لماذا يجب أن نختار كلماتنا بحكمة؟

ذات يوم كنت أنا ومعالجي نتناقش كيف شكَّلت طفولتي بعضاً من المنظورات الحالية الخاصَّة بي عن العالم، وبعض المتغيرات النفسية النموذجية. بدأتُ أتحدَّث كيف أنَّني كنت دائماً مدركاً لكوني "عنيداً"، لكنَّني تحسَّنت على مرِّ السنين؛ وكيف أنَّ الجميع -بدءاً من والداي، ووصولاً إلى أساتذتي- استخدموا هذه الكلمة معي؛ حتَّى أنَّ برجي يتَّصف بذلك، فأنا من برج الثور.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذٌ عن تجربةٍ شخصية للمدون أليكس السحامي (Alex El sehamy)، الحاصل على شهادة الدكتوراه في الطب، والذي يخبرنا فيه عن تجربته مع اختيار الكلمات.

في النهاية، وصلنا إلى نقطةٍ كنت أتساءل فيها عن معنى هذه الكلمة، ولأنَّنا كنَّا نعقد جلسة العلاج افتراضياً في ظلِّ عالم التباعد الاجتماعي الذي نعيشه اليوم، فقد أسرعتُ للتحري عن الأمر.

عنيد: صفة، وغالباً ما يكون المتَّصف بها معترضاً ومصمِّماً على ألَّا يغيِّر رأيه أو موقفه. كم كنت مريعاً! يبدو كما لو أنَّني كنت بحاجةٍ إلى أن أكون مصيباً بأيِّ ثمن، كما يبدو أنَّ هدفي كان أن أصبح متشدداً وعنيداً وصعب المراس.

في عام 2013، قام باحثون من كندا بتحليل وثائق أطباء الأطفال من أجل تقويم الروايات الوصفية المحيطة بتجربة الألم الذاتية، واكتشفوا أنَّه بينما استُخدِمت كلمة "ألم" على نطاقٍ واسع، إلَّا أنَّ بعض الأطباء استخدموا كلمة "عدم ارتياح" بدون أيِّ تفرقةٍ واضحةٍ بين الكلمتين. تساءل هؤلاء الباحثون عن مقدرة الأطفال على التفريق بين هاتين الكلمتين؛ طبعاً، في حال تساءل هؤلاء الأطباء صراحةً في المقام الأوّل.

اكتشفت دراسةٌ سابقةٌ أجراها باحثون في المركز الطبي في جامعة نبراسكا (Nebraska Medical Center) أنَّه وعلى الرغم من أنَّ الأطباء والممرضين لديهم فهمٌ مشتركٌ لمستوى شدة الألم المقصود بمصطلحاتٍ مختلفةٍ مثل: وجع، وضرر، وألم؛ إلَّا أنَّه يوجد تناقضات في تقويمات الألم بين المرضى ومسؤولي الرعاية الصحية.

لطالما وثقتُ باللغة والكلمات وأهمية التواصل، لكنَّني أثق بتفهُّمكم كيف أنَّني فقدت فجأةً إيماني بها. أنا أقدِّر جهود العلماء الأكاديميين في تحليل الألم الجسدي، ولكن ماذا عن الألم النفسي؟ هناك مجموعةٌ بحثيةٌ تتناول ما يسمَّى: لغة الحالة الداخلية (ISL)، وهو مصطلحٌ يبدو أنَّه مؤشرٌ فريدٌ من نوعه، ويتعلَّق بتطوير استيعاب الطفل الاجتماعي والعاطفي.

إقرأ أيضاً: فيروس كوفيد-19 والحزن الذي نتج عنه

وجد الباحثون أنَّ "التواصل الأعمق مع الأمِّ" (maternal communication) وإدراج مزيدٍ من الملاحظات "المتعلِّقة بالعقل" يمكن أن يزيد من اتساع نطاق لغة الحالة الداخلية للطفل في السنة الثانية من حياته؛ وإنَّ لغة الحالة الداخلية هذه مرتبطةٌ أيضاً بدرجةٍ كبيرةٍ بأسلوب الربط، حيث يُظهِر الأطفال الآمنون المرتبطون بآبائهم لغة حالةٍ داخليةٍ أكثر إيجابيةٍ وموجَّهةً معرفياً؛ بينما يُظهِر الأطفال الانعزاليون غير الآمنين لغة حالةٍ داخليةً أكثر سلبية.

اللغة هامَّة جداً، بحيث أنَّ الأطفال الذين لديهم ضعفٌ في اللغة يُظهِرون صعوبةً أكثر في معرفة متى يكون إخفاء العواطف في المواقف الاجتماعية المخيِّبة أمراً مناسباً. تتكاثف الحبكة، وهذا يعني أنَّ اللغة والتعاطف قد يكونان متشابكين كرقصةٍ حساسة؛ وهذا أمرٌ منطقيٌّ بالنظر إلى وفرة الأبحاث حول الأسر التي تعبِّر عن مشاعرها كثيراً.

تُقاسُ العاطفة المعبَّرة (EE) من خلال خمسة أبعاد:

  • التعليقات النقدية.
  • التعليقات الإيجابية.
  • الخصومة.
  • الدفء.
  • العاطفة التعبيرية المفرطة.

أظهر المراهقون المكتئبون، والذين ينحدرون من أسرٍ لديها عاطفةٌ تعبيريةٌ مفرطةٌ، أعراض اكتئابٍ أكثر وأداءً اجتماعيَّاً أسوأ من أولئك الذين ينحدرون من أُسَرٍ لديها عاطفةٌ تعبيريةٌ منخفضة؛ كما أظهر الأطفال الذين يعانون من القلق الاجتماعي تحسُّناً عندما جرى تدريب آبائهم ذوي العاطفة التعبيرية العالية؛ بينما الأسوأ حظاً كانوا الأطفال الذين ينحدرون من أسرٍ لديها عاطفةٌ تعبيريةٌ عالية، حيث أظهر هؤلاء أفكاراً وخططاً ومحاولاتٍ انتحاريةً أكثر وحالات إيذاءٍ للذات غير ناتجةٍ عن مرضٍ عقلي، وقد ترافق النقد تحديداً مع هذه الأنواع من الأفكار والسلوكات، بينما لم يترافق الإفراط في المشاركة العاطفية المفرطة مع أيٍّ منها.

لن أتحدَّث عن الماضي، ولكن أودُّ أن أقول أنَّ والداي أظهرا لي مزيجاً من المشاعر التعبيرية (EE) عالياً ومنخفضاً، ولست متأكداً أيَّاً منهما يمكن أن يكون قد لعب دوراً سلبياً في ما أنا عليه اليوم، ولكن لسببٍ ما لا يمكنني التخلُّص من تصنيفي كشخصٍ "عنيد"؛ أفترض أنَّ هذا نقد، ومع ذلك، ليس من الحقيقي أنَّ والداي كانا ينتقدان، بل ربَّما يتعلَّق الأمر باختيار الكلمة.

هل يعني كونك "عنيداً" فعلاً أن تكون على حق؟ أم أنَّه يتعلَّق بتقدير الذات وإثبات من تكون؟ هل يمكن للطفل حتَّى أن يعي الاختلاف فيما بينهما؟ بالحديث عن الماضي، انتهزتُ هذه الفرصة للبحث في حكمة الفلاسفة العظماء في عالمنا؛ كان لودفيغ فتغنشتاين (Ludwing Wittgenstein) فيلسوفاً درس فلسفة اللغة عن كثبٍ في أوائل القرن العشرين، وكان لعمله تأثيرٌ في الفلسفة والكتابة، وحتَّى في المواضيع الهامشية في الطب النفسي.

كتب "فولفجانج هويمر" (Wolfgang Huemer) من جامعة بارما في كتابه الصادر عام 2004: "إنَّه يُزعَم أنَّه يمكننا حلُّ هذه المشاكل، فمثلما يشفي المعالج مرضاه بتعريفهم على مصدر مرضهم، كذلك يمكننا حلُّ هذه المشاكل اللغوية من خلال جعل المخاطر المتأصلة في لغتنا واضحة، ومن خلال إظهار أنَّ "الأوهام النحوية" هي المصدر الحقيقي لمعظم المشاكل الفلسفية".

إقرأ أيضاً: الاكتئاب عند الأطفال، أسبابه، أعراضه، وطرق علاجه

لقد تعلَّمت من أكون، وذلك من خلال الاستماع إلى كلمات الآخرين؛ وبمساعدة معالجي النفسي أصبحت الآن شخصاً قادراً على التفكير في هذه الفروقات الدقيقة، قبل أن أدع مجالاً لهذه الفروقات لتثير أيَّ نوعٍ من الاستجابة اللا إرادية فِيَّ. لذا، أقترح التفكير ملياً في الكلمات التي نستخدمها مع أطفالنا، حيث يمكن أن يكون لهذه الخيارات آثارٌ دائمةٌ على طريقة رؤية أطفالنا العالم، فلربَّما يمكننا أن نجد مصدر آلام أطفالنا إذا قمنا بتدقيق الأخطاء المتأصلة في لغتنا.

 

المصدر




مقالات مرتبطة