مرض التوحد، أسبابه، أعراضه، تشخيصه، وطرق العلاج

تنظر إليه والدته بحبّ، تقترب منه مُتمنيةً احتضانه، إلّا أنّه يركض مُسرعاً إلى غرفته حاضناً لعبته الوحيدة، مُغلقاً الباب وراءه. فتدعو والدته أولاداً إلى المنزل، بغيّة إخراجه من عزلته، إلّا أنّه يرفض التّواصل أو اللّعب معهم، مُفضِّلاً الجلوس وحيداً برفقة ألعابه. وعندما تُقرِّر العائلة الذّهاب في رحلة، وقضاء الليلة في فندقٍ ما، سيقف تغيير سرير نومه عائقاً أمام رغبتهم، وستكون موجات الغضب والانفعال سيدة الموقف حينها. هل عرفتم عمّن نتكلم؟ نعم، إنّه طفل التّوحد. فما هو التّوحد، وما هي أعراضه، وأسبابه، وتشخيصه، وطرائق علاجه؟ هذا ما سنتطّرق إليه من خلال هذا المقال.



التّوحد أو اضطراب طيف التّوحد:

اضطرابات التّوحد أو طيف التّوحد عبارةٌ عن مجموعةٍ من الاضطرابات المعقّدة في نموّ الدماغ، تتمّيز هذه الاضطرابات بمواجهة الفرد لصعوباتٍ في التفاعل مع المجتمع والتّواصل معه، ومحدودية وتكرار مخزون الاهتمامات والأنشطة لديه.

تُثبت الأبحاث أنّ الإصابة بالمرض تكون قبل سن الثالثة، وتجدر الإشارة إلى أنّ خمسين في المائة من الآباء يُلاحظون إصابة أطفالهم بالتوحّد في عمر اثني عشر شهراً، و(80-90)% من الآباء يُلاحظون إصابة أطفالهم عند إكمالهم العام الثاني.

أعراض التّوحد:

التّوحد

تكون أعراض وخصائص هذا المرض متفاوتةً في الدّرجات بين خفيفةٍ وشديدة، ومختلفةً بين طفلٍ وآخر؛ فقد يكون لدينا طفلان مصابان بالتّوحد، إلّا أنّ أحدهما عنيفٌ والآخر خامل، أي أنّهما قد يتصرّفان بشكلٍ مختلفٍ تماماً عن بعضهما، مع العلم أنّهما يُعانيان من المرض ذاته.

أمّا أكثر الأعراض التي يعاني منها طفل التّوحد، فهي:

1. صعوباتٌ في التفاعل الاجتماعي:

يرغب الطفل العادي دوماً بأن يكون بجوار والدته، ويحضنها ويتفاعل معها. الغريب أنّ طفل التوحد لا يرغب بذلك مطلقاً، فهو يتحاشى التواصل البصريّ مع والدته، فعندما تكلّمه لا ينظر إلى عينيها مباشرةً، بل ينظر إلى الأرض أو إلى مكانٍ آخر، كما أنّه يرفض أن تحضنه والدته.

وعوضاً عن تعلّقه بوالدته، يتعلّق بالأشياء؛ كالألعاب مثلاً. ويَصعُب عليه التواصل مع غيره جسدياً، ويُفضّل البقاء وحيداً على التّواصل مع الآخرين.

ويكون لدى هؤلاء الأطفال حساسيّةٌ مفرطةٌ للصوت؛ فقد يسبّب الصوت ألماً فعلياً وانعدام راحةٍ لهم، حيث يلاحظ الأهل محاولة طفلهم المتكررة إغلاق أذنيه في مواقف معينة، خاصةً في البيئات التي تحوي درجة ضجيجٍ عاليّة. وفي حال نادى عليه شخصٌ باسمه، فلن يردّ عليه؛ لأنّ لديه صعوبةً في الاستجابة للآخرين.

2. صعوباتٌ في التّواصل اللّفظي وغير اللّفظي:

يُعاني مريض التّوحد من مشكلات التأخّر في النطق؛ فيتأخّر جداً في نطق الأحرف وتركيب الجمل، أو يُعاني من مشكلات التّدهور في النطق؛ كأن يكتسب عدداً من الكلمات والمفردات والجمل، إلّا أنّه ينساها تماماً وتبدأ حالته بالتّدهور مرةً أخرى.

وقد يعاني أيضاً من أخطاءَ لغويّةٍ؛ كأن يقول عن نفسه "هو".

أمّا ما يخص التّواصل غير اللّفظي؛ فيُعاني مريض التّوحد من ضعف استخدامه للغة جسده من أجل إيصال المعلومة، كما تكون المعلومات الآتيةُ من الطّرف الآخر غير مفهومةٍ بالنسبة إليه؛ فإن ابتسم شخصٌ في وجهه، لن يبادله الابتسامة تلك.

3. الميل الكبير إلى الأنماط أو السلوكات المتكررة:

يعشق طفل التّوحد الأنماط الثابتة والمكرّرة، فإن كان يلعب بعددٍ كبيرٍ من السّيارات، فستلاحظ أنّه يرتّب السيارات الحمراء ثم الخضراء ثم الصفراء مثلاً، وإن جاء أحدٌ ما وأخلّ بهذا الترتيب وجعله عشوائياً، فسيجنُّ جنونه، ويغضب ويثور وينفعل.

كما يميل إلى تكرار الحركات؛ كأن يُصفّق بشكلٍ متكرر، أو يتأرجح جيئةً وذهاباً.

ويتعلّق مريض التّوحد بالأشياء الروتينيّة، كسرير نومه، أو نوعٍ معيّنٍ من الطّعام. وفي حال غيابها عنه، فسيصبح عدائيّاً جداً.

إقرأ أيضاً: أبرز العلامات التي تدل على إصابة الطفل بالتوحد

أسباب مرض التّوحد:

التّوحد

تُشير الدراسات إلى أنّ نسبة انتشار حالات طيف التّوحد يتراوح بين 0.5 إلى 1 بين كلّ ألف طفل، أي أنّ المرض غير منتشر بكثرة. كما تبيّن أنَّ نسبة حدوثه لدى الذكور أكبر بأربعة أضعاف من الإناث. في الحقيقة لم يُعرَف بعد السبّب الحقيقيّ وراء هذا المرض، لكن تشير الدراسات إلى أسبابٍ وراثيّة، وأخرى عضويّة، وثالثة غذائيّة، وهي:

1. الأسباب الوراثيّة لمرض التوحد:

أُجرِيت دراساتٌ عديدة على التوائم، تبيّن فيها أنّ: إخوة الأطفال المصابين بالتوحد يكونون عرضةً للإصابة بالحالة أكثر بـ (25 مرة) من إخوة الأطفال غير المصابين بالتّوحّد. والتوائم المتشابهة أكثر عرضةً للإصابة من التوائم غير المتشابهة.

إذاً قد يكون للمرض أساسٌ وراثيّ.

2. الأسباب العضويّة لمرض التوحد:

تُشير الدراسات إلى أنّ 75% من أطفال التّوحد، يعانون من التخلّف العقلي (تأخرٌ في وظائف الدماغ).

3. الأسباب الغذائّية لمرض التوحّد:

يُعاني مرضى التّوحد من اضطرابات غذائيّة؛ فهم يتقبّلون أقلّ من 20 صنفٍ من الأغذيّة، في حين يتقبّل الإنسان الطبيعي كلّ أنواع الأغذيّة، ويُركّز مرضى التوحد على إبعاد مجموعةٍ كاملةٍ من الأغذيّة؛ كأن يلغوا الخضار بأنواعها، ويميلوا إلى تناول الطعام بكمياتٍ كبيرةٍ تارةً، أو إلى تناوله بكمياتٍ صغيرةٍ تارةً أخرى.

ويعاني مرضى التوحد من مشكلةٍ في الأمعاء الدقيقة، فتكون قابلة للتسريب لديهم، لذا يَصعُبُ عليها هضم البروتينات (بالأخص بروتيني الغلوتين والكازيين) بشكلٍ كافٍ، مما يسبّب خروج قسمٍ من البروتينات إلى الدّم، وعند وصوله إلى الدماغ من خلال الدّورة الدّموية؛ ستؤدي إلى اضطراباتٍ كبيرة من: السلوكات الخاطئة، وفرط النشاط، والإدمان على مادةٍ معيّنة.

يُساعد اتباع حميّةٍ غذائيّةٍ خاليةٍ من بروتيني الغلوتين والكازيين، في التّقليل من أعراض مرض التّوحد. علماً أنّ بروتين الكازيين يتواجد في الألبان والأجبان ومشتّقاتها، ويتواجد بروتين الغلوتين في الخبز والمعكرونة والشّعير.

ولا بدّ من التّركيز على العنصر الغذائيّ: الأوميغا 3 (الموجود في السّمك)، وفيتامينات B6 للمساعدة على النموّ العقلي.

إقرأ أيضاً: نصائح غذائيّة مهمة لذوي الإحتياجات الخاصة

تشخيص مرض التّوحد:

من الضروريّ عند ملاحظة الأم والأب لتصرفات طفلهما غير الطبيعيّة، التوجّه إلى استشارة طبيب الأطفال، والذي سيقوم بجلساتٍ حواريّةٍ مُطوّلةٍ وعلى فتراتٍ مع الطفل، ويُسجِّل الملاحظات على لوحٍ رقميّ يحتوي على كلّ أعراض المرض، كأن يضع إشارةً على العرض الموجود لدى الطفل ومدى نسبته.

ويقوم الطّبيب إلى جانب حواراته مع الطفل، بالحوار مع الأم والأب كلٌّ على حدة، وبعد ذلك يُقاطِع كلّ الملاحظات التي سجّلها من الأطراف الثّلاثة، ليصل إلى التّشخيص المناسب، ومن ثمّ يقوم بتوزيع الأدوار؛ فإن لاحظ أنّ الطفل يعاني من العنف، فسيحوّله إلى طبيبٍ نفسي، أمّا إن لاحظ تأخر المهارات اللغويّة لدى الطفل، فيحوّله إلى أخصائيّ نطق.

ويكون تشخيص المرض على أنّه توحد في أيّ عمر، على أن تكون الأعراض قد ظهرت قبل عمر الثّلاث سنوات.

ومن الضروري التفريق بين اضطراب التَّوحد واضطراباتٍ أخرى؛ فالشرط الأساسيّ الموجود لدى طفل التّوحد هو ضعف التّفاعل الاجتماعي، وأن تكون أعراض المرض قد بدأت عنده قبل عمر الثلاث سنوات.

يمكن أن تتشابه اضطراباتٌ معيّنة مع اضطراب التوحد فيما يخصّ ضعف التواصل والميل إلى الأنماط المتكررة، ويؤدي هذا الأمر إلى تشخيصٍ خاطئٍ للحالة، مثل:

  • الفصام العقلي المّبكر: يختلف عن مرض التوحد بأنّه يحدث في سنٍ مبّكرة، لكن ليس شرطاً قبل عمر الثالثة، وليس من الضروري أن يعاني مريض الفصام من ضعفٍ في التفاعل الاجتماعي، لكن يتشابه مع مريض التوحد في ضعف التواصل، والعدوانيّة، والوسواس القهري.
  • الصمم الولادي: قد يؤدي عدم تكلّم الطفل نتيجة وجود مشكلةٍ في السّمع لديه، إلى تشخيص حالته على أنّها توحد. لذا يجب إجراء اختبار السّمع أولاً، قبل القيام بتشخيص المرض.

علاج مرض التوحد:

يمكن أن يشمل العلاج أنواعاً مختلفةً من تحسينٍ النطق والسلوك، وأحياناً الأدوية للمساعدة في إدارة أيّ حالةٍ طبيّةٍ متعلّقةٍ بالتوحد. تعتمد العلاجات التي يمكن أن يستفيد منها طفلك على وضعه واحتياجاته، لكن الهدف هو الحدُّ من أعراضه وتحسين تعلّمه ونموه:

1. علاج السلوك والاتصال:

  • تحليل السلوك التطبيقي (ABA): يستخدم غالباً في المدارس والعيادات لمساعدة طفلك على تعلّم السلوكات الإيجابيّة وتقليل السلوكات السلبيّة. يمكن استخدام هذا النهج لتحسين مجموعةٍ واسعةٍ من المهارات، وهناك أنواعٌ مختلفةٌ لمواقف مختلفة، بما في ذلك:
    • يستخدم التّدريب التّجريبي المنفصل (DTT) دروساً بسيطةً وتعزيزاً إيجابيّاً.
    • يساعد التّدريب على الاستجابة المحوريّة (PRT) على تطوير الدافع للتعلم والتواصل.
    • التّدخل السلوكي المكثّف المبكر (EIBI) هو الأفضل للأطفال دون سن الخامسة.
    • يركّز التّدخل السلوكي اللفظي (VBI) على المهارات اللغويّة.
  • النّهج القائم على العلاقات والاختلافات التنمويّة والفرديّة: ينطوي هذا العلاج على مشاركتك طفلك اللّعب والقيام بالأنشطة التي يحبّها. ويهدف إلى دعم النمو العاطفي والفكري من خلال مساعدته على تعّلم المهارات حول التواصل والعواطف.
  • علاج وتعليم الأطفال المصابين بالتوحد: يستخدم هذا العلاج إشاراتٍ مرئيّة مثل بطاقات الصور لمساعدة طفلك على تعلّم المهارات اليوميّة مثل ارتداء الملابس؛ حيث يتمّ تقسيم المعلومات إلى خطواتٍ صغيرة حتّى يتمكّن من تعلمها بسهولة أكبر.
  • نظام الاتصالات لتبادل الصور (PECS): هذا علاجٌ مرئيٌّ آخر، لكنّه يستخدم الرموز بدلاً من بطاقات الصور؛ حيث يتعلّم طفلك طرح الأسئلة والتواصل من خلال الرموز الخاصة.
  • العلاج بالممارسة: يساعد هذا النوع من العلاج طفلك على تعلّم مهارات الحياة مثل: التغذيّة، وارتداء الملابس، والاستحمام، وفهم كيفيّة الارتباط بالأشخاص الآخرين. وتهدف المهارات التي يتعلّمها إلى مساعدته على العيش بشكلٍ مستّقلٍ بقدر استطاعته.
  • العلاج التكاملي الحسي: إذا كان طفلك يغضب بسهولةٍ من أشياء مثل الأضواء الساطعة أو أصواتٍ معيّنةٍ أو الشعور باللّمس، فإن هذا العلاج يمكن أن يساعده في تعلّم كيفيّة التعامل مع هذا النوع من المعلومات الحسيّة.

2. علاج الأدويّة:

لا يوجد علاجٌ لاضطراب طيف التوحد، ولا يوجد حالياً دواءٌ لعلاجه. لكن بعض الأدويّة يمكن أن تساعد في الأعراض ذات الصلة مثل الاكتئاب، والنوبات، والأرق، وصعوبة التركيز.

ريسبردال (Risperdal) هو الدواء الوحيد المعتمد من "إدارة الغذاء والدواء في الولايات المتحدة" (FDA) للأطفال الذين يعانون من اضطراب طيف التوحد، ويمكن وصفه للأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 5 و16 سنة للمساعدة في أثناء التّهيج. أظهرت الدراسات أنّ الدواء يكون أكثر فعاليّة عندما يتمّ دمجه مع العلاجات السلوكيّة.

ولا ننسى العلاج بالنظام الغذائي الخالي من الغلوتين والكازيين.

إقرأ أيضاً: أهم النصائح للتعامل مع الأطفال ذوو الاحتياجات الخاصة

الفرق بين متلازمة داون والتوحد:

هناك فرقٌ كبيرٌ بين متلازمة داون ومرض التوحد.

تنتج متلازمة داون عن اختلالٍ في الجينات، بسبب زيادةٍ في عدد الكروموسومات الموجودة في الجسم، والتي تؤثر على عددٍ من وظائف الجسم، حيث تحتوي كلّ خليّةٍ على 46 كروموسوماً، في حين تحتوي خلايا المصاب بمتلازمة داون على 47 كروموسوماً نتيجةً لوجود 3 نسخ من كروموسوم رقم 21 بدلاً من نسختين.

ويمكن تشخيص هذا المرض منذ الولادة أو حتى في أثناء الحمل عن طريق عمل خريطةٍ وراثيّةٍ لخليّةٍ جنينيّةٍ مأخوذةٍ من السائل الأمنوسي. وللمصابين بهذه المتلازمة ملامح مشتركة، مثل: تسّطح الوّجه، قصر الرقبة، تسّطح مؤخرة الرأس، تشوهات القلب والأمعاء، صغر حجم الأذنين وضعف العضلات.

ويعاني المصابون بمتلازمة داون من خللٍ في أجهزة الجسم المختلفة، مثل: القلب والجهاز الهضمي والعين. ويلازمها أيضاً نقص السمع وقصور الغدة الدرقية، بالإضافة إلى صعوباتٍ في التخاطب، ومشكلاتٍ في التغذية، ومستويات ذكاء أقل.

أمّا مرض التوحد: هو مرضٌ عصبيّ غير معلوم السّبب لا يوجد له علاقة بالصبغيات، وهناك بعض التشخيصات ترى أنّ له أساساً جينياً، ويعرّف التوحد بأنّه إعاقةٌ في التطور الروحيّ الحركيّ عند الطفل، تؤثر على التواصل اللفظي وغير اللفظي والتفاعل الاجتماعي لديه، وفي ظهور اضطراباتٍ سلوكيّة متكررة. وعادة ما يُشخّص المرض خلال السنوات الثّلاث الأولى من عمر الطفل.

اليوم العالمي للتوحد:

اليوم العالمي للتوحد

يحتفل العالم باليوم العالمي للتوحد سنويّاً في اليوم الثاني من شهر إبريل، وذلك بعد اعتماد الأمم المتحدة له؛ بهدف زيادة اكتشاف الأطفال المصابين بالتوحد والتوعية بالمرض. 

شعار اليوم العالمي للتوحد: "أضيئوا اللون الأزرق".

الخلاصة:

إنّ وجود طفل التوحد في أسرةٍ ما، بمثابة اختبار لقوّة إيمانها، ولقدرة تحمّلها. والشيء الإيجابي هنا أنّه في حال تقبُّلهم الأمر، وتعزيزهم الحبّ والاهتمام تجاه طفلهم المُصاب، ولجوئهم إلى أخصائي نفسي أو شخص مُدرَّب في التعامل مع حالات التوحد؛ ستتحسن حالة الطفل كثيراً، بحيث يستجيب أكثر، ويتعلَّم ويتواصل أكثر.




مقالات مرتبطة