هديل الغراب

ماذا لوسجن غراب وحمامة في قفص واحد ؟ هل تنسى الحمامة هديلها وبياض جناحها وتتعلم النعيق ؟
ام يحدث العكس ينسى الغراب سواد جناحيه ويتعلم الهديل؟
هذا السؤال راودني مرتين على الاقل.



الاولى عندما روى المفكر الدكتور انور عبدالملك حكاية طريفة مع السجان, وكان هذا السجان بالغ الفظاظة والقسوة مع المثقفين من السجناء السياسين في خمسينيات القرن الماضي, وذات يوم بعد ان اطلق سراح الدكتور عبدالملك ومن معه قرروا اصدار جريدة تحمل اسم "المساء" فوجئوا بهذا الشرطي يطلب مقابلتهم, وبعدان دخل مكتب رئيس التحرير اخبره بانه استقال من عمله كسجان قبل موعد التقاعد وتنازل عن حقوقه في الخدمة, لانه أعلن التوبة من عمله الاسود، وطلب من اصحاب الجريدة ان يعمل حارسا للجريدة ولو بالمجان تعبيرا عن اعتذار تأجل عن موعده طويلا، وهذا ما حدث بالفعل بقي الرجل حارسا امينا لمن كان يجلدهم ويوبخهم بالزنانزين.
تلك الحادثة لم اشهدها وانما رواها المفكر عبد الملك الذي تنقل بين عواصم اوروبا وطوكيو والف عددا مهما من الكتب منها ما يعد مرجعا اساسيا في النهضة في القرن التاسع عشر.

أما الحادثة الثانية فقد تعرفت على ابطالها عن كثب كنا الشاعر احمد فؤاد نجم والدكتور هاني عنان على موعد لزيارة صديق في منزله, وفوجئت بشخص ثالث كان بصحبة الشاعر نجم, اما المفاجأة في تلك الليلة فهي ما رواه الشاعر نجم بطريقته التي تتزاوج فيها السخرية مع حزن عميق ودفين.

فقد قال ان الرجل الذي كان معه هو سجانه وجلاده في احد السجون ايام العصيان من اجل الحرية, لكن هذا الرجل بدأ يقترب من الشاعر ويصغي اليه, ثم اخذ يحفظ شيئا من قصائده, الى ان فاجأه ذات يوم بأنه كتب قصيدة, كانت تعبيرا مباشرا عن الصراع الذي يعانيه بين وظيفته ومشاعره وبمرور الايام اصبح الشرطي شاعر.

عندما تأملت ملامحه لم أعثر فيها على قسوة الجلاد رغم ضخامة جثته، لكن الشاعر نجم قال لي بأنه تغير, منذ بدأ يغادر موقعه الاول كسجان, وبالتالي تبدلت حتى ملامحه, فاصبح حميما واليفا وله عينا طفل تمتلان بالدهشة وان كانتا دائما على وشك البكاء كعيون الخيل.

هكذا تعلم الغراب الهديل، ثم خلع ريشه الاسود ليصبح بلون ندف الياسمين تماما كما حدث للسجان الاول الذي لم يكن يدرك بأن من يعذبهم ويعتدي عليهم هم صفوة المجتمع من المثقفين الحالمين بجعل الحياة ابهى والساهرين على مستقبل ابناءه واحفاد حتى من يسجنهم ويجلدهم!
قد تبدو هذه مفارقات نادرة الحدوث لكنها من صميم هذا الوجود الذي انتصر فيه العصفور على الحدأة, والمهد على التابوت والربيع على الخريف, وأخيرا الحياة على الموت!

هاتان الحادثتان عينة من رهان انساني نبيل على عدم استمرار الليل وعدم تحول العالم الى رهينة.