لماذا قد يعاني مرضى اضطراب الشخصية الحِدِّي من العديد من حالات الهجر؟

لماذا قد يعاني مرضى اضطراب الشخصية الحِدِّي من العديد من حالات الهجر؟ سنأخذ مثالاً بسيطاً لتوضيح فكرة هذه المقالة.



تخيَّل أنَّك تعرَّفتَ إلى شخص انضمَّ إلى فريق العمل قبل عامين، وتشاركتما العمل في المكتب ذاته؛ فقد كان الوجود قربه مبهجاً للغاية، حيث كان لطيفاً وكريماً ومضحكاً، ويسعد مَن حوله دائماً، وسرعان ما أصبحتما صديقين واحترمتما هذه الصداقة حقاً.

لكن في بعض الأحيان، كان يغتاب بعض زملائكما ويشتمهم، وفوجِئتَ في كثير من الأحيان بأنَّه كثيراً ما فعل ذلك بطريقة صارخة، إن لم تكن سيئة؛ حيث بدت هذه التصرفات غير متوافقة مع نظرتك إليه كشخص لطيف عموماً.

وذات يوم اشتعلَ غضباً فجأة بالقرب من آلة صنع القهوة قائلاً: "هل حقاً استخدمتَ الماء الساخن كله ولم تملأ الوعاء مجدداً؟ هل أنت جاد؟"، لقد كان يصرخ بنبرة أكثر جدية مما توقعت، ولكنَّك ابتسمتَ له رغم ذلك، معتقداً أنَّه يمزح، إلا أنَّ عينيه اللتين تنظران إلى عينيك مباشرةً تشيران إلى خلاف ذلك تماماً؛ فهو كان يستشيط غضباً في تلك اللحظة.

ومن تلك اللحظة فصاعداً، بدا أنَّ لديه ثأر كبير معك؛ فهو يرفض الاعتراف بوجودك في التفاعلات اليومية، ويشتكي من أفعالٍ لم تشارك أنت فيها حتى أمام مشرفك وزملائك الآخرين، وأصبح الآن يخيفك؛ لذا تُقرر أن تنأى بنفسك عنه قدر الإمكان، حتى إنَّك فكَّرتَ في التقدم لوظائف أخرى؛ فأنت لا تريد أن يربطك أي رابط به مرة أخرى على الإطلاق.

إقرأ أيضاً: الاضطرابات النفسية حسب تصنيف الجمعية الأمريكية للأطباء النفسيين

اضطراب الشخصية الحِدِّية والعلاقات الاجتماعية:

شخصية البشر مرنة للغاية، ويمكِن أن تتغير كثيراً؛ فالشخصية الحدية هي واحدة من الاضطرابات الرئيسة في الشخصية التي تُعزى إلى المشكلات التي تنشأ في أثناء التطور، وتتميز بالميل إلى التأرجح السريع وغير المتوقع في كثير من الأحيان بين الحب والكراهية للآخرين، وضعف التنظيم العاطفي، والمشكلات المستمرة في العلاقات الشخصية.

بالعودة إلى المثال أعلاه، يبدو أنَّ ذلك الشخص مثال نمطي عن المصاب باضطراب الشخصية الحِدِّي، حيث يتأرجح بين الحب والكراهية بسرعة كبيرة، ولا يمكِن التنبؤ بتصرفاته اجتماعياً، ويبدو أنَّ عدم قدرته على تهدئة مشاعره يقف عائقاً أمام حتى أقوى علاقاته.

باختصار، يميل الأشخاص المصابون باضطراب الشخصية الحدي إلى التعرض لمشكلات اجتماعية كبيرة، وإلى التسبب في مشكلات اجتماعية في علاقات تكون متناغمةً تماماً عادةً.

إقرأ أيضاً: الشخصية السيكوباتية: تعريفها، وسماتها، وأسبابها، وطرق علاجها

علم النفس التطوري للهجر والشخصية الحدية:

في دراسة حديثة عن سيكولوجيا الهجر، عمدَت عالمة النفس "آني سونغ" (Annie Sung) ومعاونوها عام 2021 إلى البحث عن المؤشرات النفسية التي تؤثر في عدد حالات الهجر التي يتعرض لها المرء في الحياة، حيث وجدَت الأبحاث السابقة حول هذا الموضوع أنَّ عدد الأشخاص الذين ينفصل المرء عنهم تماماً يرتبط بأسباب مثل: ضعف الدعم الاجتماعي، والتعلق الشديد بالآخرين، والميول الاكتئابية، والنهج المضطرب في التعامل مع الآخرين. باختصار، يبدو أنَّ عدد حالات الهجر التي يمر بها المرء في الحياة هو مؤشر على الأداء النفسي والاجتماعي الضعيف في المجالات جميعها.

من منظور تطوري، من المنطقي أنَّ الأشخاص الذين يعانون من الكثير من حالات الهجر لديهم مجموعة متنوعة من المشكلات الأخرى في الحياة؛ ففي النهاية، عشنا خلال فترة طويلة من تاريخ التطور البشري في مجموعات صغيرة متماسكة لا يزيد عددها عن 150 شخصاً، فهم مضطرون بذلك إلى التعامل والاعتماد على بعضهم طوال حياتهم، ومن المؤكد أنَّ وجود علاقات سلبية شديدة الحدة مع عدد صغير منهم -أي شديدة بما يكفي لتؤدي إلى انفصالك عنهم مدى الحياة- سيكون له عواقب سلبية طويلة الأمد يمكِن أن تُهدِّد بقاء المرء على قيد الحياة و/ أو استمرار نسله. من هذا المنطلق، فإنَّ فهم مؤشرات الهجر الاجتماعي أمر بالغ الأهمية لفهم العوامل التي تؤثر في عافية الإنسان وصحته العقلية.

بناءً على البحث الحالي الذي أجرته "سونغ" عام 2021، ظهرت الميول الحدية كمؤشر كبير وهام على عدد حالات الهجر في حياة المرء، ولهذه النتائج آثار هامة في فهمنا لاضطراب الشخصية الحدية ولدور التباعد الاجتماعي في فهم الصحة العقلية.

الخلاصة:

يؤدي الهجر الاجتماعي إلى إحداث الخراب على مستوى الفرد والمجتمع؛ لهذا السبب، تطور البشر ليكونوا حساسين للغاية للقضايا المتعلقة بالهجر، ويساعد فهم المؤشرات المسببة للهجر الاجتماعي في فهم العوامل العاطفية التي تكمن وراء الصحة العقلية ككل.

 

المصدر




مقالات مرتبطة