مفهوم "المقدرة السلبية" عند "جون كيتس" وأهميته في وقتنا الحالي

عندما توفِّي "جون كيتس" (John Keats) منذ 200 عام، كان يبلغ من العمر 25 فقط؛ لكن رغم حياته القصيرة، ما زال يُعَدُّ أحد أفضل الشعراء الذين كتبوا في اللغة الإنجليزية؛ إذ فضلاً عن روائعه مثل "قصيدة للبلبل" (Ode to a Nightingale) و"إلى الخريف" (To Autumn)، فقد ترك لنا إرث "كيتس" مفهوماً هاماً هو "المقدرة السلبية".



لقد بقيت الفكرة التي تركز على عدم الحكم على أمرٍ ما من أجل معرفة معلومات أكثر حوله، بالأهمية نفسها التي كانت عليها عندما كتب عنها.

فقد "كيتس" أفراد عائلته بسبب مرض السل الذي أودى بحياته لاحقاً. وبالطريقة نفسها التي قَلَب فيها كوفيد-19 حياة العديد من الناس رأساً على عقب، كان لدى الشاعر في ذلك الوقت إحساس عميق بعدم اليقين.

ولد "كيتس" في "لندن" في عام 1795، وكان والده قد توفِّي في أثناء حادثة ركوب على الحصان عندما كان "كيتس" في الثامنة من عمره، ثم توفيت والدته بالسل عندما كان في الرابعة عشر؛ إذ شرع في دراسة الطب عندما كان مراهقاً، في البداية كمتدرب لدى جراح محلي، وبعدها كطالب طب في "مستشفى غايز" (Guy’s Hospital)؛ حيث عمل كمساعد جراح واهتم بجميع أطياف الناس.

شاهد بالفيديو: 8 طرق تفكير ستضعك على طريق النجاح

وبعد أن أكمل دراسته، قرر أن يعكف على الشعر؛ فألَّف كثيراً من أروع قصائده في العام 1819، مع أنَّها لم تلقَ صدى كبيراً في ذلك الوقت. ثم بحلول 1820، أُصيب بالسل وانتقل إلى مدينة "روما"؛ حيث أمل بأنَّ الطقس الدافئ هناك سيساعده على الشفاء، ولكنَّه توفِّي بعد ذلك بعام.

صاغ "كيتس" مصطلح القدرة السلبية في رسالة كتبها لأخويه "جورج" و"توم" في العام 1817. وقد وصفها متأثراً بأعمال "شكسبير": "أن تكون في حالة من عدم اليقين، والغموض، والشك، دونما طريق إلى الحقيقة والمنطق".

السلبية هنا ليست صفة تحقيرية؛ وإنَّما تدل على القدرة على مقاومة الرغبة في تفسير ما لا نفهمه.

وبدلاً من القفز إلى نتائج فورية حول حدثٍ، أو فكرةٍ، أو شخصٍ ما، فإنَّ "كيتس" ينصح بالتعامل بأريحية مع الشك، ومتابعة الانتباه والاستفسار من أجل فهمه بشكل أكثر تكاملاً. وبهذا فقد مهَّد الطريق لمرشح جائزة نوبل، عالم الاقتصاد "دانيال كانيمان" (Daniel Kahneman)، الذي حذَّر من النظرة الساذجة التي تقضي بأنَّه "لا يوجد إلا ما تراه فحسب".

إقرأ أيضاً: أسباب التفكير السلبي وكيفية التخلص منه

يُعَدُّ التمهُّل والنظر إلى الأمور من زوايا عدة فكرةً صائبة أيضاً؛ إذ كانت كوميديات "شكسبير" مليئة بالشخصيات المخطئة وسوء الفهم، بما في ذلك أشخاصٌ من الجنسين. يُذكِّرنا "كيتس" بأنَّنا من الممكن أن نكتسب رؤىً جديدة عندما نتخلَّى عن الاعتقاد بأنَّنا نعلم كل شيء عن الناس بمجرد وضعهم في قوالبنا القديمة.

تشهد القدرة السلبية أيضاً على أهمية التواضع، الذي يصفه كيتس بـ "القدرة على الخضوع". وكما يشير "سقراط" في خطاب "أفلاطون" الذي لخَّصه وسماه "الاعتذار" (Apology)، فإنَّ الناس الأقل قابلية لتعلُّم أيِّ شيء جديد هم الذين يعتقدون أنَّهم قد عرفوا كل شيء. وبالمقابل، فإنَّ المستعدين للتشكيك في افتراضاتهم السابقة وتبنِّي وجهات نظر جديدة هم الأكثر قابلية للوصول إلى رؤىً وأفكار جديدة.

اعتقد "كيتس" بأنَّه لا يمكن اكتساب فهم كامل عن العالم الذي نعيش فيه، ناهيك بالقدرة على التحكم فيه؛ إذ إنَّه وفقاً لرأيه، يجب تجنب الكبرياء والتغطرس بأيِّ ثمن، وهو تحذير مناسب بشكل خاص بما أنَّ العالم يواجه التحديات مثل جائحة كوفيد-19.

وفي الوقت نفسه، فإنَّ تكنولوجيا المعلومات تعطي الجميع وصولاً فورياً لكل المعرفة البشرية. وبالطبع فإنَّ الإنترنت يعمل بمنزلة بوابة للمعرفة، ولكنَّه ينشر معلومات ودعايات مضللة من دون تمييز؛ وذلك بواسطة خوارزميات تعزز الانقسام. ولا داعي للقول إنَّ ذلك يضفي فهماً ويقيناً مزيفاً.

إقرأ أيضاً: التفكير السلبي ضرورة!

يوصف عصرنا عادةً بأنَّه استقطابي، فالنساء يقارنَّ بالرجال، والسود بالبيض، واللبراليون بالمحافظين، والعلم بالدين؛ لذا فمن السهل الوقوع في افتراضات سطحية تقضي بتقسيم البشر إلى فئتين؛ إذ يبدو أنَّه ما إن كان بالإمكان اتخاذ الرأي الأساسي بمعرفة أيِّ جانب يقف فيه الشخص من قضية ما، فلا داعي للبحث أكثر من ذلك.

يقترح "كيتس" لمواجهة هذا التيار بأنَّ الإنسان أكثر تعقيداً من أيِّ فئة ديموغرافية أو انتماءات؛ إذ مهَّد بذلك أيضاً لمرشح آخر لنوبل، الكاتب والفيلسوف "ألكساندر سولزنيتسن" (Alexander Solzhenitsyn)، الذي كتب بأنَّه بدلاً من الأشخاص الجيدين والأشخاص السيئين، فإنَّ العالم مُكوَّن من أشخاص معقدين بشكل جميل، وأحياناً أشخاص متناقضين، وكلاهما قادر على فعل الخير والشر:

"لو كان الأمر سهلاً جداً! فلو كان يوجد أشخاص أشرار يرتكبون الفظائع بدهاء في مكان ما، لكان من الضروري فصلهم عنَّا وتدميرهم، ولكنَّ الخط الفاصل بين الخير والشر موجود في قلب كل كائن بشري؛ مَن منَّا مستعد لتدمير جزء من قلبه؟".

يمكن لعدم اليقين أن يكون غير مريح؛ إذ إنَّه من المغري عادةً التوقف عن التساؤل أسئلة معقدة والقفز إلى النتائج، غير أنَّ "كيتس" ينصح بالعكس؛ إذ إنَّه عن طريق مقاومة إغراء إقصاء واحتقار الآخر، فمن الممكن فتح المجال لاكتشاف صفات الناس الذين يستحقون التعاطف والإعجاب. وربما، مع مرور الوقت، يمكن أن يصبحوا أصدقاءك.

المصدر: 1




مقالات مرتبطة