصنيف الأفراد حول العالم بشكل فعال.

تتصف بعض هذه السمات من ناحية أخرى بالوضوح الأخلاقي أكثر من غيرها؛ إذ ركزت حركة علم النفس الإيجابي بدءاً بأواخر التسعينيات اهتمامها في الفضائل التقليدية مثل اللطف والمغفرة؛ كوسيلة للتعويض عن غيابها في دراسات أخرى، وقد تعتقد بأنَّ دراسة أساسيات الشخصية تمثل أحد جوانب علم النفس، بينما تمثل دراسة خصائص الشخصية جانباً آخر مختلفاً تماماً.

يشير الباحثون عادة إلى وجود اختلافين رئيسَين بين الشخصية وخصائصها لتفسير الفارق بين سماتهم الأخلاقية، وينص الاختلاف الأول على أنَّ خصائص الشخصية - على عكس الشخصية - قابلة للتطوير من خلال الممارسة، وبناءً على ذلك فإنَّ كل فرد مسؤول عن تطوير خصائص شخصيته، فأنت تستحق التقدير إن كنت صادقاً؛ وذلك لأنَّك وصلت إلى ما أنت عليه من خلال بذل المجهود، ولكن إن كنت قاسياً، فأنت تستحق الملامة على فشلك في تغيير ذلك.

وعلى النقيض يُنظَر إلى الشخصية على أنَّها صفة موروثة وخاضعة إلى حد كبير، وهنا تكمن فكرة قابلية خصائص الشخصية للتغير على عكس الشخصية؛ لذلك حتى لو كان تغيير الشخصية أمراً مرغوباً وهاماً من الناحية الأخلاقية، فليس هناك ما يمكنك فعله حيال ذلك.

وعلى الرغم من أنَّ المجال الجديد المتنامي في دراسة "تغيير الشخصية الإرادية" يلقي بظلال من الشك على الفارق المفترض بين الشخصية وخصائصها، فقد وجد الباحثون أنَّ مدى التطور في شخصيات الناس يعتمد على ما إذا كان أولئك الأشخاص يرغبون في التغير فعلاً وما إذا كانوا يتخذون خطوات فعالة لإحداث هذا التغيير.

بدأت مجموعة من الباحثين بقيادة عالم النفس "ناثان هدسون" (Nathan Hudson) في جامعة "ساثرن ميثوديست" (Southern Methodist University) نشرَ دراسات عام 2015 حول ما إذا كانت الرغبة في تغيير الشخصية مرتبطةً أصلاً بتغيرات فعلية كانت قد حدثت في الشخصية؛ إذ نشروا في العام الماضي تحليلاً ضخماً لاثنتي عشرة مجموعة تضمنت بيانات منفصلة جمعوها لاختبار هذه الفكرة، وأظهرت النتائج وجود تغيرات في السمات الخمس الأساسية للشخصية عند الأشخاص الراغبين في تطوير شخصياتهم.

إقرأ أيضاً: تطوير الشخصية، تعلّم المواجهة بثبات وشجاعة

ويبقى السؤال هنا، هل يجب أن يكون تطوير الشخصية نابعاً عن رغبة؟

درس علماء النفس ما إذا كانت التدخلات المتعمدة قادرةً على إحداث فروقات في شخصيات الأفراد، وقدمت إحدى الدراسات التي نُشِرَت عام 2021 الدليل الأقوى على صحة هذا الأمر؛ إذ اختيرَ 1523 مشاركاً بطريقة عشوائية ضمن مجموعة علاج، واستعملت مجموعة العلاج هذه تطبيقاً على الهواتف الذكية يقدم "تدخلات دقيقة" تشجع المشارك على إجراء هذا التغيير في شخصيته كما يريد، وتوفير مقاطع فيديو نفسية تثقيفية، وتوجيه المشاركين للتفكير في تقدمهم؛ فلم يُبلغ المشاركون عن حدوث تحسن فعلي فحسب؛ بل كان التغيير ملحوظاً من قبل المراقبين أيضاً، واستمر هذا التغير لمدة ثلاثة أشهر على الأقل.

لا يدل هذا على أنَّ تطوير الشخصية أمر سهل، ولا أنَّ تغيير خصائصها سهل أيضاً؛ فربما يوجد في الحالتين كلتاهما ما يمكننا القيام به لإحداث تغيير في شخصياتنا إن أردنا ذلك. والسؤال هو؛ هل يجب عليك أن ترغب حقاً في تغيير شخصيتك؟ حتى لو كان تغيير الشخصية أمراً ممكناً، فقد لا يكون مرغوباً أو هاماً أخلاقياً.

وهذا يقودنا إلى الفارق الثاني المفترض بين الشخصية وخصائصها؛ فمن المفترض أن تكشف خصائص الشخصية - على عكس الشخصية - عن دوافع الشخص أو قيمه؛ فالشخص الكريم على سبيل المثال يُقدِّر العمل لمصلحة الآخرين، كما أنَّ الشخص النزيه يُقدِّر قول الحقيقة، وعلى النقيض من ذلك، فإنَّ خصائص الشخصية تدلنا على أنماط السلوك النموذجية للشخص، وليس عما يحفز هذا السلوك.

وبالنظر إلى هذا الاختلاف فإنَّ تغيير شخصيتك ينطوي على تغيير قيمك، ومن ثم يمكن أن يجعل هذا الأمر منك شخصاً أفضل أو أسوأ، بينما تغيير سمات شخصيتك لا ينطوي على تغيير قيمك؛ بل تغيير سلوكاتك فقط؛ لذلك فقد لا يكون تغيير الشخصية أمراً مرغوباً أو هاماً أخلاقياً، حتى لو كان تغيير سمات الشخصية كذلك.

ولكن حتى لو كان صحيحاً أنَّ تغيير الشخصية لا يجعل منك شخصاً أفضل أو أسوأ، فإنَّ ذلك لا يعني أنَّ تغيير الشخصية ليست له أهمية أخلاقية، فقد تكون التغيرات التي حصلت على سمات الشخصية الأساسية ذات قيمة أخلاقية مفيدة بسبب تأثيرها في النتائج، فعلى سبيل المثال، اختلافات الشخصية يمكن أن تتنبأ بالعديد من النتائج الهامة في مختلف نواحي الحياة؛ بما في ذلك النجاح في الحب والعمل والسلامة والصحة وطول العمر، وفي الواقع تُعَدُّ الشخصية وسيلةً جيدةً في التنبؤ ببعض الحالات الاجتماعية والاقتصادية أو القدرات الإدراكية.

إقرأ أيضاً: تطوير شخصية علامتك التجارية هو سر النجاح

وعلاوة على ذلك ترتبط خصائص الشخصية بالشخصية ذاتها، فعلى سبيل المثال، وجدت دراسة حديثة أنَّ جميع الفضائل الـ 24 الأكثر أهميةً في علم النفس الإيجابي ترتبط ارتباطاً كبيراً بجانب واحد على الأقل من الجوانب المرتبطة بالسمات الأساسية للشخصية، وتُعَدُّ خصائص الشخصية بمنزلة نوع من الأساس النفسي الذي قد يُسهِّل أو يعوق تطور الفضائل؛ ولهذا قد تكون محاولة تغيير الشخصية أمراً هاماً من الناحية الأخلاقية، حتى ولو كان مجرد أداة لتحقيق ذلك.

وبالإشارة إلى نقاط أكثر أهمية فقد بدأت مؤخراً بعض النهج المرتبطة بالشخصية في علم النفس بالتشديد على أنَّ خصائص الشخصية تنطوي على القيم والدوافع، فتفسيرُ اختلاف سلوكات الناس يعكس الانبساطية أو يقظة الضمير، وعلى سبيل المثال، قد يكون مرتبطاً بالاختلافات في السمات النفسية الأساسية، بما في ذلك اهتمامات الأفراد.

وقد بدأت مؤخراً دراسة العلاقة بين الأهداف والسمات الشخصية، فقد وجد الباحثون في إحدى الدراسات أنَّ الاختلافات في الأهداف تتنبأ بالتباين في سلوكات الأفراد اليومية المرتبطة بالانبساطية بنسبة 74%، كما وجد الباحثون في دراسة أخرى أنَّ هذا الترابط لم يكن مجرد ترابط؛ فالاختلافات في الأهداف تؤدي إلى اختلافات في السلوكات المرتبطة بالشخصية، وللتحقق من هذا الأمر طُلِبَ من المشاركين اعتماد أهداف تتعلق إمَّا بيقظة الضمير أو بالانبساطية ومتابعة حياتهم اليومية لفترة قصيرة من الزمن، وبعدها العودة إلى المختبر؛ فاتَّضح أنَّ الأهداف التي اعتمدها المشاركون كانت قادرة على التنبؤ بما إذا كانوا يظهرون سلوكات تعكس يقظة الضمير أو الانبساط.

يؤكد هذا البحث فكرة أنَّ السمات الشخصية تتكون جزئياً من الأهداف الخاصة بالفرد؛ إذ تغلب سمة الانبساط على الأفراد الذين يولون أكبر قدر من الاهتمام للقيم، مثل التأقلم أو الاستمتاع، أما الأفراد الذين يهتمون باستثمار وقتهم على نحو فعال أو إنجاز المهام فمن المرجح أنَّ السمة الغالبة لديهم هي يقظة الضمير.

شاهد بالفيديو: أساليب تطوير الذات: 14 طريقة لتطوير مهاراتك الشخصية

وإذا كانت هذه الأفكار صحيحة، فإنَّها تدحض الفارق الرئيس المزعوم بين الشخصية وخصائصها؛ إذ إنَّ الشخصية مثل خصائصها تعكس دوافع الشخص وقيمه، ولكنَّ تغيير الشخصية ربما يكون قيماً بحد ذاته عندما ينطوي على تغيير في هذه القيم، وليس فقط لأنَّه يؤثر في أمور أخرى مرتبطة بالقيمة الأخلاقية.

ومن المثير للاهتمام أنَّ الأبحاث أكدت رغبة معظم الناس في تغيير سماتهم الخمس الأساسية حتى إن لم يدركوا ذلك، فهم يميلون إلى أن يصبحوا أكثر وعياً وتوافقاً وانبساطيةً وانفتاحاً واستقراراً عاطفياً، وعلاوةً على ذلك، يميل الناس أيضاً إلى تغيير سماتهم الخمس الكبرى باعتدال طوال حياتهم، ولكنَّ ما تشير إليه الأبحاث المذكورة آنفاً هو أنَّ هذا التغيير قابل للتحقيق بشكل أسرع مما اعتقدنا آنفاً وأنَّه قد يتضمن تغييراً جذرياً لاهتمامات الأفراد.

بينما نواصل استكشاف الدوافع التي تكمن وراء بعض سمات الشخصية، وبينما نتعلم المزيد عما يلزم لتغيير الشخصية، نرى أنَّ فرص تطوير الشخصية تصبح أمراً قريب المنال، ففي الوقت الراهن كبداية توجد خطوة سهلة لمراجعة أفكارنا؛ وهي أنَّه قد يكون من الأفضل لنا أن نتخلى عن خرافة الشخصية المثالية والمحايدة أخلاقياً، فقد نكون قادرين على التطور من خلال تغيير نظرتنا إلى الشخصية.

المصدر: 1




مقالات مرتبطة