مفارقة السعادة: لماذا تجعلنا الرغبة في الحصول على المزيد بائسين؟

إحدى الأفكار الأساسية في المجتمعات المُعاصرة هي أنَّ كلَّ ما نحتاج إليه هو أن نطمح للمزيد. تظهر هذه الفكرة في مختلف المجالات من الأعمال السينمائية والكتب إلى المقالات حتى الطريقة التي يتحدَّث بها الناس بين بعضهم بعضاً.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن المدوِّن داريوس فوروكس (Darious Foroux)، ويقدِّم لنا فيه 5 نصائح لحياة أكثر سعادة.

غالباً ما نعبِّر عن رغباتنا في الحصول على المزيد، أو تحقيق المزيد، نريد أن نصبح أكثر ذكاءً وأكثر نجاحاً، وأكثر سرعةً في أداء المهام وإلى ما ذلك، ودائماً ما ننشغل بالتفكير في اللحظة المستقبلية التي تتيح لنا الحصول على المزيد من أيِّ شيء نسعى وراءه؛ المزيد من المال والرفاهية والاحترام والحب.

يظهر هذا السعي المحموم للمزيد حتى في الإعلانات، وأحد الأمثلة على ذلك هو حملة تسويقية أطلقتها سلسلة ماكدونالدز (Mcdonald's) قبل بضعة سنوات تحت عنوان "أنت تستحق المزيد".

موضوع الحملة عن وجبات الفطور التي تقدِّمها مكدونالدز، والفكرة من الإعلان هي أنَّنا بوصفنا مستهلكين من حقنا أن نحصل على وجبة ألذ وأشهى، لكنَّ هذا ليس خطأ الشركات وحملاتها التسويقية؛ فهم لا يفعلون شيئاً سوى أنَّهم يقدِّمون لنا ما نطلبه.

يعتقد معظمنا أنَّ رغبتنا في الحصول على المزيد هي ما يحقق لنا السعادة، وكلَّما سعينا أكثر أصبحنا أكثر سعادةً، سواء من خلال السعي بحد ذاته، أم عندما نحصل على النتائج.

تكمن المأساة في أنَّ الرغبة في الحصول على المزيد لا تعزز السعادة؛ بل تدمِّرها؛ فالعقل البشري لا يقدِّر قيمة اللحظة الحالية، فحالما نحقق شيئاً ما لا نشعر بالهدوء؛ بل نطلب المزيد ونشعر فعلاً أنَّنا بحاجة إلى المزيد.

نحن نعيش في عالم تستطيع فيه وكالات الألبسة أن ترفع سعر منتجاتها بنسبة 60% دون أيَّ رد فعل من العملاء، فطالما أنَّنا نريد شيئاً فيجب أن نمتلك الرغبة في الحصول عليه بصرف النظر عن تكلفته أو عمَّا سنضحي به من أجله.

دائماً ما نستطيع اختلاق الأسباب وإيجاد المبررات لحاجاتنا التي لا تنتهي؛ فالجميع يسعى للمزيد من كلِّ شيء مهما كان مقدار ما يملكه من أيِّ شيء.

شاهد بالفيديو: 12 شيئاً عليك أن تفعله لتحقق النجاح والسعادة

كيف تقنع بحظك من الحياة؟

في السابق كان من ضمن ما يتعلَّمه الأطفال، هو أنَّك عندما لا تكون قادراً على امتلاك شيء فلا تشتريه، وتابع حياتك بطريقة طبيعية.

لقد شعرت برغبة كبيرة في امتلاك سيارة بي إم دبليو (BMW) حديثة وفاخرة عندما حصلت على شهادة القيادة، لكن لم يكن لديَّ المال الكافي، ولم يكن لدى والديَّ القدرة على دعمي مادياً، ولا أعتقد أنَّهم رغبوا في ذلك؛ لذلك اشتريت سيارة بيجو (Peugeot) قديمة الطراز بدلاً من ذلك، وكانت قديمة ومستعملة؛ ولكنَّني زودتها بمشغل أسطوانات جديد، إلا أنَّ نظام معايرة الصوت في السيارة كان رديئاً للغاية، ممَّا جعل صوت الموسيقى يبدو مزعجاً.

بحثت عن صورة لسيارتي القديمة، ولم أجد أيَّة واحدة، لم أهتم بأخذ صورة لها، على كلِّ حال أعلم الآن أنَّ هذه السيارة منحتني الحرية، فلم أعد مضطراً إلى الركوب على الدراجة الهوائية أو ركوب الحافلة للمدرسة بعد أن اشتريتها، وكانت تلبي حاجاتي، وقد علَّمتني درساً عن العلاقات والبشر؛ فالسبب الرئيسي الذي جعلني أرغب في سيارة حديثة وفاخرة، هو إبهار الآخرين، ولكن عندما بدأت بتكوين صداقات في الجامعة، قال لي أحد أصدقائي: "لا أحد يهتم بطراز سيارتك ومدى روعتها إذا كنت شخصاً سيئاً".

بعد عدَّة سنوات، وبعد أن ازداد اهتمامي بالفلسفة، علمت أنَّ هذا المفهوم المتعلقة بالسعادة ليس حديثاً؛ بل هو قديم بقدم الفلسفة اليونانية، فقد قال الفيلسوف هرقليطس (Heraclitus) الذي عاش في مدينة أفسس (Ephesus) التي أصبحت فيما بعد جزءاً من الإمبراطورية الفارسية: "كلَّما ازداد تقديرك للأشياء الخارجة عن سيطرتك تضاءلت سيطرتك على الأشياء التي هي فعلاً في نطاق سيطرتك".

يدعونا هذا لتذكُّر أنَّه كلَّما أولينا اهتماماً للأشياء الخارجية، قلَّ تقديرنا لأنفسنا، وأنا سعيد لكوني تعلَّمت هذه الأشياء في سن مبكَّرة؛ لأنَّها جعلتني أدرك أنَّني أستطيع أن أكون سعيداً، وإن لم أحصل على كلِّ شيء أريده.

لكن في هذه الأيام، عندما لا نستطيع الحصول على شيء، نقوم مباشرة باستدانة المال، ونحصل على وظيفة أخرى، ونضحي بالمال والطاقة في سبيل الحصول عليه.

كيف تساعدك الحكمة القديمة على تقليل رغبتك في المزيد؟

الفلسفة الرواقية منهج رائع للتغلُّب على شهواتنا ورغباتنا، ويمتلك الفيلسوف الرواقي "سينيكا" (Seneca) الذي اختبر الثراء مفهوماً علمياً عن الرغبة في امتلاك المزيد، ويقول: "ليس الفقير من يمتلك القليل؛ بل من يطلب المزيد".

المعنى من ذلك أنَّ الثروة الحقيقية هي شعورك بالرضى عن حياتك، وقناعتك بما تملكه مهما كان قليلاً، لكن من الصعب تبني هذا الموقف الذهني؛ لأنَّنا نشعر بالقلق، فمع رضوخنا لرغباتنا، تزداد رغبتنا في السعي وراء المزيد، وأفضل طريقة للتخلص من العيش بهذه الطريقة هو الحد من رغباتك، فأنت لا تستطيع تجاهل رغبات معينة.

في أحد الأيام رأيت سيارة فخمة في كراج السيارات الخاص بالعمل، وقد لفتت نظري حقاً، وعندما رأيتها قلت في نفسي: "أتمنى أن يكون لديَّ سيارة مثلها"، ولاحظت فوراً أنَّ دماغي بدأ بالتفكير في طرائق لجني مزيد من المال، وبيع بعض الأصول التي أملكها.

هذه هي الطريقة التي يتأثَّر فيها الدماغ، فعندما تجد شخصاً يمارس مهنة جذابة، قد يخدعك دماغك ويقترح عليك فكرة مفادها أنَّه ربما يجب أن تغيِّر مهنتك، ولاحظت نمط التفكير هذا، وسريعاً أوقفته من خلال تجاهل الفكرة؛ فالحقيقة أنَّ الحصول على المزيد لن يجعلك أسعد؛ بل في الواقع أعتقد أنَّ كلَّ شيء يزيد عن الحاجة قد يدمِّر سعادتك، والسبب أنَّ السعي وراء الرغبات هو حفرة لا قاع لها يمكن أن تلحق بك الأذى.

الآن ، إليك بعض النصائح التي نستطيع من خلالها التأكُّد من أنَّ لدينا عدد قليل من الرغبات:

1. عبِّر لأحدهم عن شعورك بالامتنان:

هذه استراتيجية أكثر فاعلية من التعبير عن الامتنان لنفسك، عندما تفكر في الأشياء التي تشعر بالامتنان من أجلها دون تعبير، فإنَّك تجد صعوبة في الحفاظ على الشعور بالرضى، لكن عندما تخبر شخصاً أنَّك ممتن للعلاقة التي تربطك به، سواء كانت صداقة أم علاقة زمالة أم زواج، فإنَّك أيضاً تجعل الآخرين يشعرون بالرضى.

يمكنك أيضاً إخبار الآخرين بمدى امتنانك لكلِّ شيء آخر في حياتك؛ فالأشخاص الذين يشعرون بالامتنان عادة لا يكون لديهم الرغبة في الحصول على المزيد من كلِّ شيء؛ لأنَّهم يقدِّرون ما لديهم.

2. امتلك خيارات بديلة:

عندما تعتقد أنَّك بحاجة إلى شيء ما ، فإنَّك تشعر أنَّه من غير الممكن الاستغناء عنه، لنفترض أنَّك ترغب في الحصول على ترقية أو وظيفة جديدة، إذن أنت تعتقد أنَّ ما يحدد قيمتك هو وظيفتك.

لكن كما فهمنا من الرواقيين، فإنَّنا نادراً ما نحصل على ما نريد؛ لهذا السبب من الهام أن يكون لديك خطط احتياطية متعددة، فلا تعتمد أبداً على وظيفة واحدة أو شخص أو هدف أو ما إلى ذلك، فإذا لم ينجح شيء ما، فانتقل إلى شيء آخر، وهو وجود خطة بديلة أو خيارات أخرى تجعلك شخصاً عملياً، والشخص العملي أقل عرضةً للتفكير في الأشياء غير الضرورية.

3. افعل الأشياء التي تستمتع بها بالفعل:

يبدو هذا واضحاً، لكن ليس الأمر على هذا النحو عند التطبيق؛ فمعظمنا يقوم بأشياء لا يحبُّها؛ فمثلاً إذا كنت في وظيفة لا تحبُّها؛ فهذا يعني أنَّك غير راضٍ معظم الوقت؛ لذا حسِّن حياتك لتشعر بالرضى الداخلي.

ابحث عن الفرح فيما تفعله؛ هذا لا يعني أنَّه يجب عليك السعي وراء المتعة طوال الوقت؛ فكثير من الأشياء تجعلنا نشعر بالرضى، ومنها مثلاً أداء عملنا على نحو جيد بصرف النظر عن المتعة.

4. عش ببساطة:

لدى جميعنا القدرة على الاعتياد والتكيف مع ظروف الحياة وأنماطها شتى؛ فعندما تعيش حياةً مترفة؛ فإنَّك تعتاد على هذا النمط، وإذا عشت لاحقاً في مستوىً أقل ممَّا اعتدت عليه فإنَّك ستشعر بالألم.

أفضل طريقة لتجنب هذا الألم هي عدم تجربة الحياة الفارهة لحد التعقيد، عش ببساطة بصرف النظر عن مقدار المال الذي لديك.

إقرأ أيضاً: 10 أشياء تساعدك لتعيش حياتك ببساطة

5. ابقَ صلباً:

يمكننا أن نجعل الحياة مريحة لدرجة أنَّنا لا نضطر حتى إلى الخروج من المنزل لنعيش حياة جيدة، ويمكنك كسب لقمة العيش من المنزل، وممارسة الرياضة في المنزل، ورفع درجة الحرارة عندما يكون الجو بارداً، وطلب أيِّ طعام تريده؛ لكنَّ الراحة تجعلك هشاً، بينما الحياة صعبة؛ لذلك من الأفضل أن تكون صلباً.

بدلاً من المصعد يمكنك صعود الدرج، وحاول أن تستمر بالعمل حتى في ظل الظروف القاسية، وبدلاً من ركوب السيارة دائماً حاول التنقل مشياً وإن لمسافات قريبة، وتجنَّب اتخاذ الخيار الأسهل.

بالطبع من الجيد توفير الوقت، لكن عندما تبالغ في استثمار الوقت، فأنت تضحي بشيء آخر أكثر أهميةً، وهو صلابتك النفسية.

إقرأ أيضاً: مفهوم الصلابة النفسية وكيفية تقويتها

في الختام:

السعادة ليست عملية أو حدثاً خارجياً؛ بل هي نتيجة عيش حياة جيدة؛ لذلك إذا كنت تسعى إلى المزيد دائماً، فإنَّ حياتك ستغدو مُرهقة، وهذا ما يتعارض حتماً مع السعادة، لكن عندما تتأنى قليلاً وتركِّز على الأشياء التي تمنحك الرضى الداخلي، ستدرك أنَّ بمتناول يديك كلُّ شيء تحتاج إليه لتكون سعيداً.




مقالات مرتبطة