ما تعلمناه عن السلوك الإنساني في أثناء الجائحة

خلال فترة انتشار الجائحة، ظهرت الكثير من الافتراضات حول كيفية تصرُّف الناس خلالها؛ وكان العديد من هذه الافتراضات خاطئاً، وأدى إلى وضع سياسات كارثية.



شعرت العديد من الحكومات بالقلق من أنَّ قيودها الوقائية ستؤدي بسرعة إلى "إجهاد سلوكي" سيؤدي إلى توقف الناس عن الالتزام بها، ففي المملكة المتحدة، اعترف كبير المستشارين السابق لرئيس الوزراء، دومينيك كامينغز (Dominic Cummings) مؤخراً أنَّ هذا هو السبب في عدم تطبيق الإغلاق في البلاد في وقت مبكر.

في ذلك الحين، صرَّح وزير الصحة السابق مات هانكوك (Matt Hancock) أنَّ فشل الحكومة في توفير الدعم المالي وغيره من الدعم للناس لعزل أنفسهم يعود إلى الخوف من أن يتهربوا من اتباع هذا النظام، وحذَّر من أنَّ الأشخاص الذين ثبتت إصابتهم بالفيروس، قد يزعمون بعد ذلك أنَّهم كانوا على تواصل بجميع أصدقائهم، حتى يتمكنوا جميعاً من الحصول على المال.

تُظهِر هذه الأمثلة مدى عمق قلة الثقة بين الحكومات ومواطنيها؛ حيث صُوِّر الشعب على أنَّه جزءٌ إضافيٌ من المشكلة، لكن هل هذه نظرة دقيقة للسلوك البشري؟

يعتمد عدم الثقة هذا على شكلين من أشكال الاختزالية - وهي وصف شيء معقد عبر اختزاله إلى أمور أكثر بساطة أو أساسية - الأول هو جعل علم النفس مقتصراً على خصائص - أو إن أردنا أن نخصص: قيود - العقول الفردية، ومن وجهة النظر هذه، فإنَّ النفس البشرية ليست كاملة بطبيعتها؛ حيث تحيط بها التحيزات التي تشوِّه المعلومات، ويُنظر إليها على أنَّها غير قادرة على التعامل مع التعقيدات والاحتمالات والشك، وأنَّها تميل إلى الذعر في الأزمات.

شاهد بالفديو: حقائق عليك أن تخبرها لكل شخص لا يكترث لفيروس كورونا

تجذب هذه الفكرة من هم في مركز السلطة، فإنَّ التأكيد على عدم قدرة الناس على أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، يبرر الحاجة إلى حكومة كي تعتني بهم، وتؤيد العديد من الحكومات هذا الرأي؛ حيث  أنشأت ما يسمى بوحدات التنبيه (Nudge Units)، وهي مجموعة من الفِرق المتخصصة بالعلوم السلوكية والمكلَّفة بالتلاعب بالناس لاتخاذ القرارات "الصحيحة" ، دون أن يدركوا كيف، بدءاً من تناول كميات أقل من السكر ووصولاً إلى تقديم ضرائبهم في الوقت المحدد، لكن أصبح من الواضح وضوحاً متزايداً أنَّ فاعلية هذا النهج محدودة، فقد أظهرت الجائحة أنَّ هذه الإجراءات خاطئة، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالسلوك في أزمة.

أظهرت الأبحاث في السنوات الأخيرة أنَّ فكرة ذعر الناس في أزمة ما هي بمنزلة خرافة؛ حيث يستجيب الناس عموماً للأزمات استجابة دقيقة ومنظَّمة، فهم يعتنون ببعضهم بعضاً.

العامل الرئيس وراء هذا السلوك، هو الحاجة إلى الشعور بالهوية الجماعية؛ فعندما تمتد ذواتنا لتشمل الآخرين، فهذا يساعدنا على رعاية من حولنا وتوقع المساعدة منهم، فلا يمكن اختزال المرونة إلى صفات فردية؛ وإنَّما تظهر في سلوك المجموعات.

إقرأ أيضاً: الإجراءات الصحية ضد الأوبئة: وباء كورونا مثالاً

المشكلة المرتبطة بالنفسانية (Psychologism):

تتبنى الحكومات نوعاً آخر من الاختزالية التي تُعرَف بالنفسانية (Psychologism)؛ وذلك عندما تختزل تفسير سلوك الناس إلى علم النفس فقط، بينما توجد العديد من العوامل الأخرى التي تفسر ما نقوم به، فنحن نعتمد على المعلومات والوسائل العملية، كالمال على وجه الخصوص، لتقرير ما يجب القيام به، وللتمكُّن من القيام به.

باختزال الناس إلى علم النفس فقط، تصبح جميع أفعالهم نتيجة خياراتهم الشخصية فحسب، فإن أصبنا بالعدوى؛ فذلك لأنَّنا اخترنا التصرف بطرائق أدت إلى الإصابة: قررنا الخروج والتواصل الاجتماعي، وتجاهلنا النصائح بشأن التباعد الجسدي.

ركزت الحكومة في المملكة المتحدة على فكرة المسؤولية الفردية وإلقاء اللوم على الناس طوال فترة الجائحة، فعندما ازدادت حالات الإصابة في خلال فصل الخريف، ألقت الحكومة الَّلوم على الطلاب الذين كانوا يقيمون الحفلات، حتى أنَّ "هانكوك" حذَّر الشباب بقوله: "لا تكونوا سبباً في موت مَن هم أكبر سناً"، وأصبح التركيز على ما يجب على الناس فعله أقوى بما أنَّ الحكومة تفكر في إلغاء جميع القيود، وكما قال رئيس الوزراء مؤخراً: "نحن نريد أن نثق بالناس؛ ليكونوا على قدر المسؤولية ويفعلوا الشيء الصحيح".

تتجاهل مثل هذه الافتراضات حقيقة أنَّه، خلال أوقات حرجة من الجائحة، لم ترتفع نسبة العدوى لأنَّ الناس يخالفون القواعد؛ بل لأنَّهم كانوا يطبِّقون نصائح أخرى تحثُّهم على الذهاب إلى العمل أو تناول الطعام في الخارج، وإذا خالف الناس القواعد، فعادةً ما يكون ذلك بسبب عدم وجود خيار آخر لديهم، ففي العديد من المناطق، كان الناس غير قادرين على العمل من المنزل، وكان عليهم الذهاب إلى العمل ليكسبوا قوت يومهم.

وبدلاً من معالجة هذه القضايا ومساعدة الناس على حماية أنفسهم والآخرين، فإنَّ إلقاء المسؤولية على عاتق الأفراد يلقي باللوم على الضحية؛ بل ويزيد الضرر على الفئات الضعيفة، مما يقودنا إلى نقطة حرجة، وهي أنَّ القضية الأساسية في عدم ثقة الحكومة بالناس وعلم النفس الفردي، تكمن في أنَّها تخلق مشكلات عسيرة.

إقرأ أيضاً: 7 طرق لحماية عائلتك من الفيروسات والأمراض

خلق أزمة:

افترضت حكومة المملكة المتحدة أنَّ الضعف المعرفي لدى الناس، سيؤدي إلى التزامٍ أقل بالتدابير اللازمة لمكافحة فيروس كورونا، لكنَّ الأدلة أظهرت أنَّ الالتزام كان مرتفعاً؛ بسبب الشعور بالانتماء للمجتمع، باستثناء المناطق التي يصعب الالتزام فيها بالإجراءات دون توفر الوسائل الكافية، وبدلاً من التأكيد على المسؤولية الفردية وإلقاء اللوم؛ فإنَّ الاستجابة الناجحة للجائحة تعتمد على تعزيز ترابط المجتمع وتقديم الدعم.

ولكن هنا تكمن المشكلة، فإذا أخبرتك الحكومة باستمرار أنَّ المشكلة تكمن فيمن حولك، فإنَّها تقوض ثقتك بأقرانك في المجتمع والتضامن معهم؛ وهو ما يفسر سبب قول معظم الناس 92٪ إنَّهم يلتزمون بالقواعد، بينما لا يفعل الآخرون ذلك.

في نهاية المطاف، إنَّ أكبر تهديد للسيطرة على الجائحة يكمن في عدم قدرة الأشخاص على الخضوع للفحص بمجرد ظهور الأعراض عليهم وعزلهم عن الآخرين؛ حيث إنَّ توفير الدعم الكافي للعزلة أمر بالغ الأهمية، وهكذا، من خلال التقليل من أهمية الحصول على الدعم، فإنَّ إلقاء اللوم على عامة الناس يعزز انتشار الجائحة، وفي الواقع أدت مثل هذه الافتراضات بالحكومة إلى إهدار أهم عامل لدينا للتعامل مع أزمة، وهو وجود مجتمع موحَّد في إطار تقديم المساعدة المتبادلة.

المصدر




مقالات مرتبطة